أثبتت الدّراسات أنّ الاهتمام بالطّفولة من أهم المعايير التي يقاس بها تقدّم المجتمع وتطوّره، لذلك كانت الطّفولة- وما زالت- ميدانًا خصبًا تتقاسمها علوم مختلفة، وأصبح الطّفل مركزًا للدّراسات التّربوية، والاجتماعية، والنّفسية، والعضوية، والتّشريحية.
ونظرًا لأهمية هذه الفترة التي يتمّ فيها إعداد وتهيئة الطّفل، أعدت الدكتورة سعدية حسين البرغثي، هذه الدراسة، واتّخذت من القرآن الكريم والأدب العربي مادة تستقي منها المعاني والأفكار، أيام كان العرب في بداوة، وسهولة سلوك، وعفوية خواطر، ورسوخ أعراف وتقاليد. ترى كيف استطاع العرب تربية أبنائهم وتأديبهم؟ وهل استطاعت المرأة العربية أن تهيئ البيئة المنزلية والمناخ المنزلي الملائم للطّفل، بحيث تصبح بيئته قادرة على تكوينه وإعداده؟
تربية الطّفل في العصر الجاهلي
يبدو أنّ المجتمع الجاهلي يحدّد الكيفية التي يجب إعداد الطّفل فيها إعدادًا خاصًا، حيث إنّ الأم ترغب أن يشب ابنها قويًا شجاعًا؛ حتّى تفخر به، ولما كانت حياة البادية قاسية وعنيفة، فإنّ المجتمع يتشدّد في خلق الأنموذج الأمثل للطّفل.
وقد انعكس ذلك في تأديبه وتوجيهه، فالمجتمع البدوي في مسيس الحاجة إلى الرّجل الذي يتّصف بالقوة والشّجاعة للدّفاع عن قبيلته وكيانها، فكانت الأم ترقّص ابنها وتغنّي له بكلام موزون لتهدئته، وأدب ترقيص الأطفال يشترك فيه الرّجال والنّساء، وكانت الأمهات يأخذن أبناءهن بالشّجاعة لينشأ الطّفل والرّجولة ملء إهابِه، والعزّة يفيض بها فؤاده، والأنفة ترتسم على صفحات وجهه.
دور الشّعر في تربية الطّفل وتأديبه
كما يعرض الشّعر جانبًا من الفلسفة الأخلاقية التي كانت تتّردّد على ألسنة الحكماء والشّعراء في ذلك العصر، وقد كان كثير من العرب يحضّون على تربية أبنائهم بالشّعر الرّائع، فقد كتب عمر بن خطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: «مُر من قبلك بتعليم الشّعر، فإنّه يدل على معالم الأخلاق، وصواب الرّأي، ومعرفة الأنساب».
وصايا الآباء لأبنائهم
حاول الآباء تأديب أولادهم، وتقديم الوعظ والإرشاد لهم، وتركوا لهم وصايا خالدة، يغلب عليها أسلوب الأمر والنّهي، والتّرغيب والتّرهيب، وضربوا أمثلة من حياتهم يعظون بها، وينصحون، ويحذّرون. ومن ذلك أن قيس بن عاصم لما احتضر قال لبنيه: يا بَنىَّ احفظوا عني ثلاثًا، فلا أحد أنصح لكم مني: إذا أنا مت فسوّدوا كباركم، ولا تسوّدوا صغاركم فيحقّر النّاس كباركم، وتهونوا عليهم، وعليكم بحفظ المال فإنّه منبهة للكريم ويُستغني به عن اللّئيم، وإياكم والمسألة فإنّها آخر كسب الرّجل».
وصايا الوالدين لبناتهم
ويظهر لنا أنّ الأم كانت توصي ابنتها إذا تأهّبت للانتقال من رعاية أبويها إلى بيت زوجها بوصايا خاصة من تجربتها وخبرتها، تحثّها على مكارم الأخلاق، والمحافظة على زوجها وتوفير الرّاحة له، وقد وأوصت زوجة عوف بن محلم الشّيباني ابنتها فقالت: أي بنية! قد فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشّك التي فيه درجت، إلى رجل لم تعريفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكون لك عبدًا، واحفظي له خصالًا عشرًا يكن لك ذخرًا. أما الأولى والثّانية: فالخشوع له بالقناعة، وحسن السّمع له والطّاعة؛ وأما الثّالثة والرّابعة: فالتّفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح؛ وأم الخامسة والسّادسة: فالتّفقد لوقت منامه وطعامه، فإنّ تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النّوم مغضبة؛ وأما السّابعة والثّامنة: فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التّقدير، وفي العيال حسن التّدبير؛ وأما التّاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرًا، ولا تُفشين له سرًا، فإنّك إذا خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره؛ ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتمًا، والكآبة بين يديه إذا كان فرحًا».
الطّفل في الإسلام
الطّفل بحاجة إلى العاطفة الأسرية في جميع مراحل نموه، ومن هنا اهتم الإسلام بالأسرة وجعلها مكان السّكن، والمودة، والرّحمة، واللّباس، والحبّ، والمكان الذي يعيش فيه الفرد مع من يحب، كما في قوله تعالى: ﴿ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لَكُمْ من أنفسكم أزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إليها وجَعَلَ بينكُم مَّوَدَّةً ورَحْمَةً﴾، وقوله تعالى: ﴿والله جَعَلَ لَكُم منْ أَنفُسِكُم أَزْوَاجًا وجَعَلَ لَكُم مِنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِبَاتِ﴾.
وفي القرآن الكريم سورة تبيّن الوصايا التي يحتاجها الطّفل في حياته؛ لذلك نطلق عليها سورة الطّفولة، وسورة التّربية، وسورة الحكمة، وهي سورة لقمان وفيها يقول عز وجل: ﴿وإذ قَالَ لقمانُ لابنِهِ وهو يَعظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ باللهِ إنَّ الشِّركَ لظلمٌ عظيمٌ * ووصينا الإنسانَ بوالديهِ حَمَلتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا على وَهْنٍ وفِصَالُهُ في عامين أنْ اشْكُر لي ولوالديكَ إليَّ المصير * وإنْ جَاهَدَاك عَلَى أنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بهِ علمٌ فلاَ تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُما في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ ثُمَّ إليَّ مَرْجِعُكم فَأُنبِّئُكُم بما كنتم تَعْمَلُون﴾.
وتختتم في احترام واضح لإرادة الطّفل وحريته: ﴿ومَنْ يُسْلِم وَجْهَهُ إلى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فقد اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى وإلى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْره إِليْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
والاحترام المتبادل بين الزّوجين، وتبادل الحبّ والمودّة والرّحمة، والعمل الصّالح، واكتساب الثّقة المتبادلة من خلال صيانة الحقوق والواجبات، وتجديد العاطفة الحميمة بينهما من خلال إذكاء مشاعر المحبة والتّقدير للآخر؛ كلّها عوامل أساسية لتفعيل تلك العاطفة الأسرية، ولدوام تأثيرها، فالأطفال بحاجة إلى دفء هذه العاطفة.
كما يجب على الوالدين أن يعاملا أولادها بالرّفق واللّين والحزم والشّدة عند اللّزوم، ويتدرجا معهم كلّما تقدّم بهم العمر.
.