بين الأيام والشهور تفاوتٌ في الفضل بقدر ما أودع الله فيها من مزايا، وجعل فيها من نفحات، وقد ميز الله عز وجل شهر رمضان على سائر شهور العالم لما حوى من خصال الخيرات، وألوان الطاعات والقربات، كما ميز العشر الأواخر منه على سائر الشهر، وجعل ليلة القدر فيه أفضل ليالي الزمان.

وبين أيدينا هذه الدراسة التي أعدها الباحث معاوية محمد هيكل؛ تبين الأعمال التي كان يحرص عليها الأولون؛ حتى يتسنى لنا الاقتداء بهم والسير على نهجهم.

أولًا: إحياء الليل بالطاعات

فقد كان النبي ﷺ يجتهد في العشر الأواخر، فيحيي الليل كله في طاعة ربه.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ﷺ إذا دخل العشر، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله».

وكان النبي ﷺ يوقظ عائشة رضي الله عنها، وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة ونضح الماء في وجهه.

وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: «الصلاة الصلاة». ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

ثانيًا: الاعتكاف في العشر الأواخر

ومن خصائص هذه العشر المباركة استحباب الاعتكاف فيها، والاعتكاف هو: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل. وهو سنة بالإجماع، ولا يجب إلا بالنذر، دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].

وكان النبي ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، واعتكف ازواجه وأصحابه من وبعده.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ﷺ يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكاف عشرين يومًا».

ومن أسرار الاعتكاف: صفاء القلب والروح، إذ إن مدار الأعمال على القلب كما جاء في الحديث: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».

متى يبدأ الاعتكاف؟

قال الشوكاني في (نيل الأوطار): قال الأئمة الأربعة وطائفة من العلماء: «يدخل المعتكف قبيل غروب الشمس، ويخلو بنفسه في المكان الذي أعده للاعتكاف بعد صلاة الصبح، وذلك في مغرب يوم العشرين من رمضان، ويخرج بعد غروب شمس آخر يوم من الشهر».

شروطه: لا يشرع إلا في المساجد. فالسنة في المعتكف ألا يخرج إلا لحاجة لا بد له منها، ولا يعود مريضًا، ولا يمس امرأته، ولا يباشرها، ولا اعتكاف في مسجد جماعة، والسنة فيمن اعتكف أن يصوم.

قال ابن القيم رحمه الله: لم يذكر الله تعالى الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله النبي ﷺ إلا مع الصوم. وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول جمهور العلماء.

ثالثًا: تحري ليلة القدر

ففي هذه العشر ليلة القدر التي شرفها الله على غيرها، ومن بها على هذه الأمة بعظيم فضلها وجزيل أجرها وخيرها، وقد أنزل الله عزوجل في فضلها قرآنا يُتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)} [الدخان: 3 – 5].

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر: 1 – 5].

والقدر بمعنى الشرف والتعظيم وبمعنى التقدير والقضاء؛ لأن ليلة القدر شريفة عظيمة يقدر الله فيها ما يكون في السنة، ويقضي من أموره الحكيمة: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] يعني في الفضل والشرف وكثرة الثواب والأجر، ولذلك كان من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة. و{الرُّوحُ}: هو جبريل عليه السلام، و{سَلَامٌ هِي}: أن ليلة القدر ليلة سلام للمؤمنين من كل خوف لكثرة من يُعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها، {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: يعني أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر.

ما يستحب من أعمال في ليلة القدر

ينبغي للمسلم في العشر الأواخر من رمضان أن يجتهد في تحري ليلة القدر وإحيائها والتهجد فيها والصلاة والدعاء، قال سفيان الثوري: «الدعاء في تلك الليلة أحب إليّ من الصلاة»، وقد حرصت أمنا عائشة رضي الله عنها على الاجتهاد في هذه الليلة، فقالت للنبي ﷺ: أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».

وكان النبي ﷺ يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».