تعتبر العملية التعليمية أسلوبًا مباشرًا لتلقي المعرفة من جهة، ولاكتساب المهارات والقدرات من أجل تحقيق الكفايات والوصول إلى المعلومات والمعارف عن طريق التعلم الذاتي من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى التربية والتهذيب والتنشئة الاجتماعية للمتعلم.
وفى دراسة: «الجزاء والعقاب في العملية التعليمية في الفكر التربوي الإسلامي»، التى أعدّها الباحث محمد البوزيري، يرى أن المعلم والمدرس في إطار الفكر الإسلامي يعتبر مربيًا ومهذبًا، قبل أن يكون معلمًا ومدرسًا ملقنًا للمعرفة، أي التربية في المقام الأول، والتعليم في المقام الثاني.
المربى والعقاب
الطرف المؤهل لتنفيذ الجزاء والعقاب هو المربي، نظرًا لما يتمتع به من سلطة أدبية وأخلاقية استمدها من المعرفة والتجربة والسن، ومن المجتمع الذي أنابه عنه وأوكل إليه وظيفة التعليم والتربية والتهذيب. وإن مبدأ العقاب مبدأ مشروع في الفكر الإسلامي، إذ قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، وهذا المبدأ من المبادئ التي تستند على عدالة السماء قبل قوانين الأرض.
إن سلطة المربى ليست سلطة مطلقة، بل هي تفويض مقيد بشروط أخلاقية، وتربوية، وإنسانية، ودينية، ونفسية، إذا تجاوزها المربى أُخذ بشططه وضُرب على يده. ولقد أقر المربون المسلمون مبدأ عقاب الصبيان، لكنهم اشترطوا الرفق بهم، تمشيًا مع روح الإسلام التي تتسم بالرحمة والعفو، كما أن منزلة المعلم من الصبي هي بمنزلة الوالد، وهو مطالب أن يكون رفيقًا به، عادلًا في عقابه، غير متشدد فيه.
ومن جملة من تطرق لسياسة الطفل وتهذيبه في الفكر التربوي الإسلامي، نجد ابن الجزار القيرواني في كتابه )سياسة الصبيان وتدبيرهم)، حيث يتبنى فكرة: (الأدب ينقل الطبع المذموم إلى الطبع المحمود).
إن ابن الجزار يؤكد على وجوب تأديب الولدان في سن الصبا؛ لأن الصغير أسلس قيادة وأحسن مواتاة وقبولًا. وليس الأطفال على طبيعة واحدة، فمنهم ذو الطبع المحمود، ومنهم ذو الطبع المذموم. وهذا راجع في رأي ابن الجزار القيرواني إلى إهمال ذوي الطبع المذموم في مرحلة الصبا، حيث لم يتدخل من ينقل هذا الطبع المذموم إلى المحمود عن طريق التهذيب والتأديب، وتُرك الطفل على ما اعتاده بدون تقويم، حتى صار ما اعتاده عادة ملازمة له يصعب إبعاده عنها، إذ أنها تحولت إلى جزء من طبعه.
وفي هذا الباب يلتقي ابن الجزار القيرواني، مع الإمام أبي حامد الغزالي الذي يقول: فإن الصبي جوهرةٌ، خُلق قابلًا للخير والشر جميعًا، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين.
ومقولة الإمام الغزالي مستوحاة من الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه».
وأجاز بعض علماء الإسلام العقوبة في المجال التربوي موضحين أنواع الضرب وطريقته وعدده؛ إذ ليس الهدف هو إلحاق الألم والضرر بجسد المتعلم، بل الغاية هي أن يتعلم الصبي ويدرك أن لكل ذنب عقوبة، ولكل فعل جزاءًا، وهذا الجزاء قد يكون ماديًا أو معنويًا.
شروط عقاب المتعلم من أجل التهذيب والتعليم
لقد اشترط المربون المسلمون للحالات التي لا مناص فيها من اللجوء إلى العقاب شروطًا، من أهمها:
- لا يجوز ضرب الأطفال قبل سن العاشرة، استنادا إلى قول الرسول ﷺ: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر».
- لا يجوز ضرب المتعلمين والطلاب الذين تقدمت أعمارهم.
- لا يلجأ المربى إلى الضرب إلا على ذنب وللضرورة القصوى، ولا يكثر من هذا الضرب.
- أن يكون العقاب على قدر الذنب، لا للتشفي والانتقام، وأن يعرف المتعلم الذنب الذي عوقب عليه.
- أن يكون الضرب من واحد إلى ثلاث، ويجب أن يستأذن المعلم والمربي ولي أمر المتعلم على ما فوق ذلك.
- أن يقوم المعلم بالضرب بنفسه، ولا يوكله لأي واحد من التلاميذ.
- أن يكون الضرب على الرجلين، ويتجنب الضرب على الوجه والرأس والأماكن الحساسة في الجسم.
- أن تكون آلة الضرب هي الدرة أو الفلقة، ويجب أن يكون عود الدرة رطبًا مأمونًا، لا قاسيًا يكسر الضلوع.
ويجب على المعلم ألا يتجب العقاب في وقت الغضب؛ يقول أبو الحسن القابسي: إنما تجري الألفاظ القبيحة من لسان التقي، إذا تمكن الغضب من نفسه، وليس هذا مكان الغضب، وقد نهى الرسول ﷺ أن يقضي القاضي وهو غضبان. وأمر عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه- بضرب إنسان، فلما أقيم للضرب قال: اتركوه. فقيل له في ذلك، فقال: وجدت في نفسي عليه غضبًا، فكرهت أن أضربه وأنا غضبان.
وقد جاء في الحديث النبوي الشريف، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
والمتعلمون فلذات أكباد الناس موضوعة في يد المربى، وهو الأب الروحي لهؤلاء المتعلمين. ومن هذا المنطلق يصبح لزامًا عليه ألا يُحزن نفوس هؤلاء المتعلمين، وألا يمارس عليهم حب الانتقام والتنفيس عن العقد الثاوية في نفسه؛ وقد نهى المربون المسلمون عن استخدام أسلوب الحرمان من الطعام والشراب في العقاب، لما له من أثر على صحة الطفل في هذه المرحلة، ونهوا المعلم عن الانتقام في العقاب، وضرب الصبيان في حالة الغضب، حتى لا يكون ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه.
وإذا اقتضت الضرورة التربوية تدخل الأب أو المعلم بواسطة الضرب في- إطار التأديب- فإن الإمام الغزالي يدعو إلى عدم السماح للصبي المضروب بالصراخ أو التشفع بأحد، ويغرس في نفسه أن الصراخ والتشفع ليس من عادة الرجال، فيجب أن يتحمل العقوبة بصبر وشجاعة وهمة عالية. ويتم ذلك بعد تعريفه بأسباب العقوبة. ففي العقوبة نفسها تمرين على ممارسة التجلد والمواجهة في عزة وإباء، ويدرك الطفل المعاقب أن لكل ذنب عقوبة ولكل فعل جزاءًا.
هذا هو موقف المربين المسلمين في الفكر التربوي الإسلامي من عقوبة الصبيان والمتعلمين وجزائهم، وهو موقف يحترم شخصية الطفل والمتعلم في المؤسسة المدرسية، كما يحترم هذه الشخصية في البيت من قِبل الآباء والأولياء.
وفي الوقت نفسه يدعو هذا الموقف إلى مراقبة المتعلم ومؤاخذته عما ارتكبه من أخطاء أصر على التمادي فيها، ويتم ذلك بطريقة تربوية لا تُحزن نفسه أو تجرح كبرياءه ومشاعره. إن هذا العقاب يعد آخر محاولة للإصلاح متى لم تجد مع المتعلم الوسائل التربوية الأخرى.
ونستنتج من كل ذلك أن رؤية المربين المسلمين كانت أكثر واقعية من كثير من النظريات التربوية الحديثة التي تنادي بترك حبل الطفل على الغارب، ليفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، حتى أصبحنا أمام كائنات تخرجت من معامل التربية الحديثة التي صاغتها في قالب العقوق لكل تراث حضاري إنساني، إنه جيل الدمار: تدمير الذات، وتدمير الآخر، وتدمير القيم الحضارية والمبادئ الأخلاقية.
إن العقاب محاط بجملة من الشروط، ولا يتم اللجوء إليه إلا في حالة الضرورة القصوى، والمربي والمعلم والمدرس مطالبون بأن يتقوا الله في الناشئة، وأن يكون رائدهم في رسالتهم التعليمية هو الإخلاص وصدق القصد. وهناك كثير من النصوص الدينية الصريحة والضمنية التي تدعو إلى عدم استعمال الشطط- من لدن المربى- في ممارسة هذه السلطة التي يتمتع بها نيابة عن المجتمع، وإذا ما حاول المربي تجاوز هذه الحدود -في إطار هذه السلطة- فلأولياء أمور الأطفال أن يرفعوا أمره إلى الحاكم.
وأكبر رادع وموجه للمربى المسلم، هو ضميره الديني، بالإضافة إلى الوازع الأخلاقي والإنساني، وكذا الرابطة الروحية التي تجمع بين المفيد والمستفيد. لهذا اهتمت التربية في الإسلام بتكوين هذا الضمير الديني الأخلاقي عند المؤمن، حتى يكون هذا الوازع أكبر مراقب له في سره وعلانيته، وفي ظعنه وإقامته.
.