Business

من نماذج البحث الإسلامي في التربية

 

إن التفكير الإنساني بعيدًا عن هداية الوحي قد أنتج الكثير من الفلسفات المتناقضة والتي يهدم بعضها بعضًا، ولم تستطيع تلك الفلسفات على كثرتها ونقض بعضها لبعض أن تحول بين الإنسان الغربي وبين الكثير من مظاهر الضلال في التفكير والسلوك.

والمسلم عندما يجمع بين معطيات الوحي ومعطيات العقل والحس يكون تفكيره أكثر نضجًا وسلوكه أكثر صوابًا وبحثه أكثر عمقًا. ولعل الجمع بين معطيات الوحي ومعطيات العقل والحس هي التي يمكن أن تعصم المسلم المعاصر من تهويمات الروح بدون هدايات علوم الكون أو الاقتصار على معطيات علوم الكون دون هداية الوحي.

ولعل الغرب وما يعانيه من أزمات أخلاقية وثورة شباب وعدم وجود غايات سامية تحركة... الخ، تفسر الكثير من مشكلة العقل الإنساني عندما يطرح الوحي الصحيح جانبا كمصدر من مصادر التفكير والسلوك والبحث. وإذا كان للغرب مسوغاته التي دفعته دفعًا إلى ترك الوحي جانبًا لما اشتملت عليه الأناجيل من تناقضات عقلية ولما مارسته الكنيسة من إرهاب فكري ضد العلم والعلماء طوال العصور الوسطي، فإن العقل المسلم لم يجد طوال عصور الازدهار الإسلامي أية كوابح تحول بينه وبين الفكر والسلوك والبحث العلمي الرصين، بل كان الوحي دائمًا مصدرًا من مصادر صواب الفكر وسلامة السلوك وعمق البحوث الإسلامية.

وفي دراسة للأستاذ الدكتور عبد الرحمن النقيب، بعنوان: (النموذج التفسيري في التربية)، يحاول أن يقدم للقارئ كيف يمكن استخدام النموذج التفسيري الإسلامي في حقل التربية سواء في مجال التفكير أم السلوك أم البحث التربوي.

 

الفروق بين النظرة الإسلامية للعلوم والنظرة العلمانية

إن هناك فارقًا جوهريًا بين النظرة الإسلامية للعلوم والنظرة العلمانية. فالنظرة الإسلامية إلى العلم نظرة موحدة متكاملة، والنظرة العلمانية نظرة مادية تعزل العلم عن الإيمان والوحي، ومن الخطأ أن نظن أن هذا العلم الوضعي هو الصورة المثلى للعلم، أو أنه النوع الراقي من العلم.

ولقد كان من ثمار النظرية الإسلامية للعلم؛ علماء جمعوا بين العلم والإيمان بينما كانت النظرية الوضعية للعلم هي المسئولة عن الأجيال الملحدة من العلماء الذين لم يعصمهم علمهم عن الإلحاد والإفساد.

ومن هنا تأتي مسئولية العلماء المسلمين في كل مكان أن يعيدوا من جديد بناء المعرفة الإنسانية وفق التصور الإسلامي بحيث تصبح نسقا عقليًا وفكريًا وعلميًا متكاملًا يدور حول الوحي، وينتظم جميع العلوم والمعارف التي وصل إليها الإنسان المعاصر، كل ذلك في ظل هداية الوحي وإرشاده.

إن المنهجية الإسلامية تقوم أساسًا على عدم إخراج النص الديني الإسلامي من دائرة العلم، ومنه العلم التربوي. فالنص الديني هو أحد مصادر العلم والمعرفة لدينا، بل هو المصدر الأكثر ثباتًا وصدقًا ويقينًا. ورفض النص الديني المسيحي في دائرة العلم الغربي لا يجيز لنا أن نفعل نفس الشئ مع النص الديني الإسلامي وذلك لاختلاف طبيعة النص، والظروف التاريخية التي أثر فيها النص الديني الإسلامي على حركة العلم والحضارة والعمران.

وبإيجاز فإن النص الديني الإسلامي لا بد أن يمثل منطلقًا أساسيًا لأي باحث في التربية مهما كان موضوع دراسته، ومهما كان منهج البحث الذي سوف يستخدمه. فلا يجوز مثلًا أن ندرس تعليم الفتاة في القرن العاشر الهجري مثلًا دون أن نحكم على هذه الظاهرة التربوية من خلال النص القرآني. فلو وجدنا أن تلك الفتاة لم تتعلم في هذا العصر لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية معينة فلا بد أن نناقش ذلك على ضوء ما ورد في القرآن والسنة من ضرورة تعليم المرأة ومن فريضة طلب العلم. كذلك إذا لاحظنا اختفاء العلوم الكونية أو الطبيعية في عصر من العصور الإسلامية وما ترتب على ذلك من تخلف في مجال الزراعة أو الصناعة أو الحروب مما مكن لأعداء الله في أرض المسلمين فلا بد أن يظهر الباحث رأي القرآن والسنة في تلك الظاهرة، أي أن الباحث في التربية لا يجوز له أن يدرس الظاهرة التربوية بعيدًا عن النص الديني الإسلامي فهذه منهجية وضعية مرفوضة.

إن الفصل بين رجل الدين ورجل العلوم الطبيعية أو الإنسانية أو الاجتماعية فصل متعسف، لأن ذلك يعني أن النص الديني سوف يكون محصورًا فقط فيما يسمي بالعلوم الشرعية أو العلوم الدينية، وسوف يعزل النص الديني الإسلامي الذي ينبغي أن يهدي خطوات في طبيعة المعرفة العلمانية ؛فالباحث في مجال العلوم السياسية مثلًا لا بد أن يكون على دراية بجميع النصوص الإسلامية المتصلة بموضوع دراسته، كذا الدارس في علم الاجتماع أو علم التربية أو علم الطبيعة والطب وهكذا، وبهذا يعود القرآن والسنة إلى مكانتهما التي كانا عليها في العصور الذهبية للإسلام، عندما كانا مصدرًا من مصادر المعرفة وإطارًا مرجعيًا عامًا لكل دراسة وبحث.

 

تجاوز المنهجية التربوية الغربية والعودة إلى الكتاب والسنة

وتأسيسًا على ذلك، فإن المنهجية العلمية الإسلامية في دراسة الموضوعات التربوية تقتضي أن يتجاوز الباحث حدود المنهجية الغربية التي تعتمد على مجرد استخدام مناهج بحثية محددة: منهج وصفي، أو تاريخي أو تجريبي مقارن...إلخ، واختيار أساليب وأدوات بحث مصممة بدرجة عالية من الثقة والموضوعية، وتحليلها بقدر مرتفع من الدقة والكفاية، والتعبير عن هذه النتائج بطريقة واضحة ومنطقية ومتسلسلة. أقول إن (المنهجية العلمية الإسلامية) لا تكتمل إلا إذا تمتع الباحث في موضوعات التربية الإسلامية بجوار ما سبق بإلمام كامل ودراية جيدة بالأصول الإسلامية الثابتة المتعلقة بموضوع دراسته من قرآن وسنة، وإلا إذا كان قادرًا على توظيف تلك المعرفة في بحوثه ودراساته توظيفًا سليمًا.

إن الباحث التربوي الإسلامي لا يستطيع ولا ينبغي له أن يفصل بين إيمانه الكامل بالأصول الثابتة الصحيحة (القرآن وصحيح السنة) وأخذه بتقنيات البحث العلمي ومناهجه وأساليبه وأدواته من استبانات ومقابلات وأساليب إحصائية... إلخ. وإذا كان مطالبًا بأن يتقن جميع مهارات البحث العلمي عن طريق القراءة الواعية لكتب مناهج البحث العلمي، والتدريب الذاتي مع الاسترشاد بخبرات المتمرسين في ميدان البحث التربوي الإسلامي، إلا أن ذلك لا يكفي في اكتسابه المنهجية الإسلامية ما لم يصاحبه في نفس الوقت دراية كاملة بالأصول الإسلامية لموضوع دراسته، على أن تنعكس تلك الدراية أثناء عرضه لنتائج الدراسة.

وعندما يفعل الباحث التربوي الإسلامي ذلك فهو لا يخالف الدقة العلمية المطلوبة، بل إنه بالعكس من ذلك يعصم دراسته من أن تكون مجرد دراسة وصفية لا تفيد الواقع كثيرًا ولا تسعي إلى تطويره كما صار الحال في معظم الدراسات التربوية والإنسانية عمومًا التي استبعدت أحكام القيمة من مجال البحث التربوي بدعوي الحياد العلمى، كذلك فإن الأصول الدينية الإسلامية (القرآن والصحيح من السنة) أصول لا تعارض العلم ولم تتعرض لأي تحريف أو تشويه. ومن هنا كانت من الناحية العلمية أصولا ثابته وغير بشرية وغير قابلة للنقد أو التحريف. وعليه فإن الباحث التربوي المسلم عندما يستخدم تلك الأصول لإصدار أحكامه على الظواهر موضوع الدراسة فإنما يعتمد في الواقع على أصول ثابته وصحيحة من الناحية العلمية.

كذلك فإن الباحث التربوي الإسلامي عندما يرجع إلى هذه الأصول الإسلامية الثابته لا يقع في دائرة الذاتيه ولا يخالف الموضوعية العلمية، لأن تلك الأصول الصحيحة هي التي تحكمه علميًا وليس هو الذي يتصرف فيها كيف يشاء، إذ لاستخدام تلك الأصول الإسلامية ضوابطها العلمية التي تحكم الباحث عند تعامله معها ممثلة في علوم دقيقة كعلوم الحديث والتفسير وأصول الفقه، وبذلك يكون تعامل الباحث مع تلك النصوص خلال دراسته عملًا موضوعيًا وليس ذاتيًا من ناحيتين: ناحية الصدق والثبات المطلق لتلك الأصول (القرآن الكريم والصحيح من السنة)، وناحية اعتماد الباحث في تناوله لتلك الأصول على ضوابط دقيقة من علوم الحديث والتفسير وأصول الفقه.

وإذا كانت المنهجية العلمية الغربية بشقيها (الماركسي والرأسمالي) تستبعد الأصول الدينية لأسباب تاريخية وموضوعية خاصة بها، فإن المنهجية العلمية الإسلامية لا تستبعد الأصول الإسلامية الثابتة، بل تجد في تلك الأصول دعامة علمية وسندًا ضد أي انحراف فكري.

ولقد أنتجت تلك المنهجية العلمية الإسلامية علومًا تزيد الإنسان قربًا إلى الله، بينما أنتجت المنهجية العلمية الغربية علومًا تكاد تلغي وجود الله عند دراستها لجميع الظواهر الكونية والإنسانية.

 

أزمة تربوية عالمية

 وفي مجال التربية بالذات هناك اتفاق على أن العالم كله يواجه أزمه تربوية تتخذ أشكالًا متعددة هنا وهناك، بل إن العالم المتقدم يعاني من تلك الأزمة بصورة أشد حيث تزداد الهوة بين حجم المعارف العلمية الميسرة، ومقدار ما تحققه تلك المعرفة من سعادة وسمو أخلاقي وإنجازات إنسانية عالمية غير أنانية أو مدمرة للإنسان.

إننا في مجال البحث التربوي الإسلامي مطالبون بإعادة الحياة إلى المنهجية العلمية الإسلامية التي استخدمها المسلمون في بحوثهم في عصور الإزدهار الإسلامي، وتطوير تلك المنهجية حتى تستوعب آخر ما استحدثه العقل الإنساني من أساليب وتقنيات بحثية جديدة.

وإذا كان سلفنا الصالح قد استخدم مناهج بحثية معينة: المنهج التاريخي، المنهج التحليلي الأصولي، المنهج الفلسفي، المنهج المقارن في كتاباتهم التربوية، وكان لهم فضل إرساء دعائم تلك المناهج واستخدامها في دراساتهم العلمية، فإن هناك أساليب وتقنيات جديدة في مجال البحث التربوي المعاصر مثل: الاستبيانات، والتحليل الإحصائي، والاختبارات والمقاييس والتجريب التربوي... إلخ، وهذه الأساليب والتقنيات الجديدة لا بد أن تُستخدم بكفاءة لدراسة كثير من الظواهر التربوية المعاصرة من منظور إسلامي.

اتفاق علماء التربية على حدٍّ أدنى من تقنيات مناهج البحث لا يمنع اختلافهم حول الكثير من تفاصيل تلك المناهج والتقنيات وطرق وجدوى استخدامها، بل هناك اتجاه معاصر لعدم الالتزام الحرفي بتلك المناهج والتقنيات، إذ المهم ليس مجرد الالتزام الشكلي بها بل امتلاك الروح والبصيرة العلمية والقدرة على ارتياد آفاق بحثية جديدة.

 وعلى سبيل المثال فإن استخدام الاختبارات والمقاييس لقياس ظاهرة تربوية معينة تعد في أكثر الأحيان وسيلة علمية دقيقة، ولكن لا يكفي لإعداد هذا الاختبار أو المقياس أن نكتفي بمقدار ما يتمتع به من درجة عالية من الصدق والثبات لنحكم على صلاحه بل لا بد بجوار ذلك أن يبني على أساس مفاهيمي إسلامي سليم يستند إليه المقياس. ويعطي الدكتور (حمدي أبو الفتوح عطية) نماذج لاختبارات ومقاييس تضمنت عبارات تسبب إجاباتها حرجًا للجنس الإسلامي مثل: رشح أحد التلاميذ نفسه لرئاسة جمعية البر والإحسان بإحدي المدارس فزكاه زميل له على أساس أنه أصلح من غيره فقد عرف بمواظبته على الصوم والصلاة دائمًا، وتحت هذا الموقف تأتي العبارات أو الاستجابات التالية:

  1. ينبغي أن تثق ثقة تامة بمن يواظب على الصلاة والصوم.
  2. الشخص الذي لا يؤدي فرائض الصلاة والصوم لا يحق له الاشتراك في جمعية البر والإحسان.
  3. من المؤكد أن كل شخص يواظب على الصوم والصلاة يكون أمينًا مخلصًا في عمله.
  4. يحتمل أن يكون هناك طالب غير مواظب على الصلاة والصوم ولكنه أصلح لرئاسة جمعية البر والإحسان.

 

 وقطعا فإن الجنس الإسلامي يستنكر أن يتحمل أمانة العمل الاجتماعي من لا يؤدي فرائضه الإسلامية، ومن ثم فإن وضع العبارات بتلك الصورة غير مناسب من الناحية القيمية الإسلامية.

بل إن تلك الاختبارات والمقاييس قد يتضمن عبارات ومواقف تعارض التوجة الإسلامي في الحياة، ومن ذلك الموقف التالي الذي ورد في أحد المقاييس التي تقيس الاتجاة العلمي لدي الطلاب:

 رأت إحدي شركات أتوبيس القاهرة فكرة استخدام الفتيات للعمل كمحصلات يقمن بقطع التذاكر للركاب وإذا نجحت هذه المحاولة واستطاعت الفتاة إثبات كفاءتها في هذا المل عممت الشركة هذه الفكرة في جميع سياراتها، وتحت هذا الموقف تأتي العبارات التالية:

  1. هذا العمل مخصص للرجال فلا يصلح الاستعانة بالنساء للقيام به.
  2. اختلاط هؤلاء الفتيات بالرجال أثناء عملهن بالأتوبيس سيؤدي حتمًا إلى حدوث مشاكل أخلاقية نحن في غنى عنها.
  3. لا داعي مطلقًا لهذه التجربة لأن نتيجتها معروفة من قبل إجرائها وهي فشل الفتاة في هذا العمل الشاق.
  4. إذا نجحت الفتيات في هذا العمل الجديد فلا مانع من تعميم هذه الفكرة ولو تعارضت مع تقاليدنا السابقة.
  5. من حق كل فتاة أن تعمل لتعول نفسها مادامت تؤدي هذا العمل بنجاح.
  6. يجب أن نترك مجال العمل للشخص الأنسب سواء أكان رجلًا أم فتاة.

 

وقطعًا فإن مواقف الاختبارات والمقاييس، وعباراتها لا بد أن تصاغ بطريقة تراعي التوجة الإسلامي في الحياة.

 وكذلك فإن أسلوب الملاحظة عندما يستخدم فلا بد من الحكم على أنماط السلوك الملاحظ من المنظور الإسلامي حتى وإن ظهر هذا السلوك سلوكًا عاديًا يقبلة الناس. بل إن الأسلوب الإحصائي نفسه عندما يستخدم لا بد أن يتم ذلك في إطار قيم الإسلام وتعاليمه.

ومن ذلك أن الباحث التربوي الذي يدرس مثلًا ظاهرة انتشار التدخين بين طلاب المرحلة الثانوية ويجد أن غالبيتهم يمارسون هذا العمل المكروة شرعًا ويذكر أن نسبة عالية تمارس تلك العادة الضارة مما قد يوحي بقبول تلك الظاهرة اجتماعيًا. والتزام الموضوعية الإسلامية تقتضي من الباحث أن يذكر مساوئ تلك الظاهرة ويدعو إلى الحد منها. وكذلك الباحث الذي يجد مثلًا أن نسبة الطالبات غير الملتزمات بالزي الإسلامي كبيرة. والموضوعية العلمية الإسلامية تقتضي أن يؤكد الباحث على أهمية التمسك بالآداب الإسلامية في ارتداء الملابس.

فالاختبارات والمقاييس والملاحظة والأساليب الإحصائية المختلفة لا تقرر حقيقة بقدر ما تصف واقعًا، ومبادئ الإسلام لا الأساليب الإحصائية هي المعايير الصادقة التي نقيس بها القيم والعادات والسلوكيات السائدة داخل حقل التربية وخارجه، وبدون ذلك يفقد العمل البحثي التربوي طابعه الإسلامي الأصيل. ويذكر حمدي أبو الفتوح مثالًا واضحًا لذلك إذا قدمنا عبارة مثل (عقوبة الإعدام تتسم بالوحشية والقسوة) وطلبنا استجابة الأفراد نحو تلك العبارة لوجدنا أن الاستجابة الصحيحة أو المقبولة هي الموافقة في المجتمعات غير الإسلامية أما في المجتمعات الإسلامية فإن الإجابة المقبولة هي عدم الموافقة في الحالات التي تقتضي ذلك من الناحية الشرعية. ومن هنا تأتي خطورة استخدام الاختبارات والمقاييس دون مرجعية إسلامية سلمية.

إن الأمر أكبر بكثير من ذلك إذ يقتضي منه امتلاك معرفة ودراية واسعة بالأصول الإسلامية المتعلقة بموضوع دراسته، وقدرة على التعامل مع تلك النصوص بالدرجة التي تمكنة من الحكم على الظاهرة موضع الدراسة ونقدها رغبة في إنتاج معرفة تربوية إسلامية موثوق بها.

وتلك المنهجية العلمية الإسلامية هي التي يمكن أن تحول دون أن تتحول أبحاث في مجال التربية الإسلامية إلى مجرد مثاليات ومواعظ تتجاهل الواقع التربوي المعاش، أو أدبيات تتجاهل مناهج البحث وتقنياته المتفق عليها بين العلماء التربية.

والواقع أن تلك المنهجية الإسلامية هي التي استخدمها القرآن الكريم في تعامله من الكثير من الظواهر الإنسانية، إذ لا يكتفي القرآن الكريم بمجرد الوصف الظاهري لها كما هي في الواقع، بل يعطينا دائمًا تقييما شاملًا لتلك الظواهر ويبرز لنا العناصر الإيجابية أو السلبية منها. من ذلك مثلًا حديث القرآن عن السابقين الذي يجمع بي الاستقصاء لأحوالهم والتعرف على أخلاقهم ووصف سلوكهم وتصرفاتهم وبين تجاوز الوصف إلى إعطاء تقييم شامل لتلك الوقائع التاريخية وإبراز الدوافع الكامنة وراء الدمار أو الانحطاط أو السمو والارتقاء، ومن ثم أخذ العبرة من تلك التجارب تحقيقًا لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النساء: 26).

ومن سوء حظنا وحظ الإنسانية معنا أن أوربا في عصور نهضتها عندما نقلت العلوم العربية والإسلامية فإنها قد فصلت بين عنصري المنهجية العلمية الإسلامية، فأخذت الجانب المنهجي المتمثل في الدقة العلمية ومناهج البحث وتركت النسق الفكري الإسلامي الذي يربط جميع المظاهر المدروسة بالأصول الإسلامية الصحيحة. وطبيعي أن تطور أوربا بداية من عصر النهضة والعصور الحديثة مناهج البحث وما يتعلق بذلك من تقنيات بحثية، ولكنها أصرت وما تزال تصر حتى اليوم على فصل العلم عن الدين، وقدمت للعالم منهجيتها الفكرية ذات الطابع العلماني الذي يدرس جميع الظواهر بعيدًا عن الله.

 وبدعوى الحيادية العلمية من ناحية والتفوق العلمي والتكنولوجي الذي حققة الغرب من ناحية أخري كاد هذا المفهوم أن يفرض نفسه على معظم جامعات العالم ومراكز البحث فيه، وساعد على ذلك غياب المنهجية العلمية الإسلامية في الميدان، وجمود الفكر والعلم الإسلامي، وأخيرًا التبعية السياسية والأقتصادية للغرب وما صاحبها من تبعية ثقافية وعلمية ما زالت تفرض نفسها على معظم جامعاتنا ومراكز البحث العلمي لدينا حتى الآن في مجال التربية.

 

نموذج طببيقي في البحث التربوى

سنحاول في هذا الجزء أن نختار موضوعًا بحثيًا في مجال التربية ونري كيف يستبطن الباحث النموذج التفسيري الإسلامي في تعامله مع هذا الموضوع مما يجعله يختلف بالفعل عن الباحث التربوي الذي لا يمتلك هذا النوذج ويقع في فخ غيره من النماذج التفسيرية الوضعية. وسوف نختار لذلك موضوع (مفهوم التربية وتطبيقاته التربوية المعاصرة) ويرجع اختيارنا لهذا الموضوع لأهمية موضوع المفاهيم التربوية وضرورة تأصيلها إسلاميا. إذ بدون تأصيل تلك المفاهيم فإن الحقل التربوي كله يظل مسكونا؟ بالدلالات الغربية ونحن نتناول تلك المفاهيم من خلال دلالاتها الوافدة. وإذا أضفنا إلى ذلك حرص الغرب على ذيوع وشيوع مفاهيمه بل وتسريبها إلى العالم كله من خلال آليات مختلفة كان من بينها تكوين لجنة في اليونسكو عام 1710م لتوحيد المفاهيم والمصطلحات واختصارها بهدف ذيوع وشيوع تلك المفاهيم لأنها مفاهيم العالم المنحصر والمتقدم علميًا ومن ثم الأجدر بالمقايسة والمغايرة عالميًا ولذلك فإن التربويين المسلمين مطالبين عقلًا وشرعًا بضرورة بذل كل جهد عملي حقيقي لتأصيل جميع المفاهيم والمصطلحات الشائعة في الحقل التربوي وخاصة المفاهيم المفتاحية والأساسية في هذا الحقل.

ولعل السبب الثاني لاختيار هذا المفهوم هو أنه المفهوم العمدة في هذا المجال، ذلك أن مفهوم التربية له من الدلالات العربية والإسلامية ما لا نجده في دلالاته الغربية، وهذا يعد تميزًا عربيًا وإسلاميًا في التعامل مع هذا المفهوم لأنه يفرض على العاملين بهذا الحقل التربوي الكثير من المطالب التربوية سواء في توجيه العملية التربوية أم أثناء القيام بتلك العملية أو الحكم على نتائجها وهي مطالب تعكسها دلالات المفهوم العربية والإسلامية.

والسبب الثالث لاختيار هذا المفهوم تعريف الباحثين بالمنهج الأصولي وتدريبهم على كيفية استخدامه، في تكوين المفاهيم التربوية وصياغتها إسلامية. وهو منهج بحثي لا يرد في كتب البحث التربوي إلا نادرًا.

 إن كتب مناهج البحث في العلوم الاجتماعية ومنها التربية قد تجاهلت بالكامل المنهج الأصولي كأحد المناهج التي ينبغي أن يوظفها الباحث المسلم في دراسته الاجتماعية ومنها الدراسات التربوية، بل أكاد أجزم أن هذا (المنهج الأصولي) لا بد أن تفرد له الدراسات لتوضيح أهم معالمه، وكيف يمكن استخدامه في العلوم الإنسانية ومنها التربية، وخاصة أن هذا المنهج هو أكثر المناهج التحامًا بالمنهجية الإسلامية Islamic Paradigm وقدرة على إبرازها وتطورها.

 

التعريف بالمنهج الأصولي وخطواته

المنهج الأصولي: هو المنهج الذي اتبعه علماء أصول الفقة في دراستهم وبحوثهم. وهو المنهج الذي لا بد أن يلم الباحث في التربية الإسلامية ببعض قواعدة ومهاراته إذا أراد أن يكون لنفسه منهجية إسلامية في البحث، ويستطيع أن يستخدمه أيضا في دراسته لبعض الموضوعات التربوية، وأحيانًا يكون هو (المنهج الوحيد) الذي ينبغي استخدامه عندما تناقش قضايا مثل: الطبيعة الإنسانية في الإسلام، أو أهداف التربية في القرآن والسنة، أو نظرية المعرفة في القرآن والسنة... إلى غير ذلك من الموضوعات التي تحتاج قطعًا إلى قواعد ومهارات المنهج الأصولي مع بعض التطويع لتلك القواعد والمهارات لتناسب الدراسات والبحوث التربوية.

وهذا المنهج الأصولي كُتبه ومَراجعه التي يتحتم على باحث التربية الإسلامية أن يلم بقليل منها مثل (الرسالة) للشافعي، (المستصفى) لأبي حامد الغزالي، و(الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي. ومن الكتب الحديثة (أصول الفقه) للخضري، و(أصول الفقه) لمحمد أبو زهرة، و(الوجيز في أصول الفقه) لعبد الكريم زيدان... إلخ.

 والباحث في التربية الإسلامية عندما يستخدم المنهج الأصولي في دراسة بعض الموضوعات التربوية، مثل: أهداف التربية في الإسلام فإن عليه الاسترشاد بالخطوات التالية:

  1. تعريف المفهوم في اللغة العربية، وذلك بالرجوع للعديد من المعاجم اللغوية لمعرفة الدلالات المختلفة للمفهوم وما يقاربه من مفاهيم.
  2. جمع النصوص الإسلامية المتعلقة بالظاهرة التي يدرسها من قرآن وصحيح سنة، مستعينا في ذلك بالمعاجم المفهرسة للآيات والأحاديث كـ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن) لمحمد فؤاد عبد الباقي، و(تفصيل آيات القرآن الكريم)، لجول لابوم، و(معجم ألفاظ القرآن الكريم) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، و(المعجم المفهرس لألفاظ الحديث) لفنسنك، و(مفتاح كنوز السنة) لفنسنك.
  3. فهم النصوص فهمًا صحيحا والتأكد من معرفة دلالة النصوص بالعودة إلى المراجع الأصلية في تفسير القرآن وتفسير الحديث حتى لا يفسر الآية أو الحديث تفسيرًا بالهوى. وكلما تمرس الباحث على استخدام تلك المراجع الإسلامية كلما ازداد دراية بكيفية استخدام النصوص الإسلامية استخدمًا صحيحًا. ويحتاج الباحث إلى تدريب وإعداد على تلك المهارة البحثية.
  4. في حالة عدم وجود النص لا بد أن يكون الباحث على دراية معقولة بمصادر المعرفة الإسلامية الأخري التي تحدث عنها علماء الأصول، مثل: الإجماع، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف، وسد الذرائع، ومذهب الصحابة، وشرع ما قبلنا.
  5. الرجوع إلى التراث الإسلامي وآراء العلماء المسلمين وإسهامهم في موضوع البحث، لأن الإسهام التربوي الإسلامي عبر العصور فيه اجتهاد متعدد في شتى مجالات التربية. والعودة إلى التراث التربوي الإسلامي ليس من أجل الأخذ بة كمسلمات، ولكن للاستفادة به في كيفية فهمهم للنص الإسلامي، وكيفية تطبيقهم لهذا النص على عصرهم وظروفهم، أي أنه عودةٌ للاستئناس والاسترشاد لا للتطبيق الأعمى أو الأخذ الحرفي، فلكل عصر رجاله، ولكل عصر اجتهاداته التربوية.
  6. إعطاء التربية الإسلامية في عصر الرسول منزلة مرجعية خاصة؛ لأنه العصر الذي شاهد التطبيق الإسلامي التربوي في أزهى صورة. ومن ثم فإن الباحث في التربية مستخدمًا المنهج الأصولي لا بد أن يعطي التطبيقات التربوية في عصر الرسول منزلة خاصة. وهنا يلزم ضرورة لفت النظر أنه ما زال أمامنا الكثير حتى نكتب وندرس التربية في عصر الرسول بطريقة تكون (التربية القدوة) التي يهتدي بها الباحثون في التربية. وفي دراستنا للتربية في عصر الرسول لا بد أن نفرق بين الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وغير الثوابت التي تخضع لتطورات العصر وحاجات المجتمع المتغيرة.
  7.  الانفتاح على الدراسات الأجنبية في موضوع البحث للاستفادة مما وصل إليه العلم الغربي في هذا المجال بشرط عدم إغفال الاختلاف المنهجي في تناول الظاهرة. وتناثر تلك الدراسات الغربية بالواقع الغربي والمنطلقات والتصورات الغربية في غاية الوجود ونظرتهم للإنسان والمجتمع والمعرفة والأخلاق. وهي أمور لا بد أن يدركها الباحث التربوي المسلم.
  8. وأخيرًا يأتي الاجتهاد التربوي في تتريل ذلك كله على الواقع المعاش للظاهرة التربوية المدروسة. فبعد أن ندرس أهداف التربية مثلًا في القرآن والسنة وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونُلِم بالتجربة الإنسانية في مجال الأهداف، لا يستطيع الباحث أن يغفل ذلك على الأهداف التربوية كما ينبغي أن تكون في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة التي تواجه تحديات معينة وتطمح لتحقيق نهضة حضارية في ظل ظروف عالمية مناهضة. وليس شرطًا أن يتّبع الباحث في التربية المستخدم للمنهج الأصولي كل تلك الخطوات الثمانية فقد يقتصر على بعض تلك الخطوات وقد يركز على بعضها دون البعض وفق طبيعة الموضوعات المدروسة، أو قدرة الباحث وتمكنه من اتباع تلك الخطوات ولكن كلما استطاع الباحث أن يتقن تلك المهارات البحثية وأن يتبع الخطوات المنهجية كلما أتى البحث أكثر عمقا ورصانة.

 

التأصل الإسلامي لمفهوم التربية

       أولًا: مفهوم التربية في المعاجم اللغوية:

            إن نظرة سريعة في بعض معاجم اللغة كـ (لسان العرب) لابن منظور، و(القاموس المحيط) للفيروز أبادي، و(مختار الصحاح) للرازي... وغيرها، يعطي الباحث دلالات لغوية ثرية تشمل: الزيادة والنماء، والعلوّ والتطوير، والاعتناء والرعاية والتغذية والاصلاح والتحسين، والسياسة والسيادة، والتدبير، والملك، والاجتماع والتنمية، وكلها دلالات أصيلة في اللغة العربية تفرض على العاملين بحقل التربية مراعاة تحقيق تلك الدلالات من خلال العملية التربوية وإلا كانت تربية ناقصة ومشوهة. وأترك للقارئ التأمل في كل مدلول من تلك الدلالات وكيف ينبغي أن تعمل التربية على تحقيقه وهو مجال متسع للإبداع والتحسين في مجال التربية.

 

       ثانيًا: مفهوم التربية في القرآن الكريم:

        إن استعراض الدلالات المختلفة لمفهوم التربية في القرآن الكريم وماريرتبط بها من مشتقات يجد ما يلى:

  1. أن مفهوم التربية في القرآن جاء بدلالات متعددة وواسعة، وكلها من مستلزمات التربية بالمعني الإسلامي، فمن لوازم التربية: الرعاية والعناية، والإيواء، والولاية للطفل وكفالته صغيرًا حتى يكبر، أما مشتقات الفعل (ربّى) التي جاءت جميعها بمعنى الزيادة والنموّ، والارتفاع، فقد خُصّ بها النبات، والأرض الخصبة، والمال، والأمم في القرآن. أما (ربّ) بمعني المالك المتصرف، الذي يُربِّي عباده بنعمه، فقد اختُص بها الرب في القرآن.
  2. أن كل مفهوم من المفاهيم السابقة: التربية، الكفالة، الرعاية، الولاية، الإيواء، الدراسة، التزكية، التنشئة، لا بد لها من التعليم لتحقق وجودها، وفعاليتها. وأن كل من هذه المفاهيم تتعلق بمفهوم التربية تعلقًا واضحًا، بحيث لا تفهم التربية بالمعني الإسلامي إلا باستدعاء تلك المفاهيم واستحضارها في الذهن.
  3. أن مفهوم التعليم من أكثر المفاهيم تكرارًا وشمولًا في القرآن. وذلك لأنه شمل العديد من أنواع التعليم ولم يقتصر على القراءة والكتابة، بل شمل الجوانب المهنية، والتدريبية، وتعلم المهارات حيث بدأت بتعليم الله لأنبيائه ورسله ومن اصطفى من مخلوقاته، ثم إن الرسل تقوم بتعليم الأمم التي أرسلت إليها، ثم بعد الرسل يأتي صحابتهم، ومن صلح من الخلق ليحملوا رسالة التعليم والتربية، وفقًا لشرائع الله وآدابه التي وضعها لعباده. وعليه فعند التحدث عن التعليم بالمعنى الإسلامي، لا نقتصر على الجانب المعرفي في التعليم، بل نتعداه إلى سائر الجوانب.

 

        ثالثًا: مفهوم التربية في السنة النبوية الشريفة:

بعد استعراض الأحاديث النبوية الشريفة التي احتوت مفهوم التربية، والمفاهيم المتعلقة به نخلص إلى ما يلي:

1. أن مفهوم التربية في الأحاديث كان بمعنى النماء والزيادة والمضاعفة.

2. أن مفهوم التعلم ورد في مواضع كثيرة في السنة الشريفة سواء باللفظ أو بالمعني، وقد حوى تعليم كل شيء، ووضح ذلك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم المعلم لهذه الأمة والذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا علمها إياها.

3. احتوت السنة المطهرة على مصطلحات أخرى ويراد بها التربية، وتتعلق بها ولم يرد ذكر هذه المصطلحات في القرآن الكريم مثل: التأديب، التهذيب، السياسة، التدريب.

4. أن معظم المفاهيم السابقة أساسها وجوهرها التعليم؛ فلا يقوم أي مفهوم من المفاهيم السابقة بدون التعليم. وهذل يدل على عمومية وشمول مفهوم التعليم.

5. أن مفهوم الدراسة يتعلق بممارسة التعلم، والقراءة، والعملية المعرفية الناتجة عن قراءة الإنسان وتكراره لما يقرأ، والتجربة، والملاحظة، والمشاهدة، وتتبع الأمور، واستخراج الأحكام والآراء، والقواعد، والسنن.

6. أن مفهوم التأديب مفهوم دارج عند العرب المسلمين على عهد رسول الله والعصور الإسلامية اللاحقة به. ويطلق على كل من يتولى تربية وتعليم الإنسان سواء عن طريق الوالد، أو الوالدة، أو ولي أمر المسلمين.

7. أن مفهوم التربية أعم من التهذيب وأكثر استعمالًا.

8. أن مفهوم السياسية، والتدريب، والتعليم، والرعاية، والإيواء استخدمت لتربية كل من الإنسان والحيوان.

9. أن كل هذه المفاهيم قد وردت في اللغة العربية، وفي القرآن، والسنة، واستخدمها علماء المسلمين في كتاباتهم التربوية، وأن هذه المفاهيم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم التربية، وكأن التربوي في العصور الإسلامية يستدعي معظم تلك المعاني وهو يمارس مهنته، وبذلك كانت العملية التعليمية والتربوية تتأثر بظلال تلك المعاني المختلفة التي يستدعيها مفهوم التربية إلى العقل المسلم طوال عصور الازدهار الإسلامي.

 

رابعًا: مفهوم التربية من خلال التطبيقات التربوية في عهد الرسول والخلفاء الراشدين:

إن الدارس للتربية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ليعجب من هذا الجيل الفريد الذي تربى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تربية شاملة متكاملة ىهتمت بجميع جوانب شخصية الإنسان العقلية والأخلاقية والجسمية والاجتماعية والىقتصادية والصحية والروحية، وتعتبر تربية هذا الجيل نموذجًا يستحق الكثير من الدراسة والبحث لإثراء العملية التربوية في العصر الحديث.

 

خامسًا: مفهوم التربية في بعض كتب التراث التربوى:

كثيرة هي كتب التراث التربوي التي تناولت العملية التربوية بأبعادها المختلفة. ورغم أن كتب التراث ليست الصورة المثلى للفكر التربوي الإسلامي- وإنما يُلتمس ذلك في القرآن والسنة والتطبيقات التربوية في عصر الرسول والخلفاء الراشدين- إلا أن كتب التراث التربوي تظل مهمة في تأصيل مفاهيمنا التربوية وتطويرها.

ومن استعراض بعض تلك الكتب نجد أن مفهوم التربية فيها اتفق مع مفهوم التربية في القرآن والسنة النبوية المطهرة، حيث شمل التعليم المستمر، والتهذيب، والتأديب، والرعاية، وتزكية جميع جوانب شخصية الإنسان، ومن الملاحظ أيضًا من استخدام تلك الكتب لمفهوم التربية، والمفاهيم المتعلقة به، أنه كلما تقارب الزمان من عهد الرسول والصحابة نجد الاستخدام لنفس الألفاظ المستخدمة في القرآن والسنة، ولكن مع تقدم العصور، دخلت ألفاظ جديدة، ومفاهيم جديدة على مفهوم التربية لم تكن مستخدمة من قبل، لكن في كل تلك الكتب كان التركيز على التعليم والتأديب معًا، واستخدام لفظ التربية لرعاية الصغير والعناية به، وبمعنى الزيادة والنماء وذلك كما ورد في القرآن والسنة.

 

سادسًا: مفهوم التربية في التراث الإنساني المعاصر:

لأسباب كثيرة- سبقت الإشارة إليها- لم يعد الوحي الصحيح مصدرًا من مصادر المعرفة في الغرب وانعكس ذلك بالضرورة على مفهوم التربية ودلالته سواء بالمعنى الضيق أو المعنى الواسع مما كان سببًا في أزمة الغرب الخلقية والحضارية المتمثلة في طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي والأخلاقي في حضارة الإنسان الغربي المعاصر. ومن المؤسف حقًا أن تنتقل التربية بمفهومها الغربي العلماني إلى عالمنا الإسلامي فيؤثر ذلك بالسلب على كل جوانب العملية التربوية في بلادنا.

فقد هبطت أهداف العملية التربوية من تربية إنسان القرآن والسنة المستخلف في الأرض والمطالب بعمرانها عمرانًا ماديًا وروحيًا في نفس الوقت إلى تربية الإنسان المادي الكادح من أجل العمران المادي وإن دمر جميع القيم الإنسانية بل والبيئة المحيطة من حوله. وفسدت البرامج والمناهج المقدمة للطلاب عندما فصلت العلم عن الوحي وما يتصل به من قيم وأخلاق رفيعة.

 وانحرفت عملية التقويم من عملية تناول الإنسان كجسم وعقل وروح إلى عملية تركز على الجسم والعقل معًا في أسوأ حالاتهما المادية المحرومة من أي أشواق عليا رفيعة تسمو بالإنسان إلى درجة الإنسانية اللائقة به كإنسان مستخلف.

 

المفهوم الإسلامي للتربية ودلالاته التربوية المعاصرة

مما سبق يتضح لنا أن المفهوم الإسلامي للتربية هو أكثر ثرائا عن نظيره الغربي ويكفي أن نقف هنا عند دلالاتين من دلالته التي ينفرد بها هذا المفهوم الإسلامي عن غيره من سائر الدلالات لهذا المفهوم لدى الآخرين وهو علاقة التربية (برب العالمين) وأن من ربى العالَم بإطلاق هو الله، وأن المربي الأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم (قدوة المربين) بما يعكسه المعنى الأول من مكانة سامقة للمعلم والذي يكدح كدحًا للتحلي ببعض صفات الله الحسنة حسب طاقته البشرية بما يؤهله ليكون مربيًا، وفي كل صفة من تلك الصفات انعكاسات وإشراقات لا يسمو إليها إلا المعلم المسلم. يضاف إلى ذلك ما يرشح به كون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو (المربي الأول) أو (المعلم الأول) قدوة المربيٌن من معاني لدي كل مسلم، وهي معاني لا يمكن أن يتصف بها إلا (المعلم المسلم) الذي آمن بالله ربًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.

إن غياب تلك الدلالات في إعداد المعلم المسلم والاكتفاء بالإعداد الحالي الأكاديمي والتربوي الثقافي بعيدًا عن المفهوم الإسلامي الحقيقي للتربية هو المسئول عن كثير من مشكلات التربية والتعليم في عالمنا العربي، ولو استدعينا تلك الدلالات اللغوية والإسلامية لمفهوم التربية وحرصنا على تحقيق تلك الدلالات في واقعنا التربوي المعاصر لأنكرنا هذا الواقع التربوي وأصررنا على تغييره؛ فلسفةً وأهدافًا ومناهجًا وطرقَ تدريس وإدارةً وتمويلًا وتقويمًا، وكل ذلك يمكن أن يتم إذا أعددنا الكوادر التربوية التي تمتلك المنهجية الإسلامية بأعداد كافية ومناسبة وإذا دربنا تلك الكوادر على استخدام تلك المنهجية بكفاءة وإتقان في شتي المجالات التربوية: تنظيرًا وتطبيقًا.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم