Business

العشر الأواخر تجدد أشواق العابدين

في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ لا تهدأُ أشواقُ الموفَّقِينَ إلى الجنَّةِ، ولا يهدأُ سعيُهُم الطهورُ رغم أن الأبدانَ بدأتْ تشعرُ بالإرهاقِ وشيءٍ من الضعفِ، ولكنَّ السلعةَ غاليةٌ، والثمن مهما كان مرهِقًا فهو بالنسبة لها غير مكافئٍ بكلِّ المقاييس؛ لهذا تنشطُ الأبدان، وتغمرُ هِمَمَ الطائعين لواقحُ مباركةٌ من المثابرةِ والجدِّ وطولِ المِرَاسِ.

وفى هذه الدراسة، يرصد الباحث حسين شعبان وهدان كيف تتجددُ أشواقُ السائرين إلى اكتناز الأجورِ الغاليةِ المتبقيةِ من رمضان، كأنَّ طاقةً جديدةً قد تولَّدتْ لديهم وهم يقاربون على الوصول إلى منتهى الطَّريق؛ فزادت همَّتهم، وأُوقدت- من جديدٍ- عزيمتُهم، فلا تراهم إلا حافِلينَ بتنظيم شعث النَّفس، وضَبْطِ الخُطى في ميدان العبادة على صِرَاطٍ مستقيمٍ من الجد والمثابرة واليقين.

 

من صور اجتهاده ﷺ

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «كان رسولُ الله ﷺ يجتهدُ في العشر الأواخر، ما لا يَجتهد في غيره».

كان يُحيي الليلَ بالعبادةِ، ويوقظ أهلَه، ويعتزلُ نساءه، كما أخبرَتْ أمُّ المؤمنين أيضًا: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر أحيا الليلَ، وأيقظ أهلَه، وجدَّ وشدَّ المئزر»، وبمثل ذلك أَخبر عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشرُ أيقظ أهلَه، ورفع المئزرَ، قيل لأبي بكرٍ: ما رفع المئزر؟ قال: اعتزل النساء».

 ومع تَلَمُّسِ مذاقِ طعوم العبادات بالبدن والقلب ونَيل المنى مِن نفحاتها، يزدادُ المؤمن على مولاه إقبالًا يزيد النَّجِيَّ تآلفًا، والبعيدَ تلطُّفًا، وتسافرُ الأشواقُ بالقلوبِ حتى تهيمَ حولَ عرشِ الرحمن في رحلات إيمانية متنقلة بين غُدَوِّها وروَاحِها، وضُحاها وأصائِلِها، ولياليها الحِسان.

فتارةً يأنسُ بالذِّكر والوصلِ بعد الفجر؛ حتى ينال أجرَ الحجِّ والعمرة المبشِّرَ به قولُ النبي الكريم ﷺ: «مَن جلس يَذكرُ اللهَ بعدَ صلاةِ الفجرِ حتى تطلُعَ الشمسُ ثم يصلِّي ركعتينِ، له أجرُ حجَّةٍ وعمرةٍ تامَّتَينِ».

ومن بعدها الحرص على صلاة الضحى بانتظامٍ يُنبئ عن حُسن إيمان؛ فقد قال النبي الكريم ﷺ لسيدنا أنس: «يا أنسُ، صلِّ صلاةَ الضُّحى؛ فإنَّها صلاةُ الأوَّابينَ»؛ ومن حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسولَ الله ﷺ أتى مسجدَ قباء، فإذا قومٌ يصلُّونَ صلاةَ الضُّحى، فقالَ: «صلاةُ رغبةٍ ورَهبةٍ، كانَ الأوَّابونَ يصلُّونَها حينَ ترمَضُ الفصالُ».

ومن صور التعبُّد التي لا يَنبغي تركها في العشر الأواخر مِن رمضان: دوام التصدُّق على قدر الطاقة؛ فإنَّ الصدقة دليلٌ ظاهرٌ على صِدق الإيمان، وهي فتح إيمانيٌّ مِن الله للعبد، ويكفي في فضلها أنها تطفئ غضَبَ الربِّ؛ فقد قال النبي الكريم ﷺ: «الصَّدقةُ تُطفئُ غضَبَ الرَّبِّ، وتدفَعُ مِيتةَ السُّوءِ».

 وحريٌّ بالمؤمن أن يغتنم الفرصةَ وينوِّعَ مِن الصدقات ما بين مالٍ ومطعومٍ وملبوسٍ وغيرها من صور النفع؛ لكفاية الفقراء والمعوزين عن الحاجة في قابل أيام العيد، فكلَّما عمَّتِ الفائدة وزاد النفع لأهل الحاجات؛ زاد الأجرُ والثواب.

 

عبادات مستمرَّة وعبادات متجدِّدة

فمن العبادات المستمرَّة أن يحافظ الصَّائمون على حضور الجماعات، وتلاوةِ القرآن، وحضورِ مجالس العلم ومجالس الذِّكر، والصَّدقات وزيارة المرضى، وصِلَة الأرحام وإكرام الجيران، وقيام الليل وإطعام الطعام، وغيرها مِن العبادات التي يتعانق فيها الإيمان مع تطلُّعات القلوب الأوَّابَةِ إلى ربها.

   وفي العشر الأواخر ينشطُ العابدون بالهمَّة والاستعداد مِن جديد؛ فالهمَّةُ طريقُ القِمَّة، وزيادة على قيام الليل الذي يَعمرون به المساجد من الليل في أوله فإنهم يزيدون مِن همَّتهم بالتهجُّد، وهو صلاة يسبقها نوم، ويكون في آخر الليل قبل السحور بوقتٍ يشبع الروح ويملأ القلب ريًّا، قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، وقال تعالى وصفًا عن المتقين: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17]، وقال عن عباد الرحمن: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان: 64]، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: تهجَّد النبيُّ ﷺ في بيتي، وتهجَّد عبَّاد بن بِشر في المسجد، فسمع النبيُّ ﷺ صوتَه، فقال: «يا عائشة، هذا عبَّاد بن بشر، اللهمَّ ارحم عبَّادًا».

 ومن صور الاجتهاد المأثورة في العشر الأواخر عن خير البشَر ﷺ ما أخبرَتْ به عائشةُ رضي الله عنها قالت: «إنَّ النبي ﷺ كان يَعتكف العشرَ الأواخر مِن رمضان حتى توفَّاه الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ اعتكف أزواجُه من بعده».

 وكان ﷺ يرتقب ليلة القدر في العشر الأواخر، وأمر أصحابَه بذلك؛ كما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّ رسول الله ﷺ قال: «مَن كان ملتمسها فلْيَلتمِسْها في العشر الأواخر».

 وليحرص الصائمون تمامَ الحرص على بَذْل زكاة الفِطر خلال العشر الأواخر؛ حتى تعمَّ الفائدة، وتدور أخلاف العطاء على الفُقراء والمساكين؛ ليستطيعوا تدبيرَ ما يحتاجون إليه قُبيل العيد؛ وبهذا يقتسم الأغنياء والفقراء طعمَ الفرحة بينهم؛ فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان يُخرجُ صدقةَ الفطرِ قبل أنْ يخرُجَ... عن ابنِ عمرَ بطولهِ...، وفيه: وكان يأمرُنا أنْ نُخرجَها قبلَ الصَّلاةِ، وكان يُقسِّمها قبلَ أن ينصرفَ، ويقولُ: «أَغنوهُمْ عن الطَّوافِ في هذا اليومِ».

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم