Business

الاغتراب الثقافي ومواجهته في الفكر التربوي المعاصر

تعيش المجتمعات في عالمنا حالة من التصدع في البناء الاجتماعي والنظام الأخلاقي، بالرغم من ازدهارها اقتصاديًا وعلميًا وتكنولوجيًا، وأصبحت تعاني من أزمات حادة في العلاقات الإنسانية بسبب تحكم الفردية والمادية من ناحية، وسيطرة الأيديولوجية الاجتماعية من ناحية أخرى، وتصارع ما بين الأهداف الاجتماعية والثقافية والمعايير والقيم الروحية من ناحية أخرى.

وتُلقي هذه الدراسة التي أعدها الدكتور خالد أبو شعيرة، الضوء على الاغتراب الثقافي؛ كتحدٍّ يواجه الهوية الثقافية في الفكر التربوي المعاصر، وقد خلصت الدراسة إلى أن الاغتراب ظاهرة ثقافية تؤدي إلى انتقال المجتمع وتحوله من طور الثقافة التقليدية إلى طور الثقافة الدخيلة الوافدة، كما أنه يهدد النظم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويظهر ذلك بوضوح في المؤسسات التربوية.

 

العوامل المؤدية إلى الاغتراب في الفكر التربوي المعاصر

  1.  العوامل الاقتصادية: وتتمثل بعدم عدالة التوزيع، وظهور قطاع مجتمعي من الفقراء الذين يكدحون في حياتهم من أجل تحسين أوضاعهم، فيولد هذا الأمر شعورًا بالحقد والكراهية والانعزال عن المجتمع.
  2.  العوامل الاجتماعية: إن الصراع الطبقي يؤدي إلى انعدام الشعور بالأمن والأمان والاستقرار، والاستلاب الثقافي وتخلخل المنظومة القيمية في المجتمع.
  3.  العوامل الثقافية: إن التحول من الثقافة التقليدية إلى الثقافة الجديدة، جعل المجتمع يتعامل مع عادات وتقاليد وقيم ولغة وفنون وأساليب حياة في الجانبين المادي وغير المادي للثقافة، وخاصة في ظل التبعية للأقوى قد يحدث شرخًا ثقافيًا يجعل الفرد يعيش حالة من الصراع بين الثقافة الوطنية، وبين الثقافة الوافدة.

 

أشكال الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر

  1.  العزلة الاجتماعية: وهي الاستعمال الآخر لمصطلح الاغتراب، وهو أكثر ما يستعمل في وصف وتحليل دور المفكر أو المثقف الذي يغلب عليه الشعور بالتمرد، وعدم الاندماج النفسي والفكري بالمقاييس الشعبية، كما تعني تجنب الفرد الاتصال بالآخرين والبعد عن المشاركة في أي نشاطات اجتماعية نتيجة شعور الفرد بالغربة.
  2.  اغتراب اللامعنى: ويعني شعور الفرد بأنه لا يوجد شيء له قيمة أو معنى في هذه الحياة، نظرًا لخلوها من الأهداف والطموحات ونقص في التواصل بين الحاضر والمستقبل، أي الإدراك بعدم وجود علاقة بين ما يقوم به الفرد من عمل الآن، وبين الأدوار المستقبلية.
  3.  فقدان المعايير: وهو توقع الفرد بدرجة عالية بأن السلوكيات الاجتماعية غير مجدية لتحقيق أهدافه، ما يؤدي لاتخاذ مواقف حياتية هامشية، والانتماء إلى منظومة قيمية خارج ما تعارف عليه المجتمع وما يحكمه من معايير أخلاقية.
  4.  الاغتراب عن الذات: حالة من الاغتراب لدى الفرد تعبر عن خبراته السابقة تجاه ذاته، وأن قدراته غريبة عنه كأشياء أخرى، كما يشير إلى عدم القدرة على إيجاد الأنشطة المكافئة ذاتيا، وشعور الأفراد بأن ذاته وقدراته تصبح مجرد أشياء منفصلة عنه، وتكون مجرد وسيلة أو أداة.
  5.  فقدان السيطرة «العجز»: وهو توقع الفرد أو اعتقاده بأن سلوكه لن يقدر على تحقيق ما يريد من مكافأة أو تعزيز، وأنه عاجز عن تحديد مسار الأحداث أو النتائج التي قد تنشأ تبعا لهذه الأحداث.

 

مظاهر الاغتراب الثقافي في الفكر التربوي المعاصر

1- المؤسسات التربوية: تشكل المؤسسات التربوية سلاحًا ذا حدين إزاء ظاهرة الاغتراب، فهي أداة لتعميق الاغتراب لدى الطلبة، أو وسيلة لتكيفهم مع أنفسهم ومجتمعاتهم.

2- الأسرة: تعد من أبرز الجماعات الإنسانية وأكثرها تأثيرًا في حياة الأفراد والجماعات، إذ يقوم بدور أساسي في تنظيم سلوك الأفراد، والمحافظة على هويتهم وثقافتهم إلا أن الظروف المستجدة قد تفرض على الأسرة تقليص بعض وظائفها الأساسية التي يجب أن تقوم بها تجاه أطفالها، وذلك لاشتغال الأم وغياب الأب، أو غيابهما معا، مما يعني تركهم في رعاية المربيات والخدم أو في دور الحضانة، مما يحرمهم العطف والحنان.

3- المدرسة: وتساعد أحيانًا على ترسيخ ثقافة الاغتراب عند الطلبة، وذلك من خلال حرمانهم من فرص التعامل والتحاور فيما بينهم، وعزلهم عن البيئة الاجتماعية بإقامة الحواجز بينها وبين المجتمع المحلي، وإقامة الحواجز بين الطلبة أنفسهم من خلال تصنيفهم تبعًا لقدراتهم، والعمل على حشو أدمغة الطلبة بالمعلومات والألفاظ الجوفاء، وسوء العلاقة بين المعلمين والطلاب، ووجود مناخ ضاغط ومغلق داخل المدرسة، وانعدام معنى الكثير من النشاطات والخبرات المدرسية.

4- الجامعة: يمكن للجامعة أن تكون مصدرًا للاغتراب من خلال عدم احترام الأساتذة لطلابهم، وعدم مساهمة الطلاب في تصميم برامجهم، وإدراك الطلاب لعدم وجود علاقة قوية بين ما يدرسونه في الجامعة من جهة وبين عملهم المستقبلي.
وتتداخل المؤثرات الاجتماعية والثقافية لتكوّن تحديات تواجه الشباب الجامعي وتعترض مسيرة التكييف مع المجتمع العام والجامعة في النسق الاجتماعي والتعليمي، وتهيؤهم للاغتراب بمظاهر متعددة، أهمها:

  • تحدي الهوية: ويتمثل في تيار إسلامي من نماذج متعددة: محافظة، ومعتدلة، ومتحررة، وسلفية، ووسطية، واجتهادات شخصية.
  • تحدي التخلف الحضاري: ويتمثل بالخضوع للبيئة الطبيعية من حيث اضطرابات العلاقات الإنسانية بين التجمعات السكانية البيئية والدينية، واللغوية، وضعف القوى البشرية الفنية لتشغيل التكنولوجيا المستوردة وصيانتها، وتعدد محاور الولاء للأفراد والجماعات، وعدم وضوح ولائها العميق نحو الوطن.
  • تحدي الشورى أو الديمقراطية في ظل الحكم الفردي: لقد برزت الحاجة إلى التربية الديمقراطية في ظل حاجة الأفراد والجماعات إلى الحرية والعدل والتجربة الذاتية وتحمل المسؤولية، وتأكيد أهمية النمو الذاتي الحر عند المتعلمين وإشراكهم في الحوار الخلاق المبدع.
  • التحدي الأخلاقي: ويتمثل في تدهور سلوك الأفراد والجامعات والقيادات المختلفة في المهن والنقابات والاتحادات والجمعيات والمؤسسات في القطاعات المختلفة.
  • تحدي البحث العملي: ويتمثل في العديد من الجامعات العربية ومراكز البحوث المنتشرة في أنحاء العالم العربي، إذ أنه بالرغم من تعددها فلا تزال مساهمتها ضعيفة في مجال البحوث والدراسات.
  • تحدي العولمة: والتي تعني إرادة الهيمنة، أي هي قمع وإقصاء للخصوصي والذاتي معًا، والتي ظهرت بظهور ثورتي المعلومات والاتصالات، والتي أدت بدورها إلى زيادة التقارب بين الشعوب والحضارات، ولذلك أصبح العالم قرية صغيرة. 

5- المعلم: يعيش المعلم في العالم العربي حالة اغتراب في هويته الثقافية؛ ويشعر المعلم بأن الحياة لا معنى لها، وذلك لشعوره بأن مهنته قد فقدت معناها بعد تدني قيمتها الاجتماعية، وسيطرت القيم المادية على القيم الاجتماعية السائدة.

6- الطالب: إن اعتماد الطلبة على نمط وشكل واحد في التدريس دون إتاحة الفرصة لمعرفة قدراتهم واستعداداتهم وميولهم يشكل حالة من الاغتراب، مما يعني تزييف الوعي والقيم والاتجاهات لديهم، وكذلك تزييف قدراتهم على الاختيار واتخاذ القرارات المناسبة التي تهمهم وتهم وطنهم ومجتمعهم.

 

التصور المقترح لدور الفكر التربوي المعاصر في مواجهة الاغتراب الثقافي

  1.  على المدرسة أن تضمن المواقف التعليمية، والأنشطة الصفية أو اللاصفية في تكوين اتجاهات إيجابية نحو الهوية الثقافية للمجتمع.
  2.  أن تعمل الجامعات العربية على تخليص الطلبة من ازدواجية المفاهيم الثقافية، وبناء رؤية شاملة تأخذ من الماضي عبره وروائعه من أجل الحاضر لبناء المستقبل.
  3.  إحداث اندماج اجتماعي وسياسي للمجتمع العربي، إذ يحقق هذا الاندماج الوحدة القومية بين الدول العربية، والعدالة الاجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتنمية.
  4.  أن يكون للإعلام العربي دورًا في التركيز على القضايا الفكرية والسياسية والدينية والأخلاقية والثقافية والقيمية، وكل ما يتعلق بالتراث.
  5.  على المعلم العربي تأصيل شخصية الفرد من خلال دعم الهوية الثقافية للمجتمع العربي، وإقامة علاقة متوازنة بين أفراد المجتمع أولًا، ومع المجتمعات الخارجية بثقافاتها المتعددة، أي يحقق التوازن بين المحافظة والخصوصية الثقافية والتجديد.
  6.  على الطلبة أن يمتلكوا وسائل الدفاع والرؤية الواضحة لمواجهة التحديات التي تواجه هويتهم الثقافية ومنها الاغتراب، والخروج من أزمتها، لذا يجب إعداد الطالب إعدادًا وجدانيًا وعقليًا وجسميًا واجتماعيًا؛ لتشكيل شخصية متوازنة تضبطها منهجية في التفكير وعقلانية في التدبير.
  7.  يجب ربط المناهج الدراسية بمكونات الثقافة وخاصة العموميات الثقافية المتعلقة بالمجتمع العربي، والتي تعزز عند الطلبة قيم التفاهم والتلاحم والتعاون عند أفراده، ودفاعه عن ماضيه المتمثل في اللغة والدين والتاريخ، ودفاعه عن حاضره المتمثل في منجزاته المادية والمعنوية ووحدة وتكاثف أقطاره أمام التحديات التي تواجه الأمة العربية بجميع المجالات، ودفاعه عن مستقبله.
  8.  تخليص النظم التربوية والتعليمية في بعض البلدان العربية من تبعيتها للغرب فكرًا وممارسة، وإقامتها بدلًا من ذلك على مبدأ المعاصرة والأصالة والذي يقتضي بناءها على أحدث الأسس وأكثرها تطورًا، والإفادة من كل المستجدات والاتجاهات النافعة، والانفتاح على كافة التجارب العالمية وأخذ ما يلائم الوطن والأمة منها.
  9.  الاهتمام بالتربية باعتبارها قادرة على ترسيخ الهوية الثقافية عند الأفراد ومواجهة التحديات التي تواجهها، وخاصة تحدي الاغتراب. 
  10. تفعيل دور التعليم في الاهتمام بالهوية الثقافية، وغرسها في قلوب الطلبة منذ المراحل الأولى الأساسية بحيث تصبح سلوكًا معاشًا.
  11. توحيد المناهج قدر المستطاع فيما يتعلق بالمواد الفكرية؛ لأن ذلك يساعد على توحيد هوية العالم العربي.
  12. فتح الحوار مع الآخر ونبذ ما يشاع من فكرة صدام الحضارات، ومحاولة إثراء الهوية بما يكتسب من الحضارات الأخرى، والنظر إلى الإنسان كإنسان مع المحافظة على خصوصية الحضارة العربية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم