برزت التربية المهنية في العقود المتأخرة واتخذت موقعًا مهمًا في النظم التربوية المعاصرة، بحيث أصبحت تشكل ركنًا أساسيًا فيها، وذلك لارتباطها بحياة الناس الاجتماعية والاقتصادية ولأهميتها في استمرار المجتمعات البشرية وتنميتها، وبالرغم من هذا الاهتمام بالعنصر البشري المؤهل والمدرب، إلا أن الأفراد الذين يتوجهون إلى الحرفة، أو المهنة كانوا على الأكثر من أبناء الطبقات الفقيرة، وغير المتعلمة وذات المكانة الاجتماعية المتدنية.
إن التربية الإسلامية لم تغفل الحرف والمهن والصناعات التي تعد الركيزة الأساسية في تنمية المجتمع والأفراد وتقدمهم ورقيهم، وعنصرًا مهمًا في عمارة الأرض، والتربية الإسلامية تركز على تعلم الحرف، والمهن والصناعات ومزاولة العمل والتجارة، باعتبار ذلك من أشرف وسائل الكسب، ولقد وصلت الأمة الإسلامية إلى درجة عالية من الحضارة والمدنية عندما طبقت توجيهات الخالق سبحانه وتعالى، وسنة نبيه الكريم، حيث ربطت العلم بالعمل والعمل بالإيمان، واستغلت جميع طاقاتها الفردية والجماعية.
وفى دراسة بعنوان: «التربية المهنية بين الفكر التربوي الإسلامي، والفكر التربوي الغربي المعاصر»، للدكتور خالد محمد أبو شعيرة، الأستاذ المساعد بجامعة الزرقاء الخاصة بالأردن، هدف إلى تسليط الضوء على التربية المهنية في الفكر التربوي الإسلامي والفكر التربوي الغربي المعاصر، وإبراز اهتمام المربين المسلمين والمعاصرين في مجال التربية المهنية بغرض الوصول إلى صورة توفيقية، بحيث تتمثل فيها الأصالة والمعاصرة.
أولًا: التربية المهنية في القرآن الكريم
توجد إشارات كثيرة عن العمل في القرآن الكريم، توضح المكانة التي حظى بها والمنزلة التي احتلها، واهتمام القرآن الكريم بالعمل ينطلق من كونه فعلًا خلاقًا ورسالة إنسانية تساوي الحياة واستمرارية العيش فيها كدار تكليف وامتحان وعبادة، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10)، فهذه الآية الكريمة بينت ودلت على أنه إذا أديتم الصلاة- الجمعة- فيؤذن لكم ويباح أن تتفرقوا وتنتشروا في الأرض، وتبتغوا من فضل الله؛ وهو الرزق والتصرف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم، وقد حثت كثير من آيات القرآن الكريم على الكسب بصيغة الأمر، ويتكرر هذا الحث إلى الدرجة التي توحي بأن في القرآن دعوة إلى العمل بمعناه الشامل، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} (نوح: 19 - 20)، ففي هاتين الآيتين إشارة إلى التكييف الذي تشكلت بموجبه الأرض، بحيث تكون ملائمة لسعي الإنسان، وانتشاره فيها، وتمكنه من تسخيرها لخدمته، وقال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا..} (المزمل: 20).
فهذه الآية ترسم صورة متكاملة للمسلم الحق الذي يوفق بين عبادة الله والإخلاص له، وبين الضرب في أنحاء الأرض، يستخرج منها الخير، ويجني منها النعمة.
ومن النصوص التشريعية التي تعد ركيزة قوية في تأسيس العمل التجاري قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 275) والتجارة مهنة كرمها الإسلام، حيث بين القرآن الكريم أنه كان لقريش رحلتان تجاريتان: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} (قريش: 1 - 2).
ثانيًا: التربية المهنية في السنة النبوية
لقد جاءت نصوص القرآن الكريم واضحة وقوية في الحث على العمل والكسب الطيب، ولهذا جاءت أحاديث النبي ﷺ مدعمة ومفصلة للمعاني التي تضمنتها الآيات الكريمة، كما أنها صبت في نفس الاتجاه، فمفهوم العمل في السنة النبوية «مفهوم» شامل لجميع أنواع العمل، سواء أكان صناعة أم تجارة أم زراعة، ومن أحاديث رسول الله ﷺ التي تحث على العمل اليدوي واحترام أهله، وتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى يحب نتاج عمل اليد، قوله ﷺ: «ما أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده...» ويقول: «من بات كالًا في طلب الحلال بات مغفورًا له».
ويرغب رسول الله ﷺ في العمل فيذكر أن العامل له من الأجر ما لصائم الدهر وقائم الليل، فيقول: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار والليل». وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «من أمسى كالًا من عمل يده أمسى مغفورًا له» وكما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: «إن خير الكسب يدي عامل إذا نصح». وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: «إنَّ أطيبَ ما أكلَ الرجلُ من كسبِ يدِهِ وولدُهُ من كسبِهِ»، وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «اليد العليا خير من اليد السفلي... ومن يستغن يغنه الله»، فالحديث يدعو المسلم إلى العمل بيده في الزراعة والصناعة والتجارة وغير ذلك من المجالات التي أباحها الشارع الكريم، فهو دعوة إلى عدم الكسل والجلوس من ناحية، ودعوة إلى بذل الجهد في البحث عن العمل من ناحية أخرى.
ثالثًا: التربية المهنية في أقوال المربين المسلمين
لقد احتلت التربية المهنية والعمل المهني مساحة واسعة في الفكر الإسلامي، باعتبار أن التربية إعداد للإنسان الصالح المنتج لنفسه ولمجتمعه والمتقن لعمله، وسيأخذ الباحث في دراسته أقوال الصحابة، ونظرة المفكرين المسلمين للتربية المهنية ليرى إلى أي حد انعكس ذلك في أقوالهم وأفعالهم. فلقد كان مجتمع الصحابة مجتمعًا عاملًا، لا تجد فيه كسلًا ولا خمولًا، بل تجد فيه القوة والنشاط والدأب في طلب الرزق، ومن الآثار الواردة عن صحابة رسول الله ﷺ التي تحث على العمل، وتدعو إليه قول عمر بن الخطاب: «إني لأرى الرجل فيعجبني فأسأل: أله حرفة؟ فإذا قالوا: لا؛ سقط من عيني»، ومما يروى عنه قوله: «تعلموا المهنة فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنته» وقوله: «لأن يأتيني الموت، وأنا أبيع وأشتري، خير من أن يأتيني وأنا ساجد لربي». وليس العمل للحاجة فحسب، بل لتحقيق مفهوم الاستخلاف، وهذا ما فهمه عمر عندما قال لأبي هريرة: «ألا تعمل؟ قال: لا أريد العمل، قال: قد طلب العمل من هو خير منك، يوسف إذ قال: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}»، وعن ابن مسعود قال: «إني لأبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة»، وروى عن عبد الله بن الزبير أنه قال: «ما أحب إلا أن يكون المسلم محترفًا، إن المسلم إذا احتاج أول ما يبذل دينه»، وروي عن عائشة قالت: «كان أصحاب رسول الله ﷺ عمال أنفسهم، فكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم». أي: تكون لهم روائح من العرق بسبب العمل، فأمروا بالاغتسال لحضور الجمعة كي لا يتأذى بعضهم من روائح بعض.
أما تعليم الصغار الكسب فقد ورد فيه بعض الآراء المختلفة إلا أنه ليس محرمًا. إذ يُروى عن عثمان بن عفان أنه قال في خطبة له: «لا تكلفوا الصغير الكسب فإنكم متى كلفتموه الكسب سرق، ولا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب، فإنكم متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها، وعِفُّوا إِذَا أَعَفَّكُمُ الله وعليكم من المكاسب ما طاب لكم»، والمقصود بالصغير هنا ما دون فترة البلوغ، أما تكليف الصغير بعد البلوغ فلا بد أن يسبقه تعلم صنعة من الصناعات قبل أن يتجه للكسب، وروي عن الحسن أنه قال: «مطعمان طيبان: حمل الرجل على ظهره وعمله بيده».
ولقد أقر الإسلام حق المرأة في مباشرة العمل وجعل النساء شقائق الرجال، يقول سبحانه وتعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} (النساء: 22). وكان كثير من النساء يشغلن أوقات فراغهن بما يعود عليهن وعلى المجتمع بالخير والنفع، قالت خولة بنت قيس: «كُنَّا نَكُونُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ نِسْوَةً قَدْ تَخَالَلْنَ وَرُبَّمَا غَزَلْنَا، وَرُبَّمَا عَالَجَ بَعْضُنَا فِيهِ الْخُوصَ، فَقَالَ عُمَرُ: لأَرُدَّنَّكُنَّ حَرَائِرَ فَأَخْرَجَنَا مِنْهُ إِلا أَنَّا كُنَّا نَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ فِي الْوَقْتِ، وَكَانَ عُمَرُ يَخْرُجُ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ فَيَطُوفُ بِدِرَّتِهِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَيَتَفَقَّدُهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ هَلْ أَصَابُوا عَشَاءً وَإِلا خَرَجَ بِهِمْ فَعَشَّاهُمْ ».
وقد أشار الشيخ الكافي (1939) إلى أن: «كل حرفة وصنعة فيها مصالح العباد كالتجارة والنجارة والحدادة وغيرها لها اعتبار وشأن عظيم في الشرع لأنها من فروض الكفاية والمباشرون لها يثابون إن أتقنوا ولم يغشوا لقيامهم بفروض الكفاية»، فهذا أبو حامد الغزالي يقول: «إن الصناعات والتجارات لو تركت؛ بطلت المعايش، وهلك أكثر الخلق، فانتظام أمر الكل بتعاون الكل، وتكفل كل فريق بعمل. ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لعطلت البواقي وهلكوا.
ويقول الشيباني (1986) «الفقير يحتاج إلى مال الغني، والغني يحتاج إلى عمل الفقير، فهنا أيضا الزارع يحتاج إلى عمل النساج لتحصيل اللباس لنفسه، والنساج يحتاج إلى عمل الزارع لتحصيل الطعام والقطن الذي يكون منه اللباس».
ويقول المارودي (1993) «معايش الناس على أربعة أقسام: زراعة، وصناعة، وتجارة، وإمارة، فمن خرج عنها كان كلًا عليها». أما ابن القيم الجوزية، فقد تحدث عن حاجة الناس إلى قسم من الصناعات أكثر من غيرها، وأن الدولة تتدخل لتجبر قسمًا من الناس على مزاولة العمل الذي تحتاجه الأمة لحاجة ماسة: «إن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض عين عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم، أو نساجتهم، أو بنائهم صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم ويجبرهم ولي الأمر عليهم بعوض المثل» ابن القيم الجوزية (1990).
ومن هنا، فإن بعض الفقهاء اعتبروا تعلم المهن اللازمة «لقيام مصالح الدنيا» داخلًا في فروض الكفاية طالما أن وجود من يقوم بهذه المهن في المجتمع فرض كفاية يقول النووي: «وأما ما ليس علمًا شرعيًا، ويحتاج إليه في قوام أمر الدنيا، كالطب والحساب فرض كفاية أيضًا».
المبادئ التي استندت إليها التربية المهنية في الفكر التربوي الإسلامي
بالتدقيق والتأمل في الفكر التربوي الإسلامي، يخرج الباحث بعدد من المبادئ التي تشكل في مجملها قاعدة صلبة للتربية المهنية وهي:
أولًا: العلم
اهتم الإسلام بالعلم اهتمامًا كبيرًا وذلك لما للعلم من أهمية كبيرة في حياة المسلم، أما من ناحية تعلم المهن والعلم بها، فالإسلام يقر بذلك؛ لأن الأمة لا تكون حية وقوية إلا إذا تعلمت، ويعد ذلك من أسباب القوة التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بالإعداد لها، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60)، فالعلم أصبح ضرورة من ضرورات الحياة وسببًا عظيمًا من أسباب الرزق، فوجب شرعًا على المسلم أن يتعلم في شتى مجالات الحياة، ولقد شجع النبي ﷺ على تعلم الصنائع فقد حصل المسلمون على ثلاثين حدادًا في فتح خيبر، فقال النبي ﷺ: «أتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعتهم، ويتقوون بها على جهاد عدوهم» فتركوا لذلك، فمن تعلم عليهم الصناعة سمى صانعًا أو معلمًا وبما أن العامل جزء أساسي من المجتمع، فهو مطالب بالعلم بأمور الدين إلى جانب العلم بحرفته أو مهنته.
فالإسلام يأمر بالعلم والعمل من أجل العمل، وأنه لا إيمان بدون علم وعمل، لهذا عني رواد الفكر الإسلامي بالعلم والعمل معًا، تحكمه إجراءات منهجية ليست في عزلة عن ذاته المؤمنة ويذهب في ذلك الفارابي إلى القول: «إن الكمال التام للإنسان إنما هو بالعلم والعمل معًا».
ثانيًا: التوجيه المهني
لقد عرف المسلمون وأدركوا فكرة توجيه التلاميذ تربويًا وفقًا لمواهبهم وقدراتهم واستعداداتهم، وكانت عملية التوجيه تبدأ بعد المرحلة الأولى للتعليم، ومعنى هذا أنهم كانوا ينتظرون الطفل حتى تنمو قدراته، وتبرز استعداداته وتتمايز بصورة يمكن التعرف عليها، ومن ثم العمل على توجيهها الوجهة التي تلائمه، وما زالت هذه الفكرة تطبق في التربية الحديث، حيث لا يوجه التلاميذ إلى أنواع مختلفة من التعليم إلا بعد اجتياز مرحلة التعليم الابتدائي، وذلك حتى تظهر وتتبلور قدرات التلميذ ومواهبه.
وصدق رسول الله ﷺ القائل فيما رواه الطبراني عن ابن عباس: «اعملوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»، وانطلاقًا من هذا التوجيه النبوي في مراعاة ميول الأفراد ذكر ابن قيم الجوزية: «... ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وهو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له قدرته، فلا يحمله على غير ما كان مأذونًا شرعًا، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع مستعدًا لها قابلًا لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها»، وأكد الزرنوجي ذلك بقوله: «إن على المعلم أن يشخص المتعلم ومستوى ذكائه، ثم يوجهه إلى العلم أو الحرفة التي تناسب استعداداته وتكوينه».
ثالثًا: التخصص في العمل المهني
بعد أن يأخذ الإنسان قسطه من العلوم الواجبة، فإنه ينبغي على الأمة أن تهتم بمبدأ التخصص، كل يتخصص في علم من العلوم أو في مجال من المجالات، وكل حسب قدراته واستعداداته. وإليه أشار رسول الله ﷺ في قوله: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وبيان هذا في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (الزخرف:32) يعني أن الفقير يحتاج إلى مال الغني، والغني يحتاج إلى عمل الفقير، فهنا أيضًا الزارع يحتاج إلى عمل النساج لتحصيل اللباس لنفسه، والنساج يحتاج إلى عمل الزارع لتحصيل الطعام والقطن الذي يكون منه اللباس لنفسه، ولم يفت ابن خلدون أن يفرد فصلًا لمسألة التخصص العلمي، أو المهني ويرى أن المرء إذا أجاد مهنة ما، ورسخت في نفسه، فإنه لا يجيد بعدها مهنة أخرى إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها.
رابعًا: التربية المهنية لمحاربة البطالة
لقد حض الإسلام على العمل والسعي في طلب الرزق، ونَفَّرَ من مظاهر الكسل والتواكل والبطالة، ولا يمكن للمجتمع المسلم أن يحقق تلك النصوص في واقع الحياة، ما لم يتيسر لأفراده أن يتعلموا الحرف والمهن التي تمكنهم من الحياة الكريمة، وتبعدهم عن ذُلِّ الحاجة والسؤال، ومن أظهر مظاهر الاتجاه العملي في تراثنا الإسلامي، أن ليس في القرآن لفظ التواكل بأي صيغة من الصيغ على الإطلاق، وإنما الذي فيه، توكل على الله مسبوق بالعزم ومشروط به، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159).
والتربية الإسلامية تعد الإنسان المنتج الذي يفيد نفسه ويفيد غيره، وليس ما فعله رسول الله ﷺ مع الرجل الذي جاء يسأله عن المال، فأعد له عصا وأمره بشراء فأس بعد أن باع بعض مقتنياته إلا دليلًا على محاربة البطالة والكسل، وقد حذر عمر بن الخطاب من الكسل، فقال: «لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، بل امشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور»، وأخرج البيهقي عن ابن الزبير: «أشر شيء في العالم البطالة».
خامسًا: إتقان العمل وأهميته في التربية المهنية
لم يكتف الإسلام بالحث على القيام بالعمل وحسن توزيعه على ما هو أهل له، وحسن تقسيمه إلى عمليات إنتاجية متلاحقة؛ إنما تجاوز ذلك بإتقان العمل وإخلاص النية فيه، والنية الصالحة أساس العمل الصالح، وإتقان العمل يتطلب جهدًا جسيمًا وفكريًا، والمسلم مأمور بإتقان العمل، لقوله ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه».
إذًا فالعمل لا بد أن يكون حسنًا ومتقنًا ومتسمًا بالإخلاص وهو معيار مهم في بناء الإنسان والحضارة، فالغزالي يقول: «كل الناس هلكي إلا العالمون، وكل العالمين هلكى إلا العاملون، وكل العاملين هلكى إلا المخلصون».
أما نصير الدين الطوسي فيؤكد على ثلاثة أركان لا قوام للإتقان إلا بها وهي «الجد»، «والمواظبة»، و«الهمة» ويقول راسمًا الخطوط العريضة التي ينبغي أن يسلكها المتعلم: ثم لا بد له من الجد والملازمة، ولم يفت الإمام الشيباني أن يؤكد ضرورة تحسين العمل وإتمامه لقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} (النحل: 92)، وهذا مثل ذكره الله تعالى لمن ابتدأ طاعة، ثم لم يتمها، كالمرأة التي تغزل، ثم تنقض ذات غزلها.
فالمهني أو الحرفي المسلم، إنما يستمد أخلاقه من هذا الدين، وذكر البخاري في الأدب المفرد، قول رسول الله ﷺ: «ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق»، فالحكم على العمل أصالح هو أم غير صالح، ومعرفة قيمته، يرجع إلى مراعاة المبادئ الأخلاقية التي أمر بها الشارع من الابتعاد عن الغش والاحتيال والخديعة والسرقة، وما إلى ذلك من مساوئ تنقص من قيمة العمل حتى لو أعجبنا، من أجل ذلك نجد ابن جماعة ينصح المعلم «أن يتنزه عن دنيء المكاسب ورذيلها طبعًا، وعن مكروهها عادة وشرعًا».
وقد ركزت كتب الحسبة على الجوانب المهمة في حياة الحرفي اليومية، مثلًا: الأمانة والصدق والإتقان والتبكير في العمل، وعدم التعاقد على أعمال كثيرة لا يستطيع أداءها في الوقت المناسب.
كان لشيوخ الطوائف المهنية في المجتمع الإسلامي تقاليد مرعية، فكل طائفة مهنية كانت تضم الصبية والعرفاء والمعلمين، ويرأسهم الشيخ، وكان ترقية العامل من درجة إلى درجة تعلن في حفل إسلامي بهيج، يحضره أساتذة الحرفة ويبدأه شيخ الطائفة بإجراء إسلامي: هو سؤال الحاضرين أن يقرأوا فاتحة الكتاب، والشيخ ممسك بيده غصنًا يضعه على رأس طالب الترقية، ويوجه إليه أسئلة تتصل بمؤهلاته الحرفية، ويتلقى إجاباته، ثم يطوقه بشال رمزًا لممارسة المهنة، ويزوده بالنصائح ويحرضه على اتباع الدين وعلى النهوض بالمهنة وأخلاقها.
سادسًا: التطبيق في التربية المهنية
إن نظرة الإسلام تقوم على المزج بين النظرية والتطبيق العملي، والمتتبع لتاريخ الفكر التربوي الإسلامي يصل إلى هذه الحقيقة، حيث ترسخت منذ العهد النبوي: فالمسلمون يتعلمون ويطبقون، ومن الآثار التي تساعد لبيان أهمية التطبيق، ما يروى عن الرسول ﷺ: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»، وعن أبي الدرداء أنه قال: «إنك لن تكون عالمًا حتى تكون متعلمًا ولا تكون متعلمًا حتى تكون بما علمت عالمًا».
لقد نهج العلماء المسلمون نهجًا وسطًا بين العقل والجسم أو بين الفكر والعمل، ويعكس هذا المنهج الأهمية التي يولونها لكل من العلم والعمل، والنظرة المتوازنة التي يعتمدونها للنظرية والتطبيق، وقد لخص الغزالي العلاقة بين العلم والعمل بقوله: «إن العلم بلا عمل مجرد خيال، والعمل بلا علم لا يمكن أن يكون».
الأسس والمبادئ التي استندت إليها التربية المهنية في الفكر التربوي الغربي المعاصر
أولًا: اقتران العلم بالعمل والنظرية بالتطبيق
لقد ركزت التربية المعاصرة على الجوانب التطبيقية، والمهارات العملية، كعنصر أساسي من العناصر التي تتكون منها العملية التعليمية التعلمية، حيث إن الأنشطة التطبيقية والإنتاجية ضرورة ملحة في المناهج والبرامج الدراسية، وتعد مناداة (بستالوتزي) بضرورة اقتران العلم بالعمل من الآراء التربوية الرائعة في عصره؛ حيث يقول: «لا يحتاج الإنسان في حياته إلى الثرثرة بقدر ما يحتاج إلى الخبز الذي لا يستطيع كسبه دون عمل، وعلى الإنسان أن يتعلم حرفته ولا يتكلم عنها قبل أن يتقنها»، أما جون ديوي (1963) فيقول: «لا يوجد شيء له مكانة المعرفة الحقيقية إلا إذا كان نابعًا من الممارسة، لذا يجب اشتقاق نظرية المعرفة من التجربة التي أصابت نجاحًا كبيرًا في صنع المعرفة»، ويقول جون لوك: «إن التربية لا بد لها من أن تهيئ الفرد للحياة العملية سواء أكان ذلك على هيئة حرفة أو مهنة».
ثانيًا: الاهتمام بالتوجيه التربوي والمهني
يوجد تطابق قد يكون تامًا بين آراء العلماء المسلمين وعلماء الغرب في العصر الحالي وذلك ما قاله: وليم جمس، أحد أصحاب المدرسة البراجماتية أو الذرائعية: «أشياء كثيرة ومتنوعة تكون أمامي ولا أدخلها في خبراتي، لأنها لا تنال اهتمامي، ما يدخل ميلي هو الشيء الوحيد الذي يلقى عليه الضوء أو الظل، وبكلمة واحدة يقودني إلى الأمام أو إلى الخلف»، أما بارسونز الذي يعده الغربيون الأب الشرعي للتوجيه المهني في الولايات المتحدة فقد عبر عن الحاجة الملحة للتوجيه والإرشاد المهني بقوله: «هناك حاجة ماسة للتوجيه والإرشاد حتى يلقى بالأفراد في خضم المهنة في عالم معقد، ليغوص الفرد أو يطفو حسب الحالة في فترة الانتقال الحرجة بين التعليم والتمهين. كما يقول أيضًا: «إن عملية التوجيه المهني تتطلب تزويد الفرد بالمعلومات الكافية عن المهن والحرف التي يرغب فيها، هو وغيره من الأفراد، وما تتطلبه من استعدادات أو قدرات، حتى يتمكن من اختيار المهنة أو الحرفة التي تلائمه».
ثالثًا: تقسيم العمل
لقد أظهر علماء الفكر المعاصر اهتمامًا كبيرًا بدراسة قضايا العمل، ويمكن القول إن الاهتمامات الأولى استمدت مقوماتها من بحث تقسيم العمل عند «آدم سميث» والتي أكسبته شهرته الذائعة في الفكر الاقتصادي، كما استند «دور كايم» إلى نفس القضية في التدليل على أن نمو تقسيم العمل عملية تاريخية ضرورة تؤدي إلى تزايد التضامن الاجتماعي، وكما يقول (بالدين وهوج): «فإن ظاهرة تقسيم العمل قديمة ومرت بمراحل متعددة بدأت في العصور القديمة بالتخصص المهني، وذلك بأن يقوم كل فرد بنشاط إنتاجي معين كالرعي، أو الزراعة، أو النجارة، إلى غير ذلك من مهن مختلفة، ثم تدرج تقسيم العمل بعد ذلك في القرون الوسطى بتخصص كل فرد في إنتاج سلعة معينة، ومبادلتها بالسلع التي ينتجها غيره من أفراد المجتمع، ولعل تقسيم العمل ظاهرة للنظام الرأسمالي إلا أنها اتسعت في ظله».
رابعًا: التعليم المهني للمرأة
لقد جاءت الدراسات المعاصرة مؤكدة على المهن التي دعا إليها الإسلام والتي تتناسب مع طبيعة المرأة، ففي الدراسة التي قام بها ميتشل Mitchell (1977) وهدفت إلى التعرف على اتجاهات الطالبات نحو التعليم المهني وخلصت إلى أن هناك اتجاهات إيجابية لدى الطالبات نحو التعليم المهني، وخاصة التي تناسب طبيعتهن مثل: التمريض، والسكرتارية، والبيع ومهن أخرى تناسبهن كإناث، فالتربية المعاصرة ساوت في التعليم بين الذكر والأنثى، واعتبرت أن حق المرأة في التعليم مكفول لها، بل إن المناهج الدراسية راعت طبيعة المرأة، فأدخلت بعض العلوم التي تتناسب معها خاصة تلك التي تتعلق بالتربية الأسرية والمنزلية.
خامسًا: تكريم العمل المهني اليدوي واحترامه
لقد أكدت التربية المعاصرة على أهمية العمل في تكوين عقل الإنسان وشخصيته وعلى احترام العمل وشرفه، ورأى مفكروها أن من حق الإنسان وواجبه، أن يعمل، وأن يمارس العمل الذي يحب، والذي تؤهله له قدراته وقابلياته ومواهبه، وبذلك شهد التقدم الصناعي والتكنولوجي والتجاري تزايد احترام العمل والاهتمام بالمهن. وهذا ما ذكره (هندرسون) بقوله: «إن على أي دولة أن تتحتم على شبابها في سن معينة أن يعملوا في المزارع والمصانع بعض الوقت، حتى يعتادوا الخشونة وتحمل المشاق ويحترفوا العمل اليدوي ويكرموه، بل يقبلون عليه في فخر واطمئنان، ولو علت مراكزهم في الحياة الاجتماعية...»، وقد أكد مؤتمر وزراء التربية والوزراء المسؤولون عن التخطيط في الدول العربية الذي نظمته اليونسكو عام (1979) على «تنمية المهارات الحركية لدى الشباب بما في ذلك إصلاح الأدوات والأجهزة وتشجيع حب العمل اليدوي، واحترامه بصفة أساسية» ومن يمن الطالع أن المجتمعات العربية المعاصرة أخذت تنظر إلى العمل المهني نظرة احترام وتقدير حيث ضمنت الأهداف العامة للتربية المهنية أهدافًا تدعو إلى تكوين اتجاهات إيجابية نحو العمل اليدوي واحترامه.
سادسًا: الاهتمام بالإنتاج كمًا ونوعًا
يعمل الفكر المعاصر على زيادة الإنتاج وتحسينه، وذلك باستخدام الحوافز المختلفة، وعقد الدورات والندوات التي تسمح بانتقال أثر الخبرة والتدريب إلى الآخرين، مما يؤدي إلى تحسين الأداء. وقد أشار ديفز (1974) إلى أن الهدف الأساسي من استخدام الحوافز هو زيادة الإنتاج وأن زيادة الإنتاج شيء جوهري، وشاركه في ذلك عدنان عبد الرؤوف الذي عد الحوافز عوامل تشجيعية تؤدي إلى تحسين الإنتاج كمًا ونوعًا، يقول (ساميلوسون): «وعلى الرغم من التقدم العلمي الكبير حاليًا، واتباعه الأساليب الإنتاجية الحديثة التي تعتمد على الآلات والإشراف عليها، خاصة في مجالات الإنتاج الواسع في الصناعة، فإن ذلك لا يقلل من أهمية ثقافة العامل، وتدريبه بدرجة كبيرة إذ من غير الممكن للعامل غير المتعلم، أو غير المدرب أن يدير الآلات ويشرف عليها».
سابعًا: أخلاقيات المهنة في التربية الحديثة
كثيرًا ما تتحدث التربية المعاصرة عن قوانين العمل، وأخلاقيات المهن، وقد أشار عبد الغني (1986) إلى أهمية المحافظة على الأخلاق باعتبارها المعيار الأساسي للتعامل مع التقنية الحديثة؛ فالتقنية التي تكون على حساب الأخلاق لا يمكن أن تكون وسيلة لإسعاد الإنسان على الإطلاق؛ لأن إسعادها إياه سيكون على حساب تعاسته في معظم شؤون حياته الأساسية مهما كانت قيمتها المادية الحالية، ويرى أن هناك أربعة أسس تعتمد عليها التربية الخلقية هي: الأساس الاعتقادي، الأساس العلمي، الأساس الإنساني، والأساس الجزائي، يقول أحد فلاسفة التربية المعاصرين إن الأخلاق إذا قدمت مجردة دون عمل، فإنها لن تثمر وبالتالي لن يحدث أي تغيير في سلوكنا، ولن نكون قادرين على حل مشاكلنا، والتي منها تربية أبنائنا تربية سليمة قوامها التطبيق العملي.
ثامنًا: التعليم المهني بالقدوة
ترى التربية المعاصرة أن القدوة أكثر أنواع التربية فعالية، وهي من أفضل الأساليب التربوية، وأقربها إلى النجاح، حيث انتشرت الأبحاث والدراسات النفسية التي اهتمت بها النوع في أواخر القرن الماضي، فقد درس (باندورا) و(والترز)- وهما من علماء النفس الاجتماعي في الولايات المتحدة- موضوع التعلم عن طريق القدوة، وقد أثبتت دراستهما أن السلوك الاجتماعي المعقد قد يكتسب بصورة كاملة عن طريق التقليد، وأن التقليد نموذج مباشر يزيد من سرعة التعلم، ويرى بعض المعاصرين أن القدوة هي أرقى أنواع التربية، فالقدوة هي واقع ملموس يدعو إلى الامتثال بالعمل قبل القول، ولذا فإن التربية بالقدوة أبلغ وأكثر تقليدًا من التربية بالمقال، فلسان الحال أبلغ من لسان المقال، فدروس التربية المهنية في الوقت الحاضر تكتسب عن طريق التقليد، فالمعلم يقوم بشرح المهارة نظريًا ثم عمليًا والطالب يلاحظ ويعمل.
الخاتمة
إن العناوين التي حددتها الدراسة هي نفسها تساؤلاتها وأن ما ورد تحتها يمثل نتائج هذا البحث والتي يمكن للباحث تلخيصها فيما يلي:
- أظهرت نتائج الدراسة- من خلال النماذج والصور التي ساقها الباحث من القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة والمربين المسلمين- نظرة الإسلام للتربية المهنية، واحتلال التربية المهنية والعمل المهني مساحة واسعة في الفكر التربوي الإسلامي، وأن مفهوم العمل مفهوم شامل لجميع أنواع العمل، كما حرص الإسلام على تعلم المهن التي تكفل العيش الكريم للمسلمين، كما عد الإسلام العمل المهني في حد ذاته عبادة، كما سلك الإسلام في دعوته للعمل المهني طرقًا مختلفة فتارة بالترغيب وتارة بالتحذير من الفقر والسؤال والبطالة، وتارة أخرى بالتدريب السيكولوجي، حيث عد الإسلام العمل واجبًا على كل مسلم يستطيع أن يعمل، وكان لاهتمام الصحابة وعلماء المسلمين والفقهاء بالعمل اليدوي، وتوجيه الطلاب إلى الإعداد له بما يتفق وقدراتهم العقلية والجسمية واستعداداتهم وميولهم، والحض على الكسب من خلاله أطيبُ الأثر في الرفع من منزلة التعليم المهني والثقافة المهنية في النظام التربوي المبني على الإسلام وقد رغب الإسلام في تعليم المرأة المهن والحرف في إطار وقور بعيد عن نطاق الفتنة محافظة على ما سنته الشريعة في هذا الصدد.
- خلصت الدراسة إلى أن هناك مبادئ قامت عليها التربية المهنية في الفكر التربوي الإسلامي؛ كالجمع بين النظرية والتطبيق، وتوجيه الأبناء توجيهًا مهنيًا صحيحًا يتفق والخصائص والمواهب التي أودعها الله فيهم، وإعداد الفرد مهنيًا وصناعيًا، والتنفير من أي مظهر من مظاهر الكسل والتواكل والبطالة، كما حرص الفكر التربوي الإسلامي على الممارسة العملية للأخلاق وإتقان العمل والإخلاص فيه.
- أظهرت الدراسة وجود أوجه اتفاق بين الفكر التربوي المهني الإسلامي والفكر التربوي الغربي المعاصر: كاقتران العلم بالعمل، ودراسة استعدادات التلميذ وكشف ميوله، وحق المرأة في بعض الحرف والمهن التي يحتاج إليها المجتمع، وإظهار قيمة العمل المهني من خلال الاهتمام بالتخصص وتقسيم العمل، والإنتاج كمًا ونوعًا، حيث رأى الباحث أن كثيرًا من أوجه الاتفاق تلك كانت لها جذور متأصلة في الفكر التربوي الإسلامي، وهذا يعطي صورة واضحة عن مدى تفوق الفكر التربوي الإسلامي الذي يتسم بالعمق بقدر ما يتسم بالاتساع فالفكر التربوي الإسلامي الذي- كما رأينا- أول من وضع دعائم ذلك النهج الذي فرض نفسه على كل نشاط علمي وعملي، والذي ارتقى بالفكر التربوي المهني الإسلامي إلى درجة عالية نقف لها باحترام وننظر لها بإجلال وإكبار.
التوصيات
- يجب العناية بإحياء التراث والعمل على تطبيق مبادئه بحيث لا تأتي إصلاحاتنا التربوية من فراغ، أو نعتمد على استيرادها، فتأتي نشازا غريبًا في فكرنا الإسلامي.
- العمل على ربط مواد التربية الإسلامية بالمهن والعمل من خلال ربطها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والدروس الفقهية أو الثقافية أو النظم الإسلامية.
- العمل على تنمية الاتجاهات الإيجابية نحو العمل المهني من خلال التربية الإسلامية، والعمل على غرس بعض القيم الأخلاقية مثل: مفهوم الأمانة والإتقان والإخلاص، إلى جانب ترسيخ مفهوم بأن كل مسلم على ثغرة من ثغر الإسلام، وأن العمل يصبح فرضًا إذا لم يقم به أفراد المجتمع.
- النظر إلى الأعمال الإنتاجية، وإلى توجيه الناشئة إلى الأشغال الحرة بحيث يصبح العمل المنتج جزءًا أساسيًا في تربية الفرد، فالعمل اليدوي ضروري لكل إنسان فهو وسيلة ضرورية لإنماء الثروة القومية، فعلى المدرسة أن تنمي في الفرد المسلم احترام العمل اليدوي، متخذة من الأنبياء والصحابة قدوة لها.
- يوصي الباحث القائمين على التربية بالاهتمام بضرورة أن يكون المعلم المهني قدوة لطلابه في مظهره وسلوكه وحرصه على عمله ومن ذوي المهارة والخبرة والاحتراف.
- حث الشباب العاطلين عن العمل على وجوب المشاركة في العمل، بقبول فرص العمل المتاحة، حتى لو لم تكن تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية، فالإسلام قد كرم العاملين الذين يقومون بأعمال مشروعة أيًا كانت، وذلك من خلال حملة إعلامية مدروسة بعناية تشارك فيها كل الأجهزة المعنية، والقيام بتأهيليهم للمهن المتوفرة وفق برامج جادة تعقد في الجامعات والمعاهد ومراكز التدريب المهني والمصانع والشركات.
- استخراج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تتعلق بالمهن والتمهين وتفسيرها وتبويبها بما يتلاءم مع المهن المعاصرة التي يحتاجها المجتمع المسلم.
.