إن عيد الأضحى المبارك عبادة سنوية سنها رسول الله ﷺ في السنة الثانية من الهجرة؛ إحياءً لسنةِ وملةِ أبينا إبراهيم عليه السلام. فهي من جهة عبادة قديمة عرفتها عدة أمم سابقة من أجل التعبد والتقرب إلى الله تعالى، ومن جهة أخرى فهي فرصة للترويح عن النفس بما ينسجم ومقتضيات الشريعة الغراء.
فالإسلام-كما بيّن عبد الحي حسن العمراني- قرر عيدين يحتفل بهما المسلمون في مناسبتين هامتين يسترجعون فيهما أنفاسهم ويتذوقون لذة الفرحة والانشراح. فالإنسان إذا لم تتح له فرصة الفرحة والانشراح انغلق وتذمر وتأذى، ولذلك كانت الأعياد ضرورية للإنسان يستريح فيها ويتخلص من النصب ويستعيد قوته ونشاطه ويجد الفرصة للاستمتاع بأطايب الحياة.وفى دراسة للباحث بدرالدين الحميدي، ركز على مناقشة واستجلاء البُعدين التربوي والاجتماعي لشعيرة عيد الأضحى، وسلط الضوء على تصورات ذات طابع تربوي واجتماعي لهذه الشعيرة.
البعد التربوي
بالنسبة للبعد التربوي، فقد وردت توجيهات كثيرة في الشرع تنبه المسلمين إلى أن هذه العبادة قد اشتركت فيها الأمم السابقة واللاحقة، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (الحج: 34). فهي تشكل إذن ذلك الجسر الذي يربط بين المجتمعات المؤمنة بالله عمومًا من حيث اجتماعها على منهج واحد للتنسك.
فباستحضار هذا المعطى التارخي الديني يفهم المسلمون أن هناك سيرورة غير منقطعة على مستوى التشريع التربوي، إلى أن ختمت بالتشريعات التي جاءت بها شريعة رسول الله ﷺ. كما ينبغي أن يفهموا أن الإنسان الموحد المؤمن اتجه منذ زمن سحيق نحو الارتقاء بأخلاقه نحو الخالق من خلال تقديم البدن والقربات له تعبدًا وتنسكًا، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ...} (الحج: 36)، فالمقصد الأسن والغرض الأسمى هو بلوغ درجة التقوى التي هي أسمى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في هذه الحياة؛ إذ هي البوابة الكبرى والوحيدة للاستمتاع بلقاء الله تعالى في الآخرة.
دعنا ننظر إلى هذه العبادة بميزان مادي حيث يمكن فهمها بطريقة أفضل كما أتصور. فلو فرضنا أن هذا الموسم هو امتحانٌ، النجاح فيه مضمون بشرط واحد هو احترام الضوابط الشرعية والشروط المرعية؛ وأن النجاح في هذا الامتحان يؤدي بالشخص إلى الحصول على وظيفة توفر دخلًا شهريًا وسنويًا مهمًا جدًا، مما يعني أن هذا الشخص سوف يهنأ بعيش كريم وناعم؛ أوتعتقد أن أحدًا من العقلاء سوف يتخلف عن هذا الامتحان! فلماذا إذن لا نسارع إلى خوض غمار هذا الامتحان مع احترام الضوابط المنصوص عليها في الجانب التشريعي، حيث يوضح الله تعالى أحد تلك الشروط بقوله: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} (الحج: 37)، فالمقصد الأعظم كما يتضح من هذا النص القرآني الجليل هو بلوغ درجة التقوى.
ومن الأبعاد التربوية لهذه العبادة تعلم فضيلة الصبر النبوي الذي يعتبر النموذج الأسمى لتنفيذ أحكام الشريعة؛ فهي إذن فرصة يتذكر فيها المؤمن أن صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإيثارهما طاعة الله ومحبته على محبة النفس والولد كانا سبب الفداء ورفع البلاء؛ فإذا تذكر المؤمن ذلك اقتدى بهما في الصبر على طاعة الله وتقديم محبته- عز وجل- على هوى النفس وشهوتها.
فهل فعلًا يتعلم المسلم من الأضحية حقيقة التضحية من أجل الدين والقيم والمبادئ والوطن؛ فجميلٌ في هذه الأيام أن نتأمل هذه المعاني الرفيعة ونحن نذبح الأضاحي خاصة في زمن كثرت فيه الأهواء والشهوات والمطامع والمصالح الشخصية.
ومن النواحي التربوية أيضًا في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (الحج: 36)، فهذه الشعيرة تربط بين الأمم السابقة واللاحقة من خلال نفس الممارسة الدينية، كما تربط بين أبناء الأمة الواحدة من خلال الحث على نشر فضيلة التضامن والتعاون على أعباء الحياة التي الأمة في هذه الأيام أحوج ما تكون إليها من ذي قبل.
البعد الاجتماعي
ومن العادات السيئة التي يمارسها البعض في هذه المناسبة تلويث البيئة، مع العلم أن هذا السلوك ليس شرعيًا ولا حضاريًا؛ إذ وردت توجيهات في الدين الإسلامي تحث المسلمين على احترام البيئة لما لها من انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على المجتمع.
ومن السلوكيات الاجتماعية السيئة التي تمارَس في هذه المناسبة سلوك التباهي والتفاخر بجودة الثياب والنسك، وخاصة فيما بين النساء، الشيء الذي ينقله الأطفال إلى عقولهم الصغيرة على أنه من ممارسات العيد. فهذا الخلق واجب على المسلمين تجنبه لما يحدثه من آثار نفسية سيئة على المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه المتباهون بقضايا دنيوية بحتة. فالجانب المادي والدنيوي للشعيرة لا ينبغي للمسلمين أن يولوه اهتمامًا على حساب الدرس الأخلاقي لهذه العبادة؛ فالارتكان إلى الجانب المادي لشعيرة عيد الأضحى قد يوقع المجتمع في حرج وصراع شديدين.
ففي هذا السياق، ينبغي أن نتعلم أن الدين الإسلامي يحث الناس في علاقاتهم الاجتماعية أن يستمدوا قيمهم وموازينهم من قيم السماء؛ لا من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم. فالميزان الذي يجب اعتماده - كما ينبه على ذلك السيد قطب-، هو الذي أنزله الله مع الرسل ليقوموا به القيم كلها هو الوارد في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
فالآية الكريمة تضمنت قيمة سماوية بحتة، لا علاقة لها بمواضعات الناس وملابساتهم إطلاقًا؛ فالذي يحق له الفخر هو من احترم الضوابط الشرعية المنظمة لهذه الشعيرة فحقق بذلك مرتبة الأكرمية والأفضلية الحقيقية القائمة على موازين التقوى؛ لا على موازين الجودة على مستوى مظاهر العيد المادية، والتي هي في نظر الدين موازين الناس الذين يعيشون في الأرض ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى من اقتصادية واجتماعية، التي تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض، وبالتالي يصبح بعضهم أرجح من بعض.
ومن مقاصد مشروعية الأضحية التوسعة على الناس في يوم العيد. ففي ذبح المسلم للأضحية توسعة على نفسه وأهل بيته، وفي الإهداء منها توسعة أيضًا على الأصدقاء والأقارب والجيران، وفي التصدق بالبعض الآخر توسعة على الفقراء والمحاويج وإغناءً لهم عن السؤال في هذا اليوم.
فالأضحية لو نفذت كما يذكر الشرع الحكيم، لصنعت الفرق الواضح في المجتمعات المسلمة وفيما جاورها من مجتمعات؛ فلو روعيت المقاصد الشرعية التي من أجلها شرعت، لكان ذلك رحمة بالعباد جميعًا، الأقارب وغيرهم وخاصة الفقراء منهم. فهذا الإحسان الذي يأمر به الشرع يقوي الروابط الاجتماعية التي أصيبت بتصدعات خطيرة وعنيفة في هذه الأزمنة التي يؤمن أصحابها بفضائل المال بدل فضائل الأخلاق.
فهناك- كما يبدو- مناحٍ اجتماعية إيجابية كثيرة لدى بعض المسلمين بخصوص الاحتفال بيوم العيد. فمن السلوكيات والآثار الاجتماعية الإيجابية التي ينبغي للمسلمين الحفاظ عليها وتنمية سلوك التضامن والماواساة بطرق شتى، منها على سبيل المثال التصدق بجزء من لحوم الأضحية.
ومن تلك الأنشطة الاجتماعية الحسنة بمناسبة العيد التضامن والتعاون على مستوى توفير ملابس العيد التي قد تكلف ذوي الدخل المنتظم الكثير من ميزانياتهم السنوية، بل أولئك الذين لا دخل لهم أصلًا أو لهم دخل غير منتظم. لكن بهذا التضامن- رغم ما تعرفه البلاد من حمى ارتفاع الأسعار- فإنها قد تخفف الضغط على جيوب المواطنين ذوي الدخل المحدود أو المنعدم، وهم أولائك الذين على باب الله. فهذا عرف حسن يقره الشرع الحكيم؛ لأنه يستند إلى قاعدة أساسية مهمة وكبرى في الدين مفادها التعاون على البر والتقوى، والذي يعتبر من صميم التعاون على أعباء الحياة.
.