Business

عناصر التكامل في بناء شخصية المتعلم

لا بد لكل بِناءٍ من أساس يقوم عليه، ومن دِعامات وأساطينَ يستند إليها، وإنَّ أسمى وأحق شيء بأن يُشيد ويبنَى هو الإنسان، ومهمةُ التشييد بلغت من التعقيد ما إنَّ مفاتحَه لتَنُوء بالعصبة أُولِي القوة من المربِّين، فيكون حالهم معه ما بين مُسدِّد ومُقارِب، وهنا مكمن الصعوبة؛ لأن النشء قد تعددت مشاربه، ومحاولة حصر الجانب النفسيِّ السيكولوجي في بُعْد واحد يكون كسرابٌ يعسر وجوده، فنفسه دائمة التقلُّب والتغيُّر، لا تثبُت على حال، ولا تستقيم على منوال.

وفى هذه الدراسة التي أعدها الباحث: عبد الحكيم فرحي، يرى أن المعارف والمهارات وحدها لا تكفي لبناء شخصية المتعلم، بل لا بد أن ينضاف إليهما ركنٌ أساسي وضروري، وهذا الركن هو القِيم، فلا بد أن تتكامَل وتتضافر فيما بينها؛ حتى يتمكَّن المتعلِّم من الإحاطة الشمولية، ويتحقق لديه التعلم، فلا يبقى حبيس المعارف، ولا يلهث وراء تحقيق المهارات فقط، بل يُكلِّل عمله هذا بأن يتشبَّع برُوح القيم، فإذا شيد البناء على هذه الشاكلة، كان ثابتًا لا يتزحزح، وراسخًا لا يتهادى.

 

المعارف والمهارات لا تكفي لبناء شخصية المتعلم

إن الاهتمام كان بالغًا في تنمية الجانب المعرفي، على اعتبار أن الثقافة الموسوعية هي الأساس لبناء الشخصية، وفي الحالة هذه نجد أن هذا الذي تلقَّى المعارف وشُحِن بها أيما شحن = يظل حبيس أركانها؛ لأنه لا يَعْدُو أن يكون سوى مردِّد لها فحسب، وكم ساد هذا التصورُ لردحٍ من الزمن؛ حتى ظنه الناس أنه كل شيء، لكنه تبيَّن فيما بعد أنه جزء في البناء، لا كل البناء.

فالمدرس يعمل على التخطيط والتحضير للدرس بُغْية تحقيق الأهداف ورصدها عن طريق التقويم، فحينما يلجأ المدرس إليه يتبين ما مدى تحقُّق الأهداف من عدمها، وما مدى تمثُّل المتعلم لها.

 

مفهوم القيم وموقع المتعلم في منظومة التربية منها؟

إن الناظر في مفهوم القيم يَجدُه قد عُرِّف تعاريفَ شتى، لكن حسبنا أن نُورِد تعريفًا للدكتور خالد الصمدي الذي يقول فيه: «القيم هي معايير ومقاييس لتقويم سلوك الفرد».

فبالرجوع إلى الوثائق التربوية، نجد أن القيم قد حظِيَت بالنصيب الأوفر، لا سيما في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، من خلال المرتكزات والغايات الكبرى في القسم الأول، وكذلك الكتاب الأبيض في جزئه الأول، وتحديدًا في الجزء المتعلق بالاختيارات والتوجهات في مجال القيم، والتي نجملها كالآتي:

  • قيم العقيدة الإسلامية السمحة.
  • قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية.
  • قيم المواطنة.
  • قيم الهُوِيَّة الحضارية.

فهذه هي القيم التي يُنتظر أن تترسَّخ لدى المتعلم ويتشبَّع بها، وهذه مهمَّة أعقد ما تكون؛ لكونِها تحتاج إلى تضافر الجهود، وتكثيفٍ للإرادات الراشدة التي تصبو إلى تحقيق التنزيل السليم، والتوجيه المحكم القويم للقِيَم، فالقيمة تبدأ من المستوى البسيط إلى آخرَ عالٍ رفيع، فلا بد من مراعاة حاجات المتعلمين، ومستوى القيمة الذي يناسبهم، فقيمة «الحق» مثلًا تبدأ من إدراك المتعلِّم للحق في مستواه الأول؛ كالحق في اللعب والأكل والرعاية...، إلى أن يصلَ إلى الحق في التعبير وإبداء الرأي، فالقيمة نفسُها لا تتغيَّر؛ وإنما مجالها الذي تعيش وتحيا فيه، والمؤشرات الدالَّة عليها هي التي تتغيَّر وتتطور، وتقسيم هذه المجالات هي بحسب الفئة العمرية للمتعلِّم التي سَمَّاها الخبير التربوي خالد الصمدي بالدوائر الأربع للقيمة، وهي كالتالي: الدائرة الذاتية، الدائرة الجماعية، الدائرة الوطنية، الدائرة الكونية:

  • الدائرة الذاتية: وفيها تظهر القيمةُ في شكل قناعات فردية للشخص التي تضبط عَلاقته بخالقه وبنفسه؛ مثل قيمة الصدق والإيمان والتقوى والإخلاص، وغيرها من القيم التي يحرص الشخص على التمسُّك والالتزام بها أولًا في نفسه، قبل أن يدرك أهمية إظهار تجلياتها وأثرها في سلوك خارجيٍّ جماعي.
  • الدائرة الاجتماعية: وفيها تتطور القِيَم لتطبع سلوك الفرد في عَلاقاته العامة، ولا تظهر آثارُها إلا من خلال التفاعل مع الغير، وتنمو هذه القيم في السياق الجماعي والاحتكاك بالآخر، ومِن ذلك: القيم التي تأخذ صيغة التفاعل؛ كالتراحم، والتعاون، والتواضع.
  • الدائرة الوطنية: وهي دائرة تتجاوزُ فيها القِيم العَلاقاتِ الاجتماعية الناتجة عن الاحتكاك مع المحيط المحدود والمباشر، إلى الإحساس بالقواسم المعنوية المشتركة التي تجمع الجماعاتِ المتباعدة، وتتجلى هذه القواسم بالأساس في الدين والانتماء الجغرافي، ومِن ذلك قِيَم حب الوطن، والافتخار والاعتزاز بالمقوِّمات الحضارية، والتضحية من أجل حماية الخصوصية الدينية والثقافية، وتعتبر هذه القيم أساسًا لبناء الكيانات، وضمانًا لاستمرار وجودها.
  • الدائرة الإنسانية والكونية: وهذه الدائرة تتجاوزُ فيها القِيمة حدودَ العَلاقات الاجتماعية، والخصوصيات الحضارية لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم، لتنفتح على البُعْد الكونيِّ لتُصبِح معاييرَ ومقاييس للتعامل مع الآخرين، باعتباراتهم الإنسانية التي يشترك فيها كلُّ الناس، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والحضارية؛ كالعدل والحرية، والمساواة في الكرامة الإنسانية، وتنمو هذه القيم في سياق الاحتكاك العلميِّ والثقافي والاجتماعي بالأمم والشعوب الأخرى بصفة مباشرة أو غير مباشرة.

هذه الدوائر الأربع تجعلُ المتعلِّمين يتعرَّفون على القِيم، لكن لترسيخها لا بد من سلك مجموعة من المراحل التي ذكرها الدكتور خالد الصمدي في كتابه (دليل تنمية القدرة على تدبير الاختلاف)، وهي: «الانتباه، الاهتمام، التفاعل، الاقتناع، الدفاع، نقل القيمة».

 

إسقاط (سلم المراقي الست) للقيمة على مؤسسة تعليمية

على سبيل المثال: قيمة الصدق أنموذجًا

فريق عمل بالمؤسسة يضم (الإدارة- الأساتذة- جمعية الآباء- وأولياء التلاميذ)، يعملون على تفعيل المشروع من خلال التركيز على قيمة الصدق، وذلك باتباع المراقي الست.

بدأوا بوضع ملصقات في كل ركن وزاوية من المؤسسة، فيها حديث نبويٌّ يحث على «الصدق».

مراحل تطور القيم لدى المتعلمين:

  • الانتباه: بعد دخول المتعلمين إلى المؤسسة، وجدوا هذه الملصقات في كل جهة وناحية، مما أثار حسَّهم الفضوليَّ، وكانت لديهم رغبةٌ جامحة: لماذا تم وضع هذه الملصقات؟
  • الاهتمام: بدأ المتعلِّمون يطلبون التفسير والمزيد من المعطيات حول الموضوع، فبادروا إلى استفسار الإدارة والحراس العاملين.
  • التفاعل: مرحلة المساهمة والمشاركة في مزيد من المعطيات حول الموضوع، وبعد تعرُّفهم على الصدق، أصبحوا بدورهم يتفاعلون مع القيمةِ مِن خلال أدائهم لعمل مسرحيٍّ يُجسِّدون فيه مكانة الصدق، وخطر الكذب، ويقومون بإعادة نشر تلك الملصقات على صفحاتهم الخاصة.
  • الاقتناع: تبنِّي مواقف من قضايا تعرض لديهم؛ بحيث يعبرون عن نفورهم التام من التلاميذ الذين عُرف عنهم الكذب.
  • الدفاع: ردود أفعال على مثيرات خارجية؛ كأن يدافعوا وبشدة عن دينهم، فالهدف من هذه المرحلة هو صدور ردود أفعال فقط.
  • نقل القيمة: المبادرة الحرَّة الواعية في التعريف بالقيمة، التي تصدر عن الشخص بشكل تلقائي، ويتمثل تلك القيمة في أسرته ومع أقرانه ومحيطه، ويكون صادقًا مع أصدقائه، والمجتمع أجمع، لترسيخ قيمة الصدق في بُعْدها الحضاري، فتكون هذه القيمة حلًّا لمجموعة من المشاكل التي تعتري المنظومةَ التربوية، فضلًا عن مساهمتها في رقي المجتمع.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم