أعده: م أحمد شوشة

تنقل المصادر التاريخية التي أرخت للأحداث الكبرى في تاريخ الأمة مثل: الغزو الصليبي، والهجمة التترية، وسقوط الخلافة، والأقصى...الخ صورة المجتمع التي عاصرتها، والآثار التي تركها من عاصروا تلك الوقائع وشاركوا فيها.

 ويوضح د. ماجد عرسان الكيلاني في "هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس" أن هذه المصادر تبين أن "صلاح الدين" لم يكن في بدايته سوى نموذج من خامات جيل جديد، مر في عملية تغيير صححت ما بأنفس القوم من أفكار وتصورات وقيم وتقاليد وعادات كانت قد انتقصت من إنسانيتهم، وتم استبدالها بأفكار واتجاهات المؤمن الذي ارتقت غاياته وسمت رسالته، ثم بوأته المكانة التي تتناسب مع استعدادات كل فرد وقدراته النفسية والعقلية والجسدية، فانعكست آثار هذا التغيير على الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.

ومن أهم من ساعد في خروج هذا الجيل وتهيئة المناخ الجديد له علماء حملوا على عاتقهم إصلاح الأمة في فترات الضعف والانحطاط، من هؤلاء الإمام أبو حامد الغزالي.

حياة الغزالي:

ولد عام 450 هجرية وأخذ علومه الأولية في بلدة طوس ثم رحل إلى نيسابور حيث تفقه على يد إمام الحرمين الجويني. أسند إلىه الوزير نظام الملك التدريس في المدرسة النظامية عام 484هجرية. ترك التدريس ومال إلى الزهد والتصوف وتوجه إلى الشام حيث قضي فيها عشر سنوات ثم عاد إلى بغداد وعقد مجلس الوعظ والتدريس، وحدث بكتاب "الإحياء"، ثم ذهب إلى بلدته طوس وبني لنفسه مدرسة بجوار بيته. استمر يوزع وقته بين التعليم والتإلىف والعبادة حتي وفاته يوم الاثنين في 14 جمادي الآخرة عام 505 ه الموافق 1111م.

واستلهم الإمام أبو حامد الغزالي -عليه رحمة الله - منهاجه في الإصلاح من الأصول الإسلامية مباشرة، واستنار بخبراته الواسعة العميقة في تراث السلف الشامل، ولقد ركز أهدافه لتحقيق أمرين:

الأول: إخراج جيل جديد من العلماء والقادة العاملين الذين تتوحد جهودهم بدل أن تتصارع، وتخلص غايتهم لله وبما يتفق مع الرسالة الإسلامية.

الثاني: التركيز على الأمراض الرئيسية التي تنخر في الأمة من الداخل بدل الاشتغال بالمضاعفات الناتجة عن هذه الأمراض.

قواعد منهج الغزالي في الإصلاح

•  أن الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله، وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا القعود.
•  ما دام المسلمون مسؤولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم، ثم قعدوا عن حمل هذه الرسالة؛ فإنه من الواجب أن يجرى البحث في أسباب هذا القعود من داخل المسلمين أنفسهم.
• ولأن الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب القعود؛ فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد توترات "سلبية" تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام.

ضوابط منهج الغزالي في الإصلاح

•  خلو كتاباته من تحريض المسلمين على"جهاد" الصلبيين وأمثالهم من المغول، وخلوها من التنديد بوحشيتهم وجرائمهم التي كانو يقترفونها في أطراف العالم الإسلامي.
• اعتماد النقد الذاتي: ولذلك لم يلجأ إلى تلمس التبريرات وإلقاء المسؤولية على القوى المهاجمة التي جذبتها عوامل الضعف وقابلية الهزيمة من الخارج، }وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ{(الشوري:30)، }وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ{ (الأنفال:73)، فكان الغزالي يعالج "قابلية الهزيمة" بدل التباكي على"مظاهر الهزيمة".
• الانطلاق من منطلق إسلامي أصيل: فالغزالي لم يجعل منطلقه الأول هو البدء بالإصلاح السياسي أو العسكري أو ما شابه ذلك، وإنما جعله الإصلاح الفكري والنفسي،} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ{ ( الرعد :11)، فبدأ التغيير بخاصة نفسه أولا، ثم أخذ بتغيير ما بأنفس الآخرين، واستمر أصحابه وتلامذته في تطبيق هذا المنهاج، فكان من ثمار ذلك ظهور جيل صلاح الدين.
• عالج قضايا المسلمين باعتبارها بعض مضاعفات قعود المسلمين وعجزهم عن حمل واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك ركز على ضرورة تطهير المجتمع الإسلامي من الأمراض التي كانت تفترسه من داخله، ولذا رأى ضرورة إعداد المسلمين لاستئناف حمل رسالة الإسلام حتى تبلغ الدعوة أقصي العالم، وتتوطد دعائم الإيمان والسلامة فيه.

تشخيص الغزالي لأمراض الأمة في عصره

فحص الإمام الغزالي التراث العقائدي والاجتماعي واجتهد في استبعاد الغريب الضار واستبقاء الأصيل النافع، وبعد ذلك أقام من الأجزاء المنتقاه بناء فكريًا وعقائديًا وتربويًا استطاع من خلال "إحياء علوم الدين" دفعها لتسري مرة ثانية في شرايين المجتمع الإسلامي.

أولا: فساد رسالة العلماء

• القاعدة الأساسية في إصلاح المجتمع الإسلامي وفساده هي نوع العلاقة بين العقيدة والسياسة والاجتماع، فإذا كانت العقيدة صافية راسخة يدور في فلكها كل من السياسة والاجتماع، وارتقي العلماء الممثلون لهذه العقيدة إلى ما يجب أن يكونوا عليه من الإخلاص والتجرد والفهم، واحتلوا المكانة الأولي في توجيه المجتمع، وانتظمت الحياة.

أما حين تدور العقيدة في فلك السياسة ويهبط العلماء لتبرير ممارسات الموجهين للسياسة فإن الخلل والفساد يتسربان إلى المجتمع حتى ينتهيا إلى الانهيار والسقوط.

وهكذا هي العلاقة بين الدين والدنيا؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة "فالدين أصل والسلطان حارس" وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع.

• آثار فساد رسالة العلماء: البعد عن قضايا المجتمع الإسلامي، والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل ورائها، وانتشار الشكلية الدينية.

ثانيا: التعصب المذهبي واختفاء الفضائل العلمية

ثالثا: تفتيت وحدة الأمة وظهور الجماعات والمذاهب

رابعا: انتشار التدين السطحي

ميادين الإصلاح التربوي عند الغزالي:

-العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين

أصل العلل عند الغزالي فقدان العلماء والمربين الذين يعملون للآخرة لا للدنيا، ولذلك كانت الخطوة الأولي في التغيير والإصلاح هي استشعار الحاجة الشديدة لهذا النوع من العلماء وتجديد المؤسسات والمناهج والأسإلىب والوسائل والشروط اللازمة لتخريجهم.

وللعلماء والمربين الذين يقومون بوظيفة تطبيب الناس من مرض حب الدنيا شروط وصفات حددها الغزالي فيما يلي:

• أن لا يطلب العالم الدنيا بعلمه.
• أن تكون عناية العالم بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات متجنبا العلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدل والقيل والقال.
• أن يكون العالم غير مائل للترف في المطعم والمشرب والملبس والأثاث، بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك.
• أن يكون العالم مستعصيا على السلاطين محترزا عن مخالطتهم.
•   ألا يكون مسارعا إلى الفتيا، بل يحترز في ذلك ما وجد إلى الخلاص سبيلا.
• أن يكون شديد العناية بتوبة اليقين.
• أن يكون أكثر بحثه في علم الأعمال وما يفسدها.

-وضع منهاج جديد للتربية والتعليم

اعتبر الغزالي نظام التعليم القائم نظاما فاسد الأهداف والغايات لا يركز على خدمة أهداف الرسالة الإسلامية، وإنما غايته نخريج موظفين للدولة.

فلسفة التعليم عند الغزالي

الأساس هو تحقيق السعادة للإنسان، والسعادة المقصودة هنا هي السعادة الأخروية لأنها شاملة لكل ما هو مرغوب فيه.

ولبلوغ السعادة المنشودة لابد من تضافر العلم والعمل بحيث ينتج عن هذا التضافر تغير في السلوك، وما لم يتغير السلوك لم تحصل هذه السعادة.

والسعادة الآخروية المنشودة وثيقة الصلة بالحياة الدنيا، وبالسياسات التي توجه هذه الحياة.

منهاج الغزالي

تكاملت فيه العلوم الدينية والمهن الدنيوية لأن العلوم عنده كلها إسلامية، ولكنها تنقسم إلى قسمين: الشرعية وهي ما يستفاد من الآنبياء، وغير شرعية وهي ما أرشد إلىها العقل كالطب والحساب.

ومن يقتصر على العلوم الدنيوية دون الشرعية يضيع عمره فيما لا ينفعه في الآخرة، ومن يقتصر على علوم الدين وحدها لا يفهم من الدين إلا قشوره بل خيالاته وأمثلته دون لبابه وحقيقته. فلا تدرك العلوم الشرعية إلا بالعلوم العقلية، فإن العقلية كالأدوية للصحة والشرعية كالغذاء.

ميادين المنهاج عند الغزالي

1. بناء العقيدة الإسلامية، لتكوين عقيدة واضحة حية تحدد مسار السياسات المختلفة وتوجهها.
2. تهذيب النفس والإرادة، للارتقاء من مستوي الخضوع للشهوات والأهواء إلى مقام العبودية لله عز وجل.
3. دراسة العلوم الفقهية وما اشتملت عليه من أنظمة ومبادئ تتطلبها المعاملات الجارية والقضايا الحياتية القائمة والمتجددة.
4. ميدان الحكمة أو الإعداد الوظيفي، ولقد أدرج الغزالي تحت هذا الميدان جميع السياسات والإدارات والمهن التي يحتاجها المجتمع وكيفية توزيع الأفراد حسب استعدادتهم وقدراتهم.

 -إحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهو المهمة التي بعث الله لها النبيين جميعًا، وإذا أهمل العلم والعمل تعطلت رسالة الأنبياء، واضمحل الدين، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشري الفساد وخربت البلاد.

واعتبر الغزالي أن الأجيال المعاصرة كلها مسؤولة عن النهوض لمواجهة المنكر والأمر بالمعروف، وأن التقاعس ذنب.

دوائر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الغزالي:

• الفرد: أن يبدأ بنفسه "فكن أحد الرجلين: إما مشغولًا بنفسك، إما متفرغً لغيرك بعد الفراغ من نفسك، وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك.
• أهل بيته

• جيرانه
• محله
• بلده
• المناطق الحضرية في البلاد عامة
• البوادي
• الإنسانية كلها
• السلاطين

مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

• التعريف بالتعليم
• الوعظ
• الزجر
• المنع بالقهر