Business

معاركنا وانتصاراتنا في رمضان

إنّ المتتبع للانتصارات الباهرة التي أحرزها المسلمون في الماضي يجد أنّ كثيرًا منها كان في شهر رمضان المبارك، ومن بركات هذا الشهر أن المسلمين ينتقلون كثيرًا من مرحلة إلى مرحلة أخرى في شهر رمضان، من ضعف إلى قوة، ومن ذلٍّ إلى عزَّة، فشهر رمضان حقًا هو شهر الانتصارات الكبيرة، التي غيرت وجه التاريخ وأجراه من جديد، بدءًا من غزوة بدر الكبرى وفتح مكة، ومرورًا بفتح الأندلس ومعركة بلاط الشهداء، وفتح عمورية، وحطين، وعين جالوت، ونهاية بحرب أكتوبر العظيمة.

ففي غزوة بدر والتي وقعت في اليوم السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة، حيث قاد النبي- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة من أصحابه؛ لاعتراض قافلة لقريش يقودها أبو سفيان بن حرب، إلا أن القافلة اتخذت طريقًا آخر، مما طمّع كبار قريش على الخروج من مكة والتخطيط على مواجهة المسلمين في معركة مباشرة، ظنًا منهم أنها ستكون لهم نزهة عسكرية محضة، وكانت هذه المعركة هي الانتصار الأول للمسلمين في تاريخهم الحربي، وأكسب الانتصار في تلك الغزوة روحًا معنوية عالية للمسلمين، أعطتهم الثقة في أنفسهم لمواجهة أعدائهم من يهود المدينة الذين كانوا يكيدون للمسلمين، وكذلك مواجهة قريش أخرى، فإن القوة الروحية التي غذتهم بها غزوة بدر كانت سامية، حتى أزيل من قلوبهم الوهن وقُذف في قلوب أعدائهم الرعب القاتل.

لقد عُدّ هذا الانتصار رسمًا لسياسة الأمة وتخطيطًا لمستقبلها، فأمة لديها شهر تستطيع أن تغير فيه نفسها تمامًا، أن تبني نفسها، أن تنتقل من مرحلة إلى مرحلة؛ يقول ربنا سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ...}، وأنتم ماذا؟ {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. لقد تغير المسلمون تمامًا بعد موقعة بدر، فبعد بدر أصبحت للمسلمين دولة معترف بها، أصبحت لهم شوكة قوية ومكانة ووضع مستقر؛ انتقل المسلمون إلى مرحلة جديدة، العالم كله سمع عن هذه الدولة، اليهود رعبوا، والمشركون انهزموا، والمنافقون ظهروا.

ثم كان فتح مكة والذي طال شوق المسلمين إليه، وانتظروا هذه اللحظة أن تظهر في الأفق؛ حيث سارع المسلمون بالتجهز للقاء الأخير مع كفار مكة، حيث فقد خرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- وجيش المؤمنين من المدينة المنورة قاصدًا مكة في 10 رمضان سنة 8هـ، وفتحها في 21 رمضان.

لما عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- النية على الجهاد لفتح مكة؛ تجهز وأمر الناس للتجهز إلى مكة وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها»، ومضى رسول الله لسفره، واستخلف على المدينة كلثوم بن حصين، ثم حاصر مكة قبل أن يفتحها الله عليه.

لقد كان فتح مكة فتحًا مبينًا، حيث أعز الله به جند الإسلام، ورد لهم اعتبارهم، ورفع به كرامتهم ورؤوسهم. إنه الفتح الأعظم الذي قصم به الله سبحانه دولة الكفر، وأزال به شعائر الشرك ومعالم الطغيان، وأشرقت وجه الأرض مرة أخرى بالتوحيد والتحميد.

كان فتحًا دفع سيد قريش أبو سفيان أن يسلم ويدخل على قومه محذرًا من قوة محمد- صلى الله عليه وسلم وصحبه-، صارخًا في قومه: «يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، فسبته زوجته هند، ولكن الناس عرفوا الجد من كلام أبي سفيان فهرعوا مسرعين لبيوتهم والمسجد الحرام.

لقد شهد شهر رمضان أبرز المعارك التي خاضها المسلمون بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث القادسية على الضفة الغربية لنهر الفرات التي وقعت في شعبان واستمرت إلى رمضان 16هـ (637م) بين المسلمين والفرس، وكان قائد المسلمين الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، حيث كانت من المعارك الهامة في تاريخ الصراع بين المسلمين والفرس؛ إذ فرَّ فيها رستم وعشرات الآلاف من جنوده إلى المدائن عاصمة الساسانيين، وغنم فيها المسلمون مغانم كثيرة، وكانت بوابة الفتوحات في الشرق الأسيوي.

غير أن الجانب الغربي شهد الفتوحات في رمضان ففي 28 رمضان عام 92 هجرية كانت جيوش المسلمين بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير تقرع أبواب أوروبا عن طريق الأندلس (إسبانيا والبرتغال حاليًا)، فعبر طارق بجيشه المضيق الذي عرف باسمه- جبل طارق- ليلاقي جيوش القوط ويهزمها في معركة وادي لَكّة، والتي فتحت الباب أمام المسلمين لفتح شبه الجزيرة الأندلسية، حتى ظلت الأندلس عروس الأمة وبوابتها، ومعبرًا لدخول الإسلام في عمق أوروبا.

ومن أعظم المعارك الإسلامية الرمضانية تلك التي تسببت فيها امرأة صرخت: «وامعتصماه!»؛ فحركت نخوة الخليفة العباسي المعتصم بالله؛ فحرك جيشًا عرمرمًا من قصر الخلافة بالعراق إلى مدينة عمورية- التي هي إحدى مدن الدولة البيزنطية- وحاصرها استجابة لنداء المرأة المسلمة التي استغاثت به، وكانت المعركة التي فُتحت فيها عمورية.

وفي رمضان من العام 223 هجرية، قاد الخليفة العباسي المعتصم بنفسه جيشًا كبيرًا لفتح عمورية بعد رسالته النفسية التي هزت كيان القائد الروماني: «من المعتصم بالله أمير المؤمنين إلى كلب الروم: لأرسلنَّ لك بجيش أوَّله عندك وآخره عندي»، حيث اقتحم المعتصم بالله العباسي حصون عمورية في مائة وخمسين ألفًا من جنوده ليجعل من غزوته غرة في جبين الدهر.

ثم كانت المعركة التي أنقذت الإسلام والمسلمين، تلك المعركة التي قامت أمة الإسلام بعدها من غفلتها واختلافها، وقامت تحت قيادة واحدة، هذه المعركة هي معركة عين جالوت في 25 رمضان 658هـ (3 سبتمبر 1260م) واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجَه بمثله من قَبْل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذٍ أن يدفعه.

فقد كانت جيوش التتار تنتصر على جيوش المسلمين انتصارات متتالية بلا هزائم ولسنوات عديدة، مذابح من أبشع مذابح التاريخ، إبادة لكل ما هو حضاري، تدمير لكل شيء في البلاد الإسلامية، من أول يوم دخل فيه التتار في أرض المسلمين سنة 616 هـ وإلى هذه السنة سنة 658هـ؛ 42 سنة متصلة وصل المسلمون فيها إلى أدنى درجات الذل والهوان، ثم تغيَّر الوضع، وعادت الكرامة والعزة للمسلمين مرة أخرى في رمضان سنة 658 هـ، وليس كأي انتصار؛ لقد فني جيش التتار بكامله.

وفـي 10 رمضان 1363هـ (6 أكتـوبر 1973م) عبـر الجيش المصري قناة السويس وحطم خط بارليف وألحق الهزيمة بالقوات الصهيونية، في يوم من الأيام الخالدة التي سطرها التاريخ في أنصع صفحاته بأحرف من نور؛ ففي هذا اليوم وقف التاريخ يسجل مواقف أبطال حرب أكتوبر الذين تدفقوا كالسيل العرم يستردون أراضيهم، ويستعيدون كرامتهم ومجدهم؛ فهم الذين دافعوا عن أرضهم وكافحوا في سبيل تطهيرها وإعزازها؛ فضربوا بدمائهم المثل، وحفظوا لأنفسهم ذكرًا حسنًا لا ينقطع، وأثرًا مجيدًا لا يمحى.

هذه بعض انتصارات رفعت من قدر الأمة الإسلامية على بقية الشعوب ومكَّن الله لها في الأرض؛ وما ذلك إلا لتوحُّدهم وجلوسهم تحت مظلة واحدة وخلافة واحدة، فامتدت تلك الانتصارات منذ بزوغ نور النبوة بإنزال الله– تعالى.

إن من ينظر إلى هذه الانتصارات سينتابه العجب؛ كيف استطاع هؤلاء القيام بمثل هذه الانتصارات في وقت الصيام، وقد تكون في أيام صيف حار!

إن ذلك ليس بعجيب ولا غريب من أناس جعلوا الإسلام همَّهم، وقدَّموا إعلاء رايته على كل شيء؛ فهو شهر عظيم جعله الله شهر انتصارات وعزة للإسلام والمسلمين. وها نحن اليوم نذكر تاريخًا كان بالأمس ليكون عبرة لنا نستفيد منه في حياتنا؛ بالتزامنا الحق وما يدعو إليه الدين من العلم والعمل.

إن للمسلمين أخلاقًا في حربهم لا تتوفَّر في غيرهم؛ فهي حرب نظيفة، ولغاية سامية، وليست حرب إبادة.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم