رمضان

د. رمضان خميس يكتب: كن مع الحق لا الأشخاص

 

ربى القرآن المسلمين على اتباع المنهاج  لا الأشخاص، وتتبع الحق لا الرجال، ولذا يقول الصوفي السالك والرباني المربي الإمام القشيري رحمه الله: «ليست العبرة بما يلوح في الحال، إنما العبرة بما يؤول إليه في المآل». لطائف الإشارات : (1/ 587).

وهو هو -رضي الله- عنه وأرضاه يبين لنا مدى سقوط العالم عندما يترك هدايات السماء وينسلخ منها فيقول: «موافقة الهوى تنزل صاحبها من سماء العز إلى تراب الذل، وتلقيه في وهدة الهوان ومن لم يصدق علما فعن قريب يقاسيه وجودا»، وصدق والله فلا يذل الأعناق مثل اتباع الهوى، وما راءٍ كمن سمعا.

ولقد ساق الله تعالى مثالا حيا لمن تخلى عن الآيات البنيات، والهدايات الربانية وجسّده في صورة حية، تبقى للناس ما بقي الليل والنهار؛ ذلك أن تكرار هذا النموذج مستمر في حياة الناس، ولم يخل منه جيل من الأجيال ممن باع دينه بعرض من الدنيا زائل، وكل ثمن يقابل التنازل عن الهداية قليل، والمساوم به خاسر، مهما حصل من الدنيا مالا ومتاعا ومناصب وأعمالا، ولذا عنيت الآيات في خواتيمها بهذا المعنى الخالد: «من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون» (الأعراف: 178).

إذا فهمنا الميزان بان العنوان ،،، وإذا اتفقنا على المعيار سهل البيان،،، ولا بيان بعد القرآن ولا ميزان غير ميزان الحكم العدل العزيز الحكيم.

 

وقد يطرأ في الذهن ويتوارد على الخاطر هل يجوز شرعا وصف الآدمي بالكلب، بل وصف العالم الذي حفظ القرآن في صدره، واستظهر السنة في قلبه، وحاز المتون والفنون، واستوعب الأصول وطلب الوصول، هل يجوز وصف هذا العالم المعمم والشيخ المطمطم الذي يرجوا الناس دعاءه ويتمسحون في جبته وقفطانه، أو يسيرون في ركابه.

هل يمكن أننا خدعنا في عمائم كبيرة وأسماء رنانة  هل تاهت منا القِبلة وضل من بين يدينا الطريق، فأصبحنا في متاهة بين أسماء تقول مالا يُعقل أو لا تعقل ما تقول؟؟

هل يمكن أن يتنزل العالي؟ ويتسفل السامق؟ ويتدنى الكبير الذي كنت تعده لنصرة الإسلام وعز المسلمين؟ وما السبب؟

وإذا توقفنا مع هذا النموذج الحي الذي يصوره القرآن بصورة حية لا تتخطاها العين ولا تتجاوزها النفس البشرية رأينا فيها إعجازا قرآنيا يتجدد ولا يتبدد، ويكاد يشي بنماذج في أذهان القارئين وخواطرهم، وتلك عظمة القرآن الخالد خلود الزمان والمكان، والباقي ما بقي الليل والنهار، ولندع الآيات كاملة تعرض هذا النموذج لنطابق بينه وبين الواقع المعيش الذي نكتوي بناره وسعاره، ممن تنزلوا إلى بعيد، وهبطوا إلى سحيق، وغابوا عن هدايات القرآن وأمانة العلم، وانسلخوا منها كما ينسلخ الإنسان من جلده، يقول تعالى: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين» (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176)» (سورة الأعراف: 175، 176).

وأول ما يلوح لنا هنا تعبيرات القرآن الباهرة القاهرة، فتراها تعبيرات عجيبة رهيبة تكاد تشي بالهابطين الناكثين، فيقول القرآن (نبأ) بدل خبر والنبأ لا يكون إلا في الشيء العظيم المهول، ذلك أنه إذا ضل العالم ضل بضلاله كثيرون وانخدع بخداعه كل من يأتم به ويهتدي بهداه فهذا أمر ليس سهلا بل هو خطير عليه وعلى الأمة كلها.

كما ترى إعجاز القرآن البلاغي في (آتيناه آياتنا) بما يشعر بالمن والفضل من الله تعالى، وأنه هيأه ومنحه نعمة لا يستهان بها، وفي قوله آياتنا ما يشعر بالعظمة وإسنادها إلى الله تعالى فيه من الفخامة والإكرام ما فيه، لكنها انسلخ منها بما يشعر بأنه كان متلبسا بها، كما ينسلخ الإنسان من جلده ليس بسهولة بل بمشقة ولكن حب المال والمنصب والجاه والسلطان والشهرة والشهوة تدلى به فهوى.

ويأتي تصوير القرآن له بأنه كالكلب، وهنا يأتي السؤال: لماذا الكلب والكلب خاصة،

 فترى في كلام المفسرين عجبا يكاد يكشف شخوص الغاوين ويعريهم ويفضح خبيئاتهم، إن (من أخلاق الكلب التعرض لمن لم يُخفْه على جهة الابتداء، ثم الرضاء عنه بلقمة، كذلك الذي ارتد عن طريق الإرادة يصير ضيق الصدر، سيء الخلق، يبدأ بالجفاء كل بريء، ثم يهدأ طياشه بنيل كل عرض خسيس) لطائف الإشارات.

فهل هذا الذي تردي من شاهق وهبط من سامق يتعرض لمن لم يُخفه من البداية وأمنه على نفسه ومنصبه ومكانته، وتناسى مساندته للباطل ومعاندته للحق، وهل يصير من أخلاقه سوء الخلق والبدء بالجفاء ثم الهدوء عندما يعطى العرض الخسيس إن القرآن يكاد ينطق بالأسماء لولا سننيته الماضية وخلوده الباقي عبر الزمان والمكان، فوالله لكأن هذه الصفات تنطبق على أناس نعاينهم ونسمع أخبارهم، وكنا ندعو لهم بالهداية حتى لجوا في الغواية «ومن يضلل الله فما له من هاد» (الرعد: 33).

والآيات الكريمة وإن كانت نازلة في أسباب معينة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى الجمهور؛ خاصة أن القرآن عندما يسوق مثلا تراه قاعدة مطردة ومتجاوزة للزمان والمكان والأشخاص، متى اشتركت الصفات وتعددت الخصال.

 قال عطاء عن ابن عباس: في صاحب هذا المثال: «أعان أعداء الله على أوليائه» التفسير البسيط (9/ 461).

فهل تكرر هذا في زماننا، وأعان هؤلاء أعداء الله على أوليائه على الرغم من وضوح الحق وتبيان الطريق؟ اللهم نعم وإنا على هذا من الشاهدين.

(وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها. ويعلن غيرها. ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعا!) الظلال.

إن هؤلاء علموا وكأنهم ما علموا، وارتقوا في مناصب وكأنهم ما ارتقوا، لقد كنت أعد بعضهم لو صبر وصابر أن يكون من المجددين وكنت أعد آخر من الخالدين، وثالث ورابع وخامس ويمتد الطابور ويتكاثر العدد كما يتكاثر الذباب على جيفة منتنة:

خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا

رزقوا، وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا

وإذا قلت حافظ، وعالم، وأديب وفقيه وفيلسوف ومفسر ووو... قلت تمهل:

قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يقتضي

فقلت: لما لم يكن عاملا ... تعارض المانع والمقتضي

فكيف يتساوى هذا في الميزان مع الكلب فمن الكلاب صَيّادٌ وحراسٌ!! لقد فضل الله تعالى العامل حتى من الكلاب، فأباح الإفادة منها إذا كان كلب صيد مُعلمًا، فقال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»، (المائدة: 4).

ولذا فالمبادئ والقيم العليا أولى بالاتباع وليس الأشخاص.

أسأل الله لي ولكم الثبات والستر والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم