إن التفكير الإنساني بعيدًا عن هداية الوحي قد أنتج الكثير من الفلسفات المتناقضة والتي يهدم بعضها بعضًا، ولم تستطع تلك الفلسفات على كثرتها ونقض بعضها لبعض أن تحول بين الإنسان الغربى وبين الكثير من مظاهر الضلال في التفكير والسلوك. ولعل الغرب وما يعانيه من أزمات أخلاقية وثورة شباب وعدم وجود غايات سامية تحركه... الخ؛ يُفَسِّر الكثير من مشكلة العقل الإنساني عندما يطرح الوحي الصحيح جانبًا كمصدر من مصادر التفكير والسلوك والبحث.
وفى دراسة بعنوان: «النموذج التفسيري في التربية»، للدكتور عبد الرحمن النقيب، أستاذ أصول التربية بجامعة المنصورة، حاول فيها أن يقدم للقارئ كيف يمكن استخدام النموذج التفسيري الإسلامي في حقل التربية سواء في مجال التفكير أم السلوك أم البحث التربوي، ولعل القارئ خلال رحلته مع الفصول السابقة قد أدرك أن الفارق الجوهري بين المسلم وغير المسلم يكمن في استنباط المسلم رؤيته الكلية من مصادر الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم وصحيح السنة، واجتهاد العلماء الصحيحة من قرآن وسنة، بالإضافة إلى مصادر المعرفة الإنسانية الأخرى التي يشارك فيها الآخرين.
الفروق بين النظرة الإسلامية للعلوم والنظرة العلمانية
إن هناك فارقًا جوهريًا بين النظرة الإسلامية للعلوم والنظرة العلمانية. فالنظرة الإسلامية إلى العلم نظرة موحدة متكاملة، والنظرة العلمانية نظرة مادية تعزل العلم عن الإيمان والوحي.
ومن الخطأ أن نظن أن هذا العلم الوضعي هو الصورة المثلى للعلم، أو أنه النوع الراقي من العلم. بل لعله من المنطقي أن نقول إن النظرية الإسلامية للعلم أشمل وأصح من النظرية الوضعية. ولقد كان من ثمار النظرية الإسلامية للعلم؛ علماء جمعوا بين العلم والإيمان، بينما كانت النظرية الوضعية للعلم هي المسئولة عن الأجيال الملحدة من العلماء الذين لم يعصمهم علمهم عن الإلحاد والإفساد، كذلك فقد أثمرت النظريةُ الإسلامية للعلم حضارةً لم تدمر الإنسان والطبيعة أو تلوث البيئة أو تهدد العالم بالدمار كما فعلت النظرية الوضعية للعلم. ومن هنا تأتي مسئولية العلماء المسلمين في كل مكان أن يعيدوا من جديد بناء المعرفة الإنسانية وفق التصور الإسلامي بحيث تصبح نسقًا عقليًا وفكريًا وعلميًا متكاملًا يدور حول الوحي، وينتظم جميع العلوم والمعارف التي وصل إليها الإنسان المعاصر، كل ذلك في ظل هداية الوحي وإرشاده.
إن المنهجية الإسلامية تقوم أساسًا على عدم إخراج النص الديني الإسلامي من دائرة العلم، ومنه العلم التربوي. فالنص الديني هو أحد مصادر العلم والمعرفة لدينا، بل هو المصدر الأكثر ثباتًا وصدقًا ويقينًا. ورفض النص الديني المسيحي في دائرة العلم الغربي لا يجيز لنا أن نفعل نفس الشيء مع النص الديني الإسلامي وذلك لاختلاف طبيعة النص، والظروف التاريخية التي أثر فيها النص الديني الإسلامي على حركة العلم والحضارة والعمران.
وبإيجاز فإن النص الديني الإسلامي لا بد أن يمثل منطلقًا أساسيًا لأي باحث في التربية مهما كان موضوع دراسته، ومهما كان منهج البحث الذي سوف يستخدمه. فلا يجوز مثلًا أن ندرس تعليم الفتاة في القرن العاشر الهجري دون أن نحكم على هذه الظاهرة التربوية من خلال النص القرآني. فلو وجدنا أن تلك الفتاة لم تتعلم في هذا العصر لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية معينة فلا بد أن نناقش ذلك على ضوء ما ورد في القرآن والسنة من ضرورة تعليم المرأة ومن فريضة طلب العلم. كذلك إذا لاحظنا اختفاء العلوم الكونية أو الطبيعية في عصر من العصور الإسلامية وما ترتب على ذلك من تخلف في مجال الزراعة أو الصناعة أو الحروب مما مَكَّن لأعداء الله في أرض المسلمين؛ فلا بد أن يُظهر الباحث رأي القرآن والسنة في تلك الظاهرة، أي أن الباحث في التربية لا يجوز له أن يدرس الظاهرة التربوية بعيدًا عن النص الديني الإسلامي؛ فهذه منهجية وضعية مرفوضة.
إن الفصل بين رجل الدين ورجل العلوم الطبيعية أو الإنسانية أو الاجتماعية فصل متعسف، لأن ذلك يعنى أن النص الديني سوف يكون محصورًا فقط فيما يسمى بالعلوم الشرعية أو العلوم الدينية، وسوف يعزل النص الديني الإسلامي الذي ينبغي أن يهدي خطوات الباحث في جميع مجالات العلوم والمعارف. وهذا سوف يفرض على الباحثين في جميع التخصصات أن يكونوا على دراية بالنص الديني خصوصًا ما يتصل بمجال دراستهم. فالباحث في مجال العلوم السياسية مثلًا لا بد أن يكون على دراية بجميع النصوص الإسلامية المتصلة بموضوع دراسته، كذا الدارس في علم الاجتماع أو علم التربية أو علم الطبيعة والطب وهكذا، وبهذا يعود القرآن والسنة إلى مكانتهما التي كانا عليها في العصور الذهبية للإسلام، عندما كانا مصدرًا من مصادر المعرفة وإطارًا مرجعيًا عامًا لكل دراسة وبحث.
وتأسيسًا على ذلك، فإن المنهجية العلمية الإسلامية في دراسة الموضوعات التربوية تقتضي أن يتجاوز الباحث حدود المنهجية الغربية التي تعتمد على مجرد استخدام مناهج بحثية محددة: منهج وصفي، أو تاريخي أو تجريبي مقارن...إلخ، واختيار أساليب وأدوات بحث مصممة بدرجة عالية من الثقة والموضوعية، وتحليلها بقدر مرتفع من الدقة والكفاية، والتعبير عن هذه النتائج بطريقة واضحة ومنطقية ومتسلسلة. أقول إن «المنهجية العلمية الإسلامية» لا تكتمل إلا إذا تمتع الباحث في موضوعات التربية الإسلامية- بجوار ما سبق- بإلمام كامل ودراية جيدة بالأصول الإسلامية الثابتة المتعلقة بموضوع دراسته من قرآن وسنة، وإلا إذا كان قادرًا على توظيف تلك المعرفة في بحوثه ودراساته توظيفًا سليمًا.
وعلى سبيل المثال فإن إستخدام الاختبارات والمقاييس لقياس ظاهرة تربوية معينة تعد في أكثر الأحيان وسيلة علمية دقيقة، ولكن لا يكفي لإعداد هذا الاختبار أو المقياس أن نكتفي بمقدار ما يتمتع به من درجة عالية من الصدق والثبات لنحكم على صلاحه، بل لا بد بجوار ذلك أن يُبنى على أساس مفاهيمي إسلامي سليم يستند إليه المقياس. ويعطى الدكتور «حمدي أبو الفتوح عطية» نماذج لاختبارات ومقاييس تضمنت عبارات تسبب إجاباتها حرجًا للجنس الإسلامي مثل: رشّح أحد التلاميذ نفسه لرئاسة جمعية البر والإحسان بإحدى المدارس، فزكّاه زميل له على أساس أنه أصلح من غيره فقد عُرف بمواظبته على الصوم والصلاة دائمًا، وتحت هذا الموقف تأتى العبارات أو الاستجابات التالية:
- ينبغى أن تثق ثقة تامة بمن يواظب على الصلاة والصوم.
- الشخص الذي لا يؤدي فرائض الصلاة والصوم لا يحق له الاشتراك في جمعية البر والإحسان.
- من المؤكد أن كل شخص يواظب على الصوم والصلاة يكون أمينًا مخلصًا في عمله.
- يحتمل أن يكون هناك طالب غير مواظب على الصلاة والصوم ولكنه أصلح لرئاسة جمعية البر والإحسان.
وقطعا فإن الجنس الإسلامي يستنكر أن يتحمل أمانة العمل الاجتماعي من لا يؤدي فرائضه الإسلامية، ومن ثم فإن وضع العبارات بتلك الصورة غير مناسب من الناحية القيمية الإسلامية. بل إن تلك الاختبارات والمقاييس قد تتضمن عبارات ومواقف تعارض التوجه الإسلامي في الحياة، ومن ذلك الموقف التالي الذي ورد في أحد المقاييس التي تقيس الاتجاه العلمي لدى الطلاب:
رأت إحدى شركات أتوبيس القاهرة فكرة استخدام الفتيات للعمل كمحصلات يقمن بقطع التذاكر للركاب، وإذا نجحت هذه المحاولة واستطاعت الفتاة إثبات كفاءتها في هذا العمل؛ عممت الشركة هذه الفكرة في جميع سياراتها، وتحت هذا الموقف تأتى العبارات التالية:
- هذا العمل مخصص للرجال، فلا يصلح الاستعانة بالنساء للقيام به.
- اختلاط هؤلاء الفتيات بالرجال أثناء عملهن بالأتوبيس سيؤدي حتمًا إلى حدوث مشاكل أخلاقية نحن في غنى عنها.
- لا داعي مطلقًا لهذه التجربة؛ لأن نتيجتها معروفة من قبل إجرائها، وهي فشل الفتاة في هذا العمل الشاق.
- إذا نجحت الفتيات في هذا العمل الجديد فلا مانع من تعميم هذه الفكرة، ولو تعارضت مع تقاليدنا السابقة.
- من حق كل فتاة أن تعمل لتعول نفسها؛ ما دامت تؤدي هذا العمل بنجاح.
- يجب أن نترك مجال العمل للشخص الأنسب، سواء أكان رجلًا أم فتاة.
وقطعًا فإن مواقف الاختبارات والمقاييس، وعباراتها لا بد أن تصاغ بطريقة تراعي التوجه الإسلامي في الحياة.
فالاختبارات والمقاييس والملاحظة والأساليب الإحصائية المختلفة، لا تقرر حقيقة بقدر ما تصف واقعًا، ومبادئ الإسلام لا الأساليب الإحصائية هي المعايير الصادقة التي نقيس بها القيم والعادات والسلوكيات السائدة داخل حقل التربية وخارجه، وبدون ذلك يفقد العمل البحثي التربوي طابعه الإسلامي الأصيل. ويذكر حمدي أبو الفتوح مثالًا واضحًا لذلك، إذا قدمنا عبارة مثل: «عقوبة الإعدام تتسم بالوحشية والقسوة» وطلبنا استجابة الأفراد نحو تلك العبارة لوجدنا أن الاستجابة الصحيحة أو المقبولة هي الموافقة في المجتمعات غير الإسلامية، أما في المجتمعات الاسلامية فإن الإجابة المقبولة هي عدم الموافقة في الحالات التي تقتضي ذلك من الناحية الشرعية. ومن هنا تأتي خطورة استخدام الاختبارات والمقاييس دون مرجعية إسلامية سلمية.
وباختصار، فإنا مهما استخدمنا المناهج البحثية المستحدثة وما يتصل بها من استبيانات واختبارات وأجهزة وأدوات قياس وغير ذلك من متطلبات البحث العلمي التربوي، فسيظل البحث ناقصًا من الناحية المنهجية الإسلامية إذا لم تسيطر علية الروح الإسلامية أو الفقه الديني الذي يربط الظاهرة التربوية (الواقع) بما ينبغي أن تكون عليه (الأصول الإسلامية الثابتة)، وهذا لا يعني مجرد أن يسرد الباحث مجموعة من الآيات والأحاديث هنا وهناك في دراسته حتى تقع في دائرة المنهجية العلمية الإسلامية؛ إن الأمر أكبر بكثير من ذلك، إذ يقتضي منه امتلاك معرفة ودراية واسعة بالأصول الإسلامية المتعلقة بموضوع دراسته، وقدرة على التعامل مع تلك النصوص بالدرجة التي تمكنه من الحكم على الظاهرة موضع الدراسة ونقدها؛ رغبة في إنتاج معرفة تربوية إسلامية موثوق بها. وتلك المنهجية العلمية الإسلامية هي التي يمكن أن تحول دون أن تتحول أبحاث في مجال التربية الإسلامية إلى مجرد مثاليات ومواعظ تتجاهل الواقع التربوي المعاش، أو أدبيات تتجاهل مناهج البحث وتقنياته المتفق عليها بين العلماء التربية.
والإخلال بأحد الجانبين: الدقة العلمية في وصف الظاهرة التربوية وتقريرها، ثم ردها للأصول الإسلامية والحكم عليها من خلال تلك الأصول؛ هو إخلال بالمنهجية العلمية الإسلامية ككل. إن الاكتفاء بتحديد المثل والغايات دون أرضية صلبة يقيم عليها الباحث بِنَاهُ على أرض الواقع التربوي تحليق في المثاليات والانبغائيات. كما أن الاكتفاء بالوصف والتقرير لهذا الواقع التربوي كما هو عليه دون محاولة تغييره وتطويره وفق الأصول الإسلامية الثابتة يُفقد البحث التربوي رسالته في الحياة ويجعله مجردًا من أهدافه المرجوة.
ومن سوء حظنا وحظ الإنسانية معنا، أن أوربا في عصور نهضتها عندما نقلت العلوم العربية والإسلامية؛ فصلت بين عنصري المنهجية العلمية الإسلامية، فأخذت الجانب المنهجي المتمثل في الدقة العلمية ومناهج البحث، وتركت النسق الفكري الإسلامي الذي يربط جميع المظاهر المدروسة بالأصول الإسلامية الصحيحة. وطبيعي أن تُطور أوربا بداية من عصر النهضة والعصور الحديثة مناهج البحث وما يتعلق بذلك من تقنيات بحثية، ولكنها أصرت وما تزال تصر حتى اليوم على فصل العلم عن الدين، وقدمت للعالم منهجيتها الفكرية ذات الطابع العلماني الذي يدرس جميع الظواهر بعيدًا عن الله.
وبدعوى الحيادية العلمية من ناحية والتفوق العلمي والتكنولوجي الذي حققه الغرب من ناحية أخرى، كاد هذا المفهوم أن يفرض نفسه على معظم جامعات العالم ومراكز البحث فيه، وساعد على ذلك غياب المنهجية العلمية الإسلامية في الميدان، وجمود الفكر والعلم الإسلامي، وأخيرًا التبعية السياسية والاقتصادية للغرب وما صاحبها من تبعية ثقافية وعلمية ما زالت تفرض نفسها على معظم جامعاتنا ومراكز البحث العلمي لدينا حتى الآن في مجال التربية.
نموذج تطبيقي في البحث التربوي
إن كتب مناهج البحث في العلوم الاجتماعية ومنها التربية قد تجاهلت بالكامل «المنهج الأصولي» كأحد المناهج التي ينبغي أن يوظفها الباحث المسلم في دراسته الاجتماعية ومنها الدراسات التربوية، بل أكاد أجزم أن هذا المنهج الأصولي لا بد أن تفرد له الدراسات لتوضيح أهم معالمه، وكيف يمكن استخدامه في العلوم الإنسانية ومنها التربية، وخاصة أن هذا المنهج هو أكثر المناهج التحامًا بالمنهجية الإسلامية وقدرة على إبرازها وتطورها.
التعريف بالمنهج الأصولي وخطواته
المنهج الأصولي، هو المنهج الذي اتبعه علماء أصول الفقه في دراستهم وبحوثهم. وهو المنهج الذي لا بد أن يُلِمّ الباحث في التربية الإسلامية ببعض قواعده ومهاراته إذا أراد أن يُكَوِّن لنفسه منهجية إسلامية في البحث، ويستطيع أن يستخدمه أيضًا في دراسته لبعض الموضوعات التربوية، وأحيانًا يكون هو المنهج الوحيد الذي ينبغي استخدامه عندما تناقَش قضايا مثل: الطبيعة الإنسانية في الإسلام، أو أهداف التربية في القرآن والسنة، أو نظرية المعرفة في القرآن والسنة... إلى غير ذلك من الموضوعات التي تحتاج قطعًا إلى قواعد ومهارات المنهج الأصولي، مع بعض التطويع لتلك القواعد والمهارات لتناسب الدراسات والبحوث التربوية.
وهذا المنهج الأصولي كتبه ومراجعه التي يتحتم على باحث التربية الإسلامية أن يُلِمّ بقليل منها: مثل «الرسالة» للشافعي، و«المستصفى» لأبى حامد الغزالي، و«الإحكام في أصول الأحكام» للآمدى. ومن الكتب الحديثة «أصول الفقه» للخضري، و«أصول الفقه» لمحمد أبو زهرة، و«الوجيز في أصول الفقه» لعبد الكريم زيدان..... الخ
والباحث في التربية الإسلامية عندما يستخدم المنهج الأصولي في دراسة بعض الموضوعات التربوية، مثل أهداف التربية في الإسلام فإن عليه الاسترشاد بالخطوات التالية:
- تعريف المفهوم في اللغة العربية، وذلك بالرجوع للعديد من المعاجم اللغوية لمعرفة الدلالات المختلفة للمفهوم وما يقاربه من مفاهيم.
- جمع النصوص الإسلامية المتعلقة بالظاهرة التي يدرسها من قرآن وصحيح سنة، مستعينًا في ذلك بالمعاجم المفهرسة للآيات والأحاديث.
- فهم النصوص فهمًا صحيحًا والتأكد من معرفة دلالة النصوص بالعودة إلى المراجع الأصلية في تفسير القرآن وتفسير الحديث حتى لا يفسر الآية أو الحديث تفسيرًا بالهوى.
- فى حالة عدم وجود النص لا بد أن يكون الباحث على دراية معقولة بمصادر المعرفة الإسلامية الأخرى التي تحدث عنها علماء الأصول، مثل: الإجماع، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف، وسد الذرائع، ومذهب الصحابة، وشرع ما قبلنا.
- الرجوع إلى التراث الإسلامي وآراء العلماء المسلمين وإسهامهم في موضوع البحث، لأن الإسهام التربوي الإسلامي عبر العصور فيه اجتهاد متعدد في شتى مجالات التربية.
- تُعطى التربية الإسلامية في عصر الرسول منزلةً مرجعية خاصة؛ لأنه العصر الذي شاهد التطبيق الإسلامي التربوي في أزهى صورة. ومن ثم فإن الباحث في التربية مستخدمًا المنهج الأصولي لا بد أن يعطى التطبيقات التربوية في عصر الرسول منزلة خاصة.
- الانفتاح على الدراسات الأجنبية في موضوع البحث؛ للاستفادة مما وصل إليه العلم الغربي في هذا المجال بشرط عدم إغفال الاختلاف المنهجي في تناول الظاهرة. وتناثر تلك الدراسات الغربية بالواقع الغربي والمنطلقات والتصورات الغربية في غاية الوجود ونظرتهم للإنسان والمجتمع والمعرفة والأخلاق. وهي أمور لا بد أن يدركها الباحث التربوي المسلم.
- وأخيرًا يأتي الاجتهاد التربوي في تنزيل ذلك كله على الواقع المعاش للظاهرة التربوية المدروسة. فبعد أن ندرس أهداف التربية مثلًا في القرآن والسنة وعصر الرسول ﷺ، ونلم بالتجربة الإنسانية في مجال الأهداف، لا يستطيع الباحث أن يغفل ذلك على الأهداف التربوية، كما ينبغي أن تكون في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة التي تواجه تحديات معينة وتطمح لتحقيق نهضة حضارية في ظل ظروف عالمية مناهضة.
التأصل الإسلامي لمفهوم التربية
أولًا: مفهوم التربية في المعاجم اللغوية:
إن نظرة سريعة في بعض معاجم اللغة: كــ«لسان العرب» لابن منظور، و«القاموس المحيط» للفيروز أبادي، و «مختار الصحاح» للرازي، وغيرها يعطي الباحث دلالات لغوية ثرية تشمل: الزيادة والنماء، والعلو والتطوير، والاعتناء والرعاية والتغذية، والإصلاح والتحسين، والسياسة والسيادة، والتدبير، والملك، والاجتماع والتنمية؛ وكلها دلالات أصيلة في اللغة العربية تفرض على العاملين بحقل التربية مراعاة تحقيق تلك الدلالات، من خلال العملية التربوية وإلا كانت تربية ناقصة ومشوهة.
ثانيًا: مفهوم التربية في القرآن الكريم:
إن استعراض الباحث للدلالات المختلفة لمفهوم التربية في القرآن الكريم وما يرتبط بها من مشتقات يجعله أمام ما يلي:
- أن مفهوم التربية في القرآن جاء بدلالات متعددة وواسعة، وكلها من مستلزمات التربية بالمعنى الإسلامي، فمن لوازم التربية: الرعاية والعناية، والإيواء، والولاية للطفل وكفالته صغيرًا حتى يكبر، أما مشتقات الفعل «ربَّى» التي جاءت جميعها بمعنى الزيادة والنمو، والارتفاع، فقد خُصَّ بها النبات، والأرض الخصبة، والمال، والأمم في القرآن. أما «رب» بمعنى المالك المتصرف، الذي يربى عباده بنعمه، فقد اختُص بها الرب في القرآن.
- إن كل مفهوم من المفاهيم السابقة: التربية، الكفالة، الرعاية، الولاية، الإيواء، الدراسة، التزكية، التنشئة، لا بد لها من التعليم لتحقق وجودها، وفعاليتها. وأن كل من هذه المفاهيم تتعلق بمفهوم التربية تعلقًا واضحًا، بحيث لا تفهم التربية بالمعنى الإسلامي إلا باستدعاء تلك المفاهيم واستحضارها في الذهن.
- إن مفهوم التعليم من أكثر المفاهيم تكرارًا وشمولًا في القرآن. وذلك لأنه شمل العديد من أنواع التعليم ولم يقتصر على القراءة والكتابة، بل شمل الجوانب المهنية، والتدريبية، وتعلم المهارات حيث بدأت بتعليم الله لأنبيائه ورسله ومن اصطفى من مخلوقاته، ثم إن الرسل تقوم بتعليم الأمم التي أرسلت إليها، ثم بعد الرسل يأتي صحابتهم، ومن صلُح من الخلق ليحملوا رسالة التعليم والتربية، وفقًا لشرائع الله وآدابه التي وضعها لعباده.
ثالثا: مفهوم التربية في السنة النبوية المطهرة:
بعد استعراض الأحاديث النبوية الشريفة التي احتوت مفهوم التربية، والمفاهيم المتعلقة به نخلص إلى ما يلي:
- أن مفهوم التربية في الأحاديث كانت بمعنى النماء والزيادة والمضاعفة.
- أن مفهوم التعلم ورد في مواضع كثيرة في السنة الشريفة سواء باللفظ أو بالمعنى، وقد احتوى تعليم كل شيء، ووضح ذلك في شخصية الرسول ﷺ، المعلم لهذه الأمة والذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا علمها إياها.
- احتوت السنة المطهرة على مصطلحات أخرى ويراد بها التربية، وتتعلق بها ولم يرد ذكر هذه المصطلحات في القرآن الكريم مثل: التأديب، التهذيب، السياسة، التدريب.
- أن معظم المفاهيم السابقة أساسها وجوهرها التعليم فلا يقوم أي مفهوم من المفاهيم السابقة بدون التعليم. وهذل يدل على عمومية وشمول مفهوم التعليم.
- أن مفهوم الدراسة يتعلق بممارسة التعلم، والقراءة، والعملية المعرفية الناتجة عن قراءة الإنسان وتكراره لما يقرأ، والتجربة، والملاحظة، والمشاهدة، وتتبع الأمور، واستخراج الأحكام والآراء، والقواعد، والسنن.
- أن مفهوم التأديب مفهوم دارج عند العرب المسلمين على عهد رسول الله ﷺ والعصور الإسلامية اللاحقة به. ويطلق على كل من يتولى تربية وتعليم الإنسان سواء عن طريق الوالد، أو الوالدة، أو ولي أمر المسلمين.
- أن مفهوم التربية أعم من التهذيب وأكثر استعمالًا.
- أن مفهوم السياسية، والتدريب، والتعليم، والرعاية، والإيواء، استخدمت لتربية كل من الإنسان والحيوان.
- أن كل هذه المفاهيم قد وردت في اللغة العربية، وفى القرآن، والسنة، واستخدمها علماء المسلمين في كتاباتهم التربوية، وأن هذه المفاهيم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم التربية، وكأن التربوي في العصور الإسلامية يستدعي معظم تلك المعاني وهو يمارس مهنته، وبذلك كانت العملية التعليمية والتربوية: تتأثر بظلال تلك المعاني المختلفة التي يستدعيها مفهوم التربية إلى العقل المسلم طوال عصور الازدهار الإسلامي.
رابعًا: مفهوم التربية من خلال التطبيقات التربوية في عهد الرسول والخلفاء الراشدين:
إن الدارس للتربية في عصر الرسول ﷺ والخلفاء الراشدين ليعجب من هذا الجيل الفريد الذي تربى في عهد الرسول ﷺ تربية شاملة متكاملة اهتمت بجميع جوانب شخصية الإنسان العقلية والأخلاقية والجسمية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والروحية، وتعتبر تربية هذا الجيل نموذجًا يستحق الكثير من الدراسة والبحث لإثراء العملية التربوية في العصر الحديث.
خامسًا: مفهوم التربية في بعض كتب التراث التربوي:
كثيرة هي كتب التراث التربوي التي تناولت العملية التربوية بأبعادها المختلفة. ورغم أن كتب الثراث ليست الصورة المثلى للفكر التربوي الإسلامي، وإنما يُلتمس ذلك في القرآن والسنة والتطبيقات التربوية في عصر الرسول والخلفاء الراشدين، إلا أن كتب التراث التربوي تظل مهمة في تأصيل مفاهيمنا التربوية وتطويرها. ومن استعراض بعض تلك الكتب نجد أن مفهوم التربية فيها اتفق مع مفهوم التربية في القرآن والسنة النبوية المطهرة، حيث شمل التعليم المستمر، والتهذيب، والتأديب، والرعاية، وتزكية جميع جوانب شخصية الإنسان، ومن الملاحظ أيضًا من استخدام تلك الكتب لمفهوم التربية، والمفاهيم المتعلقة به، أنه كلما تقارب الزمان من عهد الرسول والصحابة نجد الاستخدام لنفس الألفاظ المستخدمة في القرآن والسنة، ولكن مع تقدم العصور، دخلت ألفاظ جديدة، ومفاهيم جديدة على مفهوم التربية لم تكن مستخدمة من قبل، لكن في كل تلك الكتب كان التركيز على التعليم والتأديب معًا، واستخدام لفظ التربية لرعاية الصغير والعناية به، وبمعنى الزيادة والنماء وذلك كما ورد في القرآن والسنة.
سادسًا: مفهوم التربية في التراث الإنساني المعاصر:
هبطت أهداف العملية التربوية من تربية إنسان القرآن والسنة المستخلف في الأرض والمطالب بعمرانها عمرانًا ماديًا وروحيًا في نفس الوقت، إلى تربية الإنسان المادي الكادح من أجل العمران المادي وإن دمر جميع القيم الإنسانية بل والبيئة المحيطة من حوله، وفسدت البرامج والمناهج المقدمة للطلاب عندما فصلت العلم عن الوحي وما يتصل به من قيم وأخلاق رفيعة. وانحرفت عملية التقويم من عملية تناول الإنسان كجسم وعقل وروح، إلى عملية تركز على الجسم والعقل معًا في أسوأ حالاتهما المادية المحرومة من أي أشواق عليا رفيعة، تسمو بالإنسان إلى درجة الإنسانية اللائقة به كإنسان مُستخلَف.
المفهوم الإسلامي للتربية ودلالاته التربوية المعاصرة:
مما سبق يتضح لنا أن المفهوم الإسلامي للتربية هو أكثر ثراءً عن نظيره الغربي، ويكفي أن نقف هنا عند دلالتين من دلالته التي ينفرد بها هذا المفهوم الإسلامي عن غيره من سائر الدلالات لهذا المفهوم لدى الآخرين وهو علاقة التربية بـــ«رب العالمين»، وأن من ربى العالم بإطلاق هو الله، وأن المُربى الأول هو الرسول ﷺ «قدوة المُربين» بما يعكسه المعنى الأول من مكانة سامقة للمعلم، والذى يكدح كدحًا للتحلي ببعض صفات الله الحسنة حسب طاقته البشرية بما يؤهله ليكون مربيًا، وفى كل صفة من تلك الصفات انعكاسات وإشراقات لا يسمو إليها إلا المعلم المسلم. يضاف إلى ذلك ما يرشح به كون رسول الله ﷺ هو «المربى الأول» أو «المعلم الأول» قدوة المربين من معاني لدى كل مسلم، وهي معاني لا يمكن أن يتصف بها إلا «المعلم المسلم» الذي آمن بالله ربًا وبمحمد ﷺ نبيًا ورسولًا.
إن غياب تلك الدلالات في إعداد المعلم المسلم والاكتفاء بالإعداد الحالي الأكاديمي والتربوي الثقافي بعيدًا عن المفهوم الإسلامي الحقيقي للتربية هو المسئول عن كثير من مشكلات التربية والتعليم في عالمنا العربي، ولو استدعينا تلك الدلالات اللغوية والإسلامية لمفهوم التربية وحرصنا على تحقيق تلك الدلالات في واقعنا التربوي المعاصر لأنكرنا هذا الواقع التربوي وأصررنا على تغييره، فلسفةً وأهدافًا ومناهجًا وطرقَ تدريس وإدارةً وتمويلًا وتقويمًا، وكل ذلك يمكن أن يتم إذا أعددنا الكوادر التربوية التي تمتلك المنهجية الإسلامية بأعداد كافية ومناسبة، وإذا دربنا تلك الكوادر على استخدام تلك المنهجية بكفاءة وإتقان في شتى المجالات التربوية: تنظيرًا وتطبيقًا.
.