Business

الأمومة في قصص القرآن

يقول محمد قطب: «تعطي القصة في القرآن دورًا بارزًا لشخصية المرأة في الإطار العام للسياق القصصي التي وردت فيه، فهي تصورها في لحظة الفعل عبر مواقف تتسم بالانفعال، أو التفعل، أو الحياء أو الذكاء، أو قوة الإرادة أو الحب، أو عاطفة الأمومة، إلى غير ذلك من صفات ترتبط بوجدان المرأة ارتباطًا وثيقًا».

ولعلنا نستطيع أن نقف على بعض المشاعر الوجدانية عند المرأة- على كثرة تنوعها وتفردها في القصص القرآني تمس هذا الجانب العميق الذي يتماس مع أدق الحواس صلة بالطبيعة والتكوين، إنها قيمة وجدانية محددة ترتبط بعاطفة الأمومة كوجدان كبير يتدفق كالنهر يشمل كثيرًا من الوجدانات الأخرى ويغطي عليها وينحيها لتبرز هذه القيمة عالية متألقة.

ولقد ساق القرآن الكريم العديد من نماذج الأمومة الحي تمثلت في قصة أم موسى، وأم مريم وغيرهم مما يدفعنا للوقوف حول هذه النماذج العالية من الأمومة والتي عمقها الإسلام في نفوس المسلمات وحرص على أن تعلو هذه القيمة وسط المجتمعات، وهي القيمة التي تفتقدها كثير من الأمهات في هذا الزمان بسبب الحرب الضروس على تعاليم وقيم الإسلام، مما يجعلنا نحي هذه القيم من خلال قصص الأمومة في القرآن.

 

أم موسى ومكونات العاطفة

تعتبر شخصية أم موسي نموذج لهذه القيمة المتفردة [الأمومة]، تلك القيمة التي تشغل الوجدان كله بما يتضمنه من حب وخوف وقلق ولهفة وترقب وتوتر، لقد اختلطت عواطفها وتميزت في توجهها في موقف عصيب، موقف الأم التي تنتظر بين لحظة وأخري أن يختطف ابنها ليراق دمه على مذبح الآلهة، وليضمن ذلك الدم المراق مكانة فرعون ومنزلته العليا وسطوته من أن تخدش أو يطمع فيها طامع.

ويصور القرآن الكريم هذا الموقف بما يصاحبه من دلالات نفسية فيقول تعالى في سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص: 7)، خطاب رباني إلى أم موسى– والتي كانت فيما يبدو من سياق الآيات مؤمنة بالله– مع العلم الرباني أنها أم مثل كل الأمهات لكنه الوعد الرباني، والتأكيد على إنفاذه فهو يعلم ما يريح قلبها، يا أم موسى أرضعيه، فإذا خفت عليه وهو في حضنك، وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك، إذا خفت عليه؛ فألقيه في اليم! لكن لا تخافي ولا تحزني.

يقول الشهيد سيد قطب: «هذا هو المشهد الأول في القصة، مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح، وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردًا وسلامًا» (الظلال صـ2679).

لكن تتغلب عليها عاطفة الأمومة: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (القصص: 10).

يقول محمد قطب: «إن الجو العام الذي حملت فيه أم موسي بولدها كان يشي بالخوف وتوقع الموت في أية لحظة، وكانت الديار تئن تحت الترقب المصحوب بنزيف الدم وقطع الرؤوس، لخوف فرعون على ملكه، فيأمر بذبح الأطفال، ولأول مرة يصبح الحمل عبئًا على المرأة، لا تريده ولا تحبه، ويشتجر في داخلها صراع بين الرغبة والخوف، الرغبة في الولد والخوف عليه من الموت، إنه الوجدان المتمزق والشعور المسحوق بفعل سطوة الخوف، ويسافر عقلها مع الطفل، حتى كادت تكشف أن أمرها، أصابها الهلع وشارفت على الجنون هذا الوليد قطعة من اللحم يتخاطفه الموج ويترصده الموت أي موقف كهذا تمر به أم ولا تصاب بالجنون والهلع الشديد لقد طار عقلها من فرط الجزع وكادت تكشف عن نفسها لولا أن ربط الله على قلبها».

ويضيف الشهيد سيد قطب إلى المعنى بقوله: «والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية: {فارغًا}.. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف!» (الظلال صـ2679). وتكتمل الدائرة وتتحقق المشيئة الإلهية ويعود للأم اطمئنانها ويصفو وجدانها ويتألق وهي تحتضن ابنها مكرمة معززة مصونة من كل بأس.

ولقد حرر المولى مشاعر كل أم وقدرها، وقذف فيها حبها لوليدها والخوف عليه أكثر من نفسها، لكنه مع ذلك وهب كل أم رباطة جأش إذا كانت التضحية في سبيل دينها.

وهكذا صور النص القرآني حال الأم في صورة بلغت حد الإعجاز واكتملت في هذا المشهد جوانب الصورة الإبداعية وهي تتناول وجدان الأم في أدق المواقف انفعالًا وعصبية، وفي أرق المواقف اطمئنانًا وأمانًا، لقد تنوعت المشاعر واختلط السرد بالحوار والأمر بالاستغاثة والتشويق بالأمل والوعد بالتحقيق والفراق بالعودة والخوف بالأمان.. وكانت أم موسي نموذجًا لشخصية الأم التي تحقق في داخلها الوجداني كل هذه المعاني والمشاعر الإنسانية.

 

امرأة فرعون وعشق الأمومة

كل فتاة تحلم بالزواج وهدفها الأول هي أن تكون أمًا، فإذا حرمت من نعمة الأمومة فكأنما ضاقت عليها الدنيا بما رحبت، وتظل تتلمس رحيق الأمومة.

وآسيا بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد كانت واحدة من ملايين الأمهات التي كانت تحلم كل يوم أن تضم وليدها لصدرها، لكن الله سبحانه عوضها عن ذلك بقلب محب للرحمن أنساها حلم الأمومة، حتى أنها كانت تمقت تصرفات فرعون وجنوده، وعَنَتِهِم مع الأطفال الرضع، وعلى الرغم من كونها أعظم ملوك الأرض يومئذ، في قصر فرعون أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي.. ولكنها استعلت على هذا بالإيمان.

إلا أن ذلك لم يُنسها معاني الأمومة، فما كادت تقع عينها على الرضيع داخل التابوت حتى تحركت نوازع هذه الأمومة وصرخت بأعلى صوتها: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، يقول الشهيد سيد قطب: «لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعدما اقتحمت به عليه حصنه، لقد حمته بالمحبة، ذلك الستار الرقيق الشفيف، لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال، حمته بالحب الحاني في قلب امرأة، وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره، وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف!» [ الظلال: صـ 2680 ].

لقد تحقق لها نعمة الأمومة في الدنيا، والإيمان بالآخرة، والفردوس الأعلى في الأخرة، فقد كافأها الله سبحانه بالإيمان به في الدنيا والنعيم الأبدي في الآخرة في حين حرم فرعون- بل جعله عبره- ذلك لقولها قرة عين لي ولك، فرد عليها: أما لي فلا. فأصبح حقًا موسى قرة عين لها في الدنيا والآخرة، حيث أنبأنا الله بخبرها في حديث نبيه ﷺ الشريف: «أفضـل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» (مسند أحمد عن ابن عباس).

كما روى أبو موسى رضى الله عنه قول رسول الله ﷺ: «كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا: آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» (رواة البخاري ومسلم).

لقد عاشت طيلة حياتها بروح الأم التي لم تلد وليدها، إلا أنها شعرت بالمعاني التي ظنت أنها حرمت منها.

 

أمومة نذور الطاعة

على الرغم من انتظار الأم لوصول وليدها لتملي به عينها، ويسعد بها قلبها، إلا أن زوجة عمران وابنتها مريم نذرت لله طاعة.

فقالت امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} (آل عمران: 35)، وبعد سنوات جاءت نفس إجابة من نذرتها أمها لله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم: 26)، يقول الشهيد سيد قطب: «وقصة النذر تكشف لنا عن قلب امرأة عمران- أم مريم- وما يعمره من إيمان، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك، وهو الجنين الذي تحمله في بطنها، خالصًا لربها، محررًا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه، والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه (تحرر) تعبير موحٍ، فما يتحرر حقًا إلا من يخلص لله كله، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده.. فهذا هو التحرر إذن.. وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية!» [الظلال: صـ396].

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم