إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على وجه البسيطة، واستخلفه فيها لعبادته وامتثال أمره واجتناب نهيه، وإنَّ مفهوم الاستخلاف للإنسان هو خير رابط بين الإنسان وبيئته، وقد وردت آيات كثيرة دالة على مدى الترابط بين الإنسان والكون؛ والله سبحانه وتعالى هو الخالق لهما؛ حيث يقول سبحانه: ﴿الذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه وبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ من طِينٍ﴾ [السجدة7]، وغايتهما واحدة وهي العبادة: ﴿ولله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا﴾ [الرعد 15].
وتستهدف هذه الدراسة التي أعدتها الباحثة الدكتور ماحي قندوز - كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية شعبة العلوم الإسلامية- جامعة تلمسان، إبراز خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها في الحفاظ على البيئة والمحيط، التي تعادل مصطلح الكون أو المخلوقات في التصور الإسلامي، وكيف أن الإسلام وضع قواعد ومقاصد شرعية ووسائل لحماية هذه البيئة، وأنه كان السباق لحمايتها.
عناية العلوم الإسلامية بالبيئة
إن رعاية البيئة وحمايتها وإصلاحها والمحافظة عليها ليست أمرا دخيلا على علوم الإسلام والثقافة الإسلامية، وليست من ابتكار الغرب في هذا العصر، بل الحقيقة أن رعاية البيئة تتصل بعدد من العلوم الإسلامية، فهي تتصل بعلم أصول الدين وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، وبعلوم القرآن والسنة النبوية المطهرة.
فعلم أصول الدين يَتَّصِلُ برعاية البيئة من حيث يجعل كُلَّ مكونات البيئة وعناصرها الجامدة والحية والعاقلة وغير العاقلة كلها مخلوقات ساجدة لله تعالى، مسبحة بحمده؛ قال الله تعالى: ﴿ولله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعَاً وكَرْهَاً وظِلاَلُهُم بالغُدُوِّ والآصَالِ﴾ [ الرعد15].
أمَّا علاقة علم الفقه بالبيئة فهي واضحة المعالم، إذ الفقه هو الذي يُنَظِّمُ علاقة الإنسان بربِّه، وبنفسه، وعلاقته بأسرته ومجتمعه، وعلاقة الإنسان بالكون من حوله وفق الأحكام الشرعية؛ من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة.
إنَّ المحافظة على البيئة لا يُؤَكدُها الفقه وحده، بل تُؤَكِّدُها كذلك أصول الفقه؛ وبالخصوص مقاصد الشريعة التي بين فيها الأصوليون أن الشريعة إنما جاءت لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد أو في العاجل والآجل، إذ أن مقصود الشريعة من الخلق هي حفظ دينهم وأنفسهم ونسلهم وعقولهم وأموالهم؛ ولا ريب أنَّ حماية البيئة والمحافظة عليها وصلاحها ورعايتها تدخل في الضروريات الخمس كلها.
دلائل قرآنية
يقول د. يوسف القرضاوي: «من دلائل القرآن الكريم على الاهتمام بالبيئة؛ أن نجد عددا من السور سميت بأسماء للحيوانات والحشرات وبعض النباتات والمعادن وبعض الظواهر الطبيعية»، فنجد من أسماء السور: سورة البقرة، وسورة الأنعام، وسورة الفيل، وسورة العاديات؛ وهي الخيل، وكلها من الحيوانات؛ ونجد سورة النحل، وسورة النمل، وسورة العنكبوت، وكلها من الحشرات؛ ونجد في القرآن سورة التين؛ وهو من النبات، وسورة الحديد؛ وهو من المعادن.
ونجد سورة الرعد؛ وهو من الظواهر الطبيعية، وسورة الذاريات، وسورة النَّجم؛ وقد أقسم الله به إذا هوى، وسورة الفجر؛ وسورة الشمس، وسورة الليل، وسورة الضحى، وسورة العصر؛ وكلُّها ظواهر طبيعية.
ونجد سورة الطور، وسورة البلد؛ والمراد به مكة البلد الحرام، وسورة الأحقاف، وسورة الحجر، وسورة الكهف، وكُلُّها أماكن.
فهذه التسميات للسور القرآنية لها دلالاتها وإيحاؤها في نفس الإنسان المسلم، وربطه بالبيئة من حوله؛ بحيث لا يكون في عزلة أو غفلة عنها.
مقاصد الحفاظ على البيئة في الإسلام
وقد جاءت كثير من الأحكام الشرعية تجتمع في مقصد الحفاظ على البيئة، كحفظها من التلف، ومن التلوث ومن السرف الاستهلاكي وحفظها بالتنمية المستدامة:
- حفظ التوازن البيئي؛ فالكون قائم على أساس التوازن والتكامل؛ قال تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَن مِنْ تَفَاوُت﴾ [الملك/13]، وقال أيضا: ﴿إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدَر﴾ [القمر/49]، ومن مقاصد الإسلام في الحفاظ على البيئة ضمان هذا التوازن بين مكونات العالم، دون أن يتسبب التطور التكنولوجي والعلمي في القضاء عليه وعلى تناغمه.
- محاربة الإفساد في الأرض؛ ويشمل الفساد المادي؛ كتخريب العمران والقضاء على الأخضر واليابس وتبديد الثروات الطبيعية، والفساد المعنوي؛ كانتشار الرذائل والفواحش والظلم والقتل وأخذ الحقوق؛ قال تعالى: ﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ [الأعراف/56].
- رعاية أمانة الاستخلاف؛ والمقصود بالاستخلاف القيام بأمانة التبليغ والتزام مهمة ﴿هُوَ أَنْشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُم فِيهَا﴾ [هود/ 61] وعمارتها تكون بالغراسة والتشجير والبناء واستثمار المقومات الطبيعية، وعليه فإن الأوامر الإلهية تدور حول هذا المقصد الاستخلافي.
- شكر المنعم على نعمه والانتفاع بها؛ فإن الطبيعة التي خلقها الله هي من النعم المحيطة بالإنسان، ولا بد من أداء شكرها بالحفاظ عليها، وعدم التسبب في إهلاكها ﴿لَئِنْ شَكَرْتُم لأَزِيدَنَّكُم ولئِنْ كَفَرْتُم إنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾ [إبراهيم/7.].
- المقصد الجمالي والذوقي في الكون؛ فكل ما في البيئة من جمال وجلال وبهاء وسناء من خلق الله وصنعه، فإذا لم يحافظ عليه الإنسان فقد فوت على نفسه هذا المقصد الحميد، وهذه الأسرار الإلهية التي تلعب دورًا مهما في التربية والتهذيب الجماليين؛ قال تعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التِّي أَخْرَجَ لعبَادِه والطَّيِبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة كذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لقَوْمٍ يَعْلَمُون ﴾ [الأعراف: 31-32].
الوسائل التي وضعها الإسلام للحفاظ على البيئة
وقد وجدنا بعض الوسائل الوقائية من الضرر والمحافظة على البيئة حرص عليها التشريع الإسلامي؛ من بينها:
- الاهتمام بالتربية الإيمانية: حيث تعتبر عاملا مهما في كيفية التعامل مع البيئة؛ من خلال السلوك المتزن الذي يصدر من المؤمن الذي يدفعه إيمانه للحفاظ على وسطه.
- التركيز على التربية البيئية: وهي عملية تكوين القيم والاتجاهات والمهارات والمدارك اللازمة لفهم وتقدير العلاقات المعقدة التي تربط الإنسان بمحيطه، وتوضح حتمية المحافظة على المصادر البيئية، وضرورة حسن استغلالها لصالحه.
- الوسائل الرقابية؛ وتفعيلها للحفاظ على البيئة؛ كسن القوانين الصارمة، وتنمية الحس المسؤول من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراقبة تحرك واستعمال المواد الكيماوية وكذا طرق التخلص منها.
- الوسائل التأديبية؛ من ردع من يتسبب في حرائق الغابات أو تلويث الأنهار والآبار.
.