المقاصدُ أرواحُ الأعمالِ، فكما أنه لا جسد بلا روح، فلا عمل بلا مقصد، والعملية التعليمية أحد هذه الأعمال، وإن لم نضبط مقصد التعليم في بلادنا ضبطًا شرعيًا من حيث المنهج وأداؤه، ومن حيث الأهداف والغايات؛ تفرقت بنا المقاصد، ووجدنا أنفسنا نسير وفق مقاصد الآخرين ومناهجهم.
وقد حاول الدكتور عرفان عبد الدايم عبد الله، الحاصل على درجة الدكتوراه في اللسانيات العربية، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، من خلال قراءة كتاب: «أسلمة المعرفة للفاروقي.. قراءة نقدية تحليلية» توضيح العلاقة بين العملية التعليمية والمقاصد الشرعية، واختلاف المناهج التعليمية في الأمصار وأثره في تمزيق الأمة، وإعادة ضبط العملية التعليمية في ضوء المقاصد الشرعية من خلال مشروع مقترح.
العلاقة بين العملية التعليمية والمقاصد الشرعية
تنحصر كليات مقاصد الشريعة الإسلامية في خمس كليات؛ تتحقق بها مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وهذه الكليات هي: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. وتتداخل مقاصد التعليم ومقاصد الشريعة في اثنتين من هذه الخمس بطريق مباشرة، وهي: حفظ الدين، وحفظ العقل. وقد تتداخل مع غيرهما بطريق غير مباشرة. أما تداخل المقاصد الشرعية مع حفظ الدين؛ فلأن الدين مبني على معرفة الأحكام، ومعرفة الأحكام مبناها على العلم؛ ومن ثم كان للعلماء مكانتهم المعروفة في الإسلام، وقد ندب الإسلام إلى العلم في غير نص، وحث الأمة عليه، بل وفرضه عليها فرض كفاية.
وأما تداخل المقاصد الشرعية مع حفظ العقل، فلأن العقل مدار التكليف في الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم شرع الله ما يحفظه؛ إذ حرّم كل ما يذهب به أو يضره، وندب إلى التغذي بما يصلحه، بل إن الشرع كره أن يقضي القاضي وهو جائع، وندب إلى سد حاجة الإنسان من الطعام قبل الدخول في الصلاة. وحث الشرع على إعمال العقل، إذ بالعلم تنمو قدرات الإنسان، وتتسع مداركه، وبه يستقل العقل في البحث عن الحق، وبالعلم يستطيع الإنسان أن يعمر الأرض، وهو من غايات الشريعة الإسلامية.
العملية التعليمية كما صورها الفاروقي
لقد غُشِيت الرؤية الإسلامية برؤية أجنبية، وفدت إلينا مع الغزاة المستعمرين. ولما رحل المستعمر بقيت هذه الرؤية الأجنبية، بل أصبحت أشد خطرًا، وبدا المسلمون لعدة أجيال غير قادرين على التخلص منها.. وكان العامل الأول في انتشار هذا التصور الأجنبي هو النظام التعليمي، فقد شعّبوه إلى نظامين: نعتوا أحدهما (بالحديث)، والآخر (بالإسلامي).. هذا التشعيب صورة مصغرة لانحطاط المسلمين، وما لم يتم علاج هذا الأمر والتخلص منه، فسيظل يدمر كل الجهود التي تبذَل لإعادة بناء الأمة، ويحيل بين الأمة وأداء الأمانة التي ائتمنها الله تعالى عليها.
إن الطالب الذي يتعلم وفق مناهج علمانية يصاب بانفصام في شخصيته؛ لأنه مسلم، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولهذه الشهادة دلالتها ومرادها وحدودها وأوامرها ونواهيها.. ثم إنه يدرس مناهج علمانية لا يكاد يُذكر اسم الله عبر مراحلها التعليمية المختلفة، وحتى أولئك الذين يدرسون في المدارس الدينية أو المعاهد الأزهرية، فإنه أصابّهم ما أصاب المدارس المدنية من لوثات التغريب، فأصبحوا يدرسون سير أعلام الفكر العلمانّى، ثم إنهم تعرضوا لتجريف ديني متعمد، فبعد أن كانوا يدرسون المذاهب الأربعة، مثلًا، في الفقه؛ أصبحوا يدرسون (الفقه الميسر) الذي جاء لتمييع الدراسات الفقهية في الأزهر الشريف بمصر.
اختلاف المناهج التعليمية في الأمصار وأثره في تمزيق الأمة
إن للعملية التعليمية دورًا كبيرًا في ترسيخ عقيدة وَحدة الأمة في نفس الجيل المرتقب، وهو ما نلاحظه في الحضارة الإسلامية عبر عصورها الذهبية؛ إذ تأثرت التربية في الحضارة الإسلامية بالتقاليد والمبادئ الإسلامية تأثرًا واضحًا، فالدولة الإسلامية ظلت محتفظة بطابعها الديني حتى عندما خرجت عن حدود الجزيرة العربية، وقد نتج عن هذا التأثر فقدان الاختلاف في نظم التربية في الأمصار الإسلامية، مما ساعد على تماسك الإمبراطورية الإسلامية سياسيًا وعقليًا، زمنًا طويلًا، ثم استمرار الوَحدة الروحية والعقلية بعد ذلك زمنًا طويلًا، وساند ذلك حركة النشاط العقلي حين أصبحت اللغة العربية لغة الثقافة والتخاطب.
وعندما سقطت الخلافة الإسلامية، وتفرقت الأمصار، وأصبح لكل مصر سياسته ومنهجه التعليمي؛ اختلفت المذاهب التربوية، وتباينت الرؤى التعليمية؛ فأدى ذلك إلى اختلاف الثقافات وتباين التوجهات، فدخل في بلاد الإسلام ما ليس منه، بل دخلها ما هو للكفر أقرب منه للإيمان، كالرأسْمالية والشيوعية والديمقراطية... وكل هذا يدرس في بلاد إسلامية ثقافةً بل عقيدةً، فيخرج الطالب مسلما وصفا ظاهريا، غير مسلم فكرا وعقيدة، وهذا ما نراه في بلادنا من دعاوى العلمانية وغيرها.
إعادة ضبط العملية التعليمية في ضوء المقاصد الشرعية
على الأمة أن تتفق أول ما تتفق على وَحدة تعليمية لتوحيد الفكر، وليس من المرجو من الحكومات الإسلامية اليوم القيام بمثل هذا المشروع، إن الحكومات- في أغلبها- مفلسة فكريًا، تأخذ أجرتها على ما تنجزه من تفكك الأمة، وتشرذمها، وإنهاكها وإضاعة نشئها حتى لا يكون ثمة أمل في إحيائها ونهضتها وفق منهج يضمن قيامها وقيادتها للعالم مرة أخرى،؛ إذن فلم يبق أمامنا إلا أن نخاطب العلماء، عقلاء هذه الأمة والحريصين على بنائها بناءً إسلاميًا، ثم نخاطب العقلاء القائمين على أمر الجماعات الإسلامية الرشيدة، ثم نخاطب الأغنياء المخلصين لهذا الدين من أبناء هذه الأمة، نخاطب هؤلاء جميعًا داعين إياهم إلى الالتفاف حول منهج إسلامي رشيد، موحد على مستوى العالم الإسلامي شرقه وغربه، مبني على مقاصد الشريعة الإسلامية، يشتمل على العلوم الدينية والعلوم المدنية، ويقوم على معايير ومبادئ نابعة من عقيدتنا، معبرة عن ثقافتنا، منضبطة بمقاصد شريعتنا دون تعظيم الآخرين أو الافتنان بّهم.
ملامح هذا المشروع التعليمي
إن نظم التعليم في أي بلد تعد من أوثق المصادر للكشف عن حقيقة أهدافه ومشروعاته؛ ولذا وجب أن تكون خطة عملنا نابعة من ثقافتنا العربية، وعقيدتنا الإسلامية، وتتمثل أهداف خطتها فيما يلي:
- حفظ القرآن الكريم.
- دراسة العقيدة، وشيئًا من علم الكلام والفلسفة، فعليهما بُنيت الأطر النظرية لكثير من العلوم العربية والإسلامية.
- التمكن من التراث اللغوي والإسلامي: حفظًا ومدارسةً. ولهذا التمكن أدوات ووسائل، على رأسها إتقان اللغة العربية، وحفظ نصوصها التراثية أو مجموعة كبيرة من نصوصها على الأقل؛ حتى يستقيم اللسان، وتنقدح الملكة استعدادًا لتلقي العلوم الإسلامية الأخرى، ومن هذا الباب ما كان يفعله أسلافنا من إرسال أبنائهم إلى البادية لتلقي اللغة عن أهلها، ومعرفة مقاصدها، كما أن الأعاجم كانوا يرسلون أبناءهم إلى الحواضر العربية الفصيحة لتلقي اللغة ثم العلوم الإسلامية، ومن ثم كان جمعٌ من علماء الإسلام من أصل غير عربى.
- حفظ بعض المتون العربية والشرعية؛ لتكون معينًا لطالب العلم على تذكر كليات العلوم.
- التعمق في دراسة القراءات القرآنية، فإنها معين للغوي، ودليل للفقيه، وسعة للمشرع والسياسي.
- دراسة الفقه بمذاهبه، والتعمق في مجالاته، لاسيما المعاصر منها.
- دراسة الأدب العربي، وما وافق الروح الإسلامية من الأدب العالمي.
- إتقان العلوم الحديثة، ونبوغ نفر غير قليل من علمائنا الأوائل في هذه العلوم دليل على أهميتها واحتفاء الإسلام بها؛ إذ بّها تسَدُّ حاجةُ الأمة، ويستغنَ بّها المسلمون عن غيرهم، وهي سبيل واسع من سبل بناء الحضارة وعمارة الأرض.
- إقامة العلاقة المناسبة بين التصور الإسلامي وبين مجالات المعرفة الحديثة، فنقر ما ائتلف منها مع التصور الإسلامي وننكر ما اختلف عنه.
والمحوران الأخيران يوجبان على الطالب إتقان أكثر من لغة، حسب قدراته واستعداداته الفطرية. ولكن ثمة أمر يجب الالتفات إليه، وهو أمر مناهج اللغات الأجنبية، لأن كثيرًا منها يضع السم في العسل؛ ومن ثم وجب تنقيحها وتنقيتها من كل من يخالف عقيدتنا الإسلامية.
تُراعى المراحل العمرية في كل هذا؛ لأن متطلبات المراحل العمرية مختلفة، وبناء على اختلافها تختلف الأهداف والبرامج والمناهج، ففي الصغر يكون الصبي إلى الحفظ أسرع، وفي المراحل المتوسطة يطلب الفهم وينهض للحوار والمناقشة، ثم يكون في طور الشباب مستعدًا لتكوين شخصيته، وامتلاك المهارات التي تناسب قدراته وتحدد مجالاته، ومن ثم تبدأ مرحلة التخصص، ومنها ينتقل إلى مزاولة عمله حسب علمه، وهو في هذه السن يجب أن يكون قد ألمَّ بثقافته إلمامًا واسعًا، مع شيء من التبحر يَقِيه من مخاطر العولمة والثقافات المنحرفة.
.