Business

أبو العربي مصطفى يكتب: كيف تصنع أمة رجالها؟

الاهتمام بالطفولة من أهم المعايير التي يقاس بها تقدم المجتمع وتطوره، لذلك كانت الطفولة وما زالت ميدانًا خصبًا تتقاسمها علوم مختلفة.

ومنذ الجاهلية وأحرص ما يحرص عليه الأبوين هو التنشئة الجيدة لأطفالهم، حيث كانت الأمهات يأخذن أبناءهن بالشّجاعة؛ لينشأ الطّفل على معاني الرّجولة والعزّة التي تملأ فؤاده، والأنفة ترتسم على صفحات وجهه.

ولقد وقف العالم أجمع في ذهول بعدما رأى البطولة تتجسد في شاب عملية «سلفيت» الذي طعن جندي إسرائيلي مدجج بالسلاح بسكين فاكهة.

لم يكن الشاب عمر أبو ليلي يعلم أنه سيتكمن من القيام بعملية تسجل اسمه في سجل الخالدين، إلا أنه خرج وهو لديه العزم على تخليد اسمه في سجل الشهداء الأكرمين.

كان عمر أبو ليلي يدرك– كما أدرك الجميع منذ تمت العملية– أن حياته أصبحت قصيرة، وأنها أيام معدودات ويلحق بالرفيق الأعلى بعد تحدي جديد لأسطورة الجيش الذي لا يقهر.

عمر أبو ليلي ابن التاسعة عشرة ربيعًا، والذي احتضن جنديًا مفتول العضلات، مدججًا بالسلاح، يمشي متبخترًا كالطاووس، ظن أن سلاحه وقوته ستحميه وتُلقى الرهبة في قلوب الشعب الضعيف في فلسطين، إلا أنه جاءت من شاب صغير لم يشتد عوده، حيث سدد له الطعنات ثم استولى على سلاحه وقتله وأصاب آخر، واستولى على سيارته وأطلق النار على بعض المستوطنين وكان بينهم حاخام أرداه قتيلًا، ثم اختبأ مما جعلت إسرائيل تستنفر كل أجهزتها للبحث عن ذلك الشاب الذي أذاقها الهوان، حتى استشهد بعد نزال وتحدي لهم.

لقد تناسى الجنود الإسرائيليون عن عمد أن حوله كانت تنبت زهور صلبة، تتوق لعيش الحرية أو نيل الشهادة من أجل وطنها، تناسى حتى يستطيع على أرض يوقن بأنه اغتصبها من أهلها أن يعيش ويخيف الجميع، إلا أن الضربة جاءت من جيل لم يعرف للخوف معنى، جيل تربى منذ صغره على حقيقة القوة التي يجب أن تتوفر فيهم، جيل رفض التبعية أو الخنوع أو الإملاءات التي تفرضها إسرائيل على أتباعها، جيل ظل يهتف ويردد الحرية للأوطان، جيل اعتبر نفسه رسل الموت لكل مغتصب جبان، جيل أيقظته صحوة «الله أكبر».

بلا شك كان عمر– وكل شهيد– يحب أن يعيش وينعم بالحياة، لكنها الحياة الكريمة التي ترفع قامته وسط الجميع، بل وتجبر الكل على رفع القبعة له تقديرًا واحترامًا، وهي غير حياة الذل التي يعشقها البعض طالما يأكل ويشرب وينام، وكأنه أصبح صورة من صور الحيوان.

لقد تربى عمر أبو ليلي منذ الصغر أن هؤلاء الجنود المدججين بالسلاح لا يملكون قلوبًا قوية، ولا عزيمة فتية، لكنهم امتلكوا سلاحًا من صُنع أيديهم ليتترسوا خلفه، في حين امتلك عمر وأمثاله قلوبًا زكية، تؤمن بقول ربها: {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ}، {...ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} (الحشر: 13، وآخر آية 14).

لقد تربت هذه الزهور النضرة منذ صغرها أن هؤلاء المدججين بالسلاح قوم لا يفقهون ولا يعقلون، حتى ولو امتلكوا أقوى الأسلحة إلا أن قلوبهم خاوية تخيفهم صيحة «الله أكبر».

لقد تربى كل شهيد في فلسطين منذ الصغر على العديد من المعاني التي وصفتها طفلة بقولها: [لماذا لا نصنع من أنفسنا صلاح الدين ونحرر القدس؟!].

لقد تربى هؤلاء الصغار– ليس في الملاعب وحسب– بل كانت المساجد تصدع بتكبيرتهم النضرة، وكانت الملاحم الوطنية تفخر بوجودهم في احتفالاتهم، بل كانت مسيراتهم على الحدود تزخر بالمئات من الأطفال الذين غرس فيهم روح التحدي للمغتصب، حتى شاهدنا طفلًا يرتدي البامبرز يحمل في يمينه حجرًا وفي شماله رضاعته.

بل في كثير من الأحيان يردد الكبار الهتاف وراء طفل يُحمل على الأكتاف، ليكون ذلك الطفل مشروع قائد، حيث لخصت إحدى الأمهات مسيرة تربيتها لأطفالها بقولها: أربي أطفالي كما ربّاني والدي، على حب هذه الأرض والدفاع عنها، وحمل علمنا عاليًا، أزرع في قلوبهم حب الجهاد، والكفاح ضد الاحتلال، أقول لهم دائمًا نحن في أرض الرباط، واجبنا أن ندافع عن وطننا بكل ما نستطيع.

لقد سطر بعض التربويين سطورًا لغرس معنى القيادة في أطفالنا حتى يتعودوا حمل المسئولية فقال:

  • لا تحمل الحقيبة عن ابنك وأنت ذاهب معه إلى المدرسة.
  • حينما تصطحبه لشراء بعض الأشياء، اترك له بعضها يحملها ولا تحمل أنت كل شيء.
  • حينما يخطأ متعمدًا في المدرسة لا ترسل ورقة بها اعتذار، واتركه كيف يعالج خطأه بنفسه.
  • حينما يُحدث بعض المشاكل مع زملائه أو غيرهم؛ لا تتصدر المشهد لحلها وراقبه كيف يقوم بمعالجتها.
  • حينما يسير معك وينادى عليك بأنني متعب لا تحمله، بل اجلس أنت وهو بعض الشيء، ثم أكملا المسير حتى يتعود على مجابهة الصعاب.
  • لا تشعر بالسرور وأنت توفر له كل متطلباته؛ اتركه بعض الشيء يعرف معنى الحياة ويبحث عن عمل، أو يقوم بإعداد الطعام لنفسه أو يعرف آلية تحمل المسئولية.
  • لا تواجه الدنيا نيابة عنه؛ فتصبح الطبقة العازلة بينه وبين الحياة.

هكذا يولد الطفل في فلسطين، وهكذا يعيش، وهكذا يحمل هم القضية منذ الصغر فيشعر بالانتماء لوطنه، فيقبل ترابه، ويرويه بدمه، لتنبت زهورًا وتخرج ثمارًا تصبح نارًا مستعرة على كل خائن ومغتصب.

هكذا يجب أن نربى أبنائنا، ونحمل هَمَّ عقولهم وقلوبهم لا هم بطونهم، حتى إذا جاء اليوم رفعوا أيديهم إلى السماء راجين المولى سبحانه أن يغفر لكم، فيصير شابًا صالحًا يظل يدعو لك، أو شهيدًا شفيعًا لك أمام الله سبحانه.

والسؤال: لماذا لا نرى مثل هذه النماذج بكثرة في وطننا على الرغم من تكدس الغرب بنماذج مثل هؤلاء الشباب، وآخرهم شاب البيضة بأستراليا؟

للأسف أصبح الفرق واضح بين تربيتنا وتربية الغرب للأولاد، فقد أصبح جل اهتمامنا ببطون أولادنا وتوفير متطلباتهم حتى ولو كثرت، في حين اهتم الغرب بعقولهم وتهذيب سلوكهم.

فالفرق بيننا وبين تربية الغرب يتمثل في اختلاف الثقافات والمجتمع، وتعزيز الثواب وفرض العقاب، والحوار لا الضرب، وغرس ثقافة وآداب الاحترام منذ الصغر، والحزم في التعامل وتجنب التدليل الزائد عن حده.

لقد أيد الإسلام كل مسعًى نبيلٍ يهدف إلى منح الطفل حقوقه الفطرية، واستقراره النّفسي، وحقه في العيش في أمن وأمان، وحياة مستقرة طبيعية في مختلف الأطر.

وإذا بُنيت الأسرة المسلمة على المعاني السامية والقيم النبيلة، فإنّها تسعد في حياتها في ظل مجتمع يقدس هذه القيم، مما يؤدي إلى صلاح المجتمع وسعادته، فصلاح المجتمع مرجعه إلى الأخلاق الحميدة.

وقد حثت الشريعة الإسلامية على الإحسان في تربية الأطفال ورعايتهم؛ بهدف خلق جيل صالح يشعر بالانتماء لأهله ومجتمعه ووطنه.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم