هل كان الإسراء بداية تحويل القبلة؟

جاءت الإسراء والمعراج في وقت كانت الأوضاع على النبي ﷺ عصيبة، حيث كذبه قومه، فكانت إصابته النفسية كبيرة، إلى الدرجة التي نراه لأول مرة يشكو إلى الله قلة حيلته وضعف قوته وهوانه على الناس.

لقد حمل الله– سبحانه– نبيه على براقه ليصعد به إلى سدرة المنتهى، حيث أضاء الله أركان وجنبات قلب النبي ﷺ فأزال عنه همومه وأعطاه ما يعينه على نوائب الدهر وجفاء الناس، لقد وهبه الله– سبحانه– خمس صلوات في اليوم والليلة، وخمسون في الأجر؛ لتزيل هموم المهمومين، وتثلج صدور المكروبين، وتلم شعث المتفرقين، وتوحد صفوف المؤمنين.

فحينما عاد النبي ﷺ من رحلته كان في مكة المكرمة يصلي بين الركنين وهو مستقبل الصخرة، حتى هاجر المدنية المنورة؛ صعب الأمر عليه فأوحى الله إليه بالتوجه نحو بيت المقدس.

فلماذا أسرى الله بنبيه من بيته الحرام إلى المسجد الأقصى؟

ولماذا أمر الله سبحانه نبيه بالتوجه في صلاته إلى المسجد الأقصى قبل المسجد الحرام إذا كانت القبلة ستتحول إلى المسجد الحرام؟

هل كانت رحلة الإسراء والمعراج هي بداية التحول بقبلة المسلمين إلى المسجد الحرام؟

إن قدسية المسجد الأقصى عند الله كقدسية المسجد الحرام رغم التفاوت في الفضل، إلا أن الله أراد برحلة الإسراء تشريفًا لهذه البقعة، كما أراد تشريفًا لأهلها.

وحينما أمر الله نبيه بالتوجه بالقبلة الأولى إلى المسجد الأقصى أراد تأكيدًا على المسلمين أن المسجدين لا يقلان قدسية في نفوسهم، ولا تفريطًا في أحدهم، وأن حرمة المسجد الأقصى كحرمة المسجد الحرام.

إن من يفرط في المسجد الأقصى يفرط في المسجد الحرام، فالمسجدان ربطهما الله برباط قدسي بدأه برحلة الإسراء والمعراج وختمهما بجعلهما قبلة للمسلمين وتوحيد صفوفهم.

لقد كان المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، وهذا فيه العديد من الدلالات والمعاني الجليلة، والبعد العقدي والارتباط الإيماني، فالقبلة رابط لتوحيد الأمة، إذ لو تُرك كل إنسان يتجه حسبما يريد، لافترق الناس واختلفت وجهاتهم، ففي معنى القبلة الترابط والتآخي والنصرة والوحدة ورمز الوجود والقوة.

لقد كانت قبلة المسجد الأقصى فيها عبرة تخليص الجيل الأول الذي آمن بالرسول ﷺ من النعرة القبلية ورواسب الجاهلية التي كانت تحيط بالمسجد الحرام، حتى إذا خلصت القلوب وتجردت لله الواحد القهار جاء الإذن بالعودة إلى القبلة الأم وهي المسجد الحرام، الذي كان أول بيت وضع للناس في الأرض.

فالعرب في الجاهليّة كانت وجهتهم في عبادتهم الكعبة المشرّفة، لكنّ ليس ذلك لعقيدة حقيقيّة، بل لعنصريّة وتمجيدٍ للقوميّة، فأراد الإسلام أن ينزع من المسلمين كلّ تحيّز لفئة العرب وعاداتهم، فأمرهم بالتوجّه نحو المسجد الأقصى، حتى يحصحص كلّ مفهومٍ يمجّدونه غير الدين والعقيدة، ثمّ إذا صفت النفوس وصحّت المفاهيم أعاد الله- تعالى- ربطهم بالكعبة المشرّفة.

لقد ظل المسلمون على قبلتهم التي كانوا عليها منذ أن أمرهم الله بالصلاة في رحلة الإسراء والمعراج ما يقارب ستة عشر شهرًا، حيث ذكر ذلك الإمام البخاري بقوله: «أخبرنا أبو نعيم سمع زهير عن أبي اسحاق عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهر».

ستة عشرة شهرُا بين رحلة فرض فيها الصلاة على الأمة، وحدث غيرت فيه الله قبلة المسلمين تعظيمًا للبيت الحرام بعدما عظم المسجد الأقصى.

فجاء تحويل القبلة من منتصف شعبان، وقيل في منتصف رجب من السنة الثانية للهجرة، إلا أن العبرة تمثلت في كون الحدثين كانا بين مسجدين لا تفريق بينهما المسجد الأقصى والمسجد الحرام.

لقد بدأت الرحلة بفرض الصلاة من معراج بالمسجد الأقصى وانتهت بتحويل القبلة الصلاة إلى المسجد الحرام.

ولو نظرنا إلى القواسم المشتركة في قبلة المسلمين لوجدنا لليهود حضور فيها بين الأمس واليوم، فرغم أن الله سبحانه من أمر نبيه بالصلاة ناحية الأقصى حتى تخلص النفوس مما علق بها من عصبية وقبلية، حتى جاءته العصبية والقبلية من قوم آخرون كانوا يتخذون الأقصى قبلة لهم، وهم اليهود والذين كانوا يُعيّرون رسول الله ﷺ ويقولون له: أنت تابع لنا، تصلّي إلى قبلتنا. فأغتمّ رسول الله ﷺ من ذلك غمًّا شديدًا وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرًا ، فلمّا أصبح وحضر وقت الظهر أنزل الله عليه أمره في قوله تعالى: ﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 144).

واليهود اليوم هم من يغتصبون قبلة المسلمين الأولى ومعراج نبيهم، ويعجز المسلمون عن فعل شيء؛ لأنهم تخلوا عن وحدتهم وترابطهم التي كانت تجمعهم القبلة الأولى كما تجمعهم قبلتهم الثانية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم