لقد اهتم الإسلام بالعلم وحث عليه ورغب فيه، ولهذا اشتغل العديد من الصحابة بالتعليم والتأديب، فكان لهم الأثر الكبير في تأسيس الفكر التربوي الإسلامي، وكان من نتاج ذلك اهتمام المسلمين بتأسيس حِلق التعليم والتأديب، وانتشار العلم والتفرغ له، وممن باشر ذلك وكان له فضل السبق الصحابي أبو الدرداء عويمر بن عامر بن زيد الأنصاري الخزرجي، من أعلام الصحابة، انتهى إليه علم الصحابة وفقههم حتى لُقّب بعالم الشام.
وفى دراسة بعنوان: «الفكر التربوى عند أبى الدرداء رضي الله عنه»-2016-، للدكتور عبد الله بن حلفان بن عبد الله آل عايش، أستاذ أصول التربية الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، يرى أنه يلزم الوقوف على جهد هذا الصحابي الجليل والتعرف على فكره التربوي، ليكون مدادًا للقائمين على التربية والمهتمين بها، ودعوة للباحثين التربويين إلى البحث في تاريخ الفكر التربوي الإسلامي والاستفادة من تراثهم التربوي والذي يعد واجبًا حضاريًا، خاصة وأن النتائج التي ترتبت على هذه التجارب التربوية كانت رائدة وفاعلة وأخرجت أجيالًا من الرعيل الأول بنوا حضارة الإسلام.
أبو الدرداء رضي الله عنه
هو عويمر بن عامر بن زيد الأنصاري الخزرجي، اشتهر بكنيته– أبو الدرداء– والدرداء ابنته، وتأخر إسلامه قليلًا، فكان آخر أهل داره إسلامًا، وحسُن إسلامه، وكان رضي الله عنه من سادة الأنصار وأعرق بيوتها، وكان تاجرًا ناجحًا في تجارته، وكان ممن يجيد القراءة والكتابة، ولما منّ الله عليه بالإسلام لازم الرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة لصيقة، لم يفته من مشاهد الإسلام شيء، وكان أول مشاهِده أحد، وشهد ما بعدها.
آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمان الفارسي، وكان من العلماء الحكماء، وكان ذا عقل وقّاد، استرجع ما فاته من القرآن الكريم، واستطاع حفظ القرآن كاملًا في حياة النبي ﷺ وتلاه عليه، وكان من كُتّاب الوحي، وله في كتب الحديث 179 حديثًا، سكن الشام، ومات بدمشق سنة سنة أربع وثلاثين، في آخر خلافة عثمان.
لما فتحت الشام أقبل أهلها على الإسلام واحتاجوا إلى من يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن، فأرسله الخليفة عمر بن الخطاب إلى دمشق، ويُذكر أن أبا الدرداء أول من سَنَّ حلقات تحفيظ القرآن، وكان يقوم على إدارة هذه الحلقات والإشراف عليها وعلى القائمين عليها، وجاء في بعض الروايات أنهم عدوا من في حلقته، فإذا هم يزيدون على ألفٍ وستمائة قارئ يعلمهم القرآن، وقد جمع أبو الدرداء بين العلم والعمل وحسن الاتباع، فكان عاملًا بعلمه، وإلى جانب عنايته بالتعليم وتربية الناس على الإسلام فقد ولاه معاوية رضي الله عنه قضاء دمشق.
المبادئ والأفكار والأسس التربوية التي تبناها أبي الدرداء
- التربية الإسلامية:
أراد أبو الدرداء أن يخط لأبنائه مجال حياتهم الموعود بالسعادة والتلذذ بالعبادة والعلم، بعيدًا عن زخارف الدنيا وملذاتها، فهذا يزيد بن معاوية تقدم ليخطب ابنة أبي الدرداء فرده، فأعاد يزيد طلبه، فرفض أبو الدرداء مرة ثانية، ثم تقدم لخطبتها رجل فقير عُرف بالتقوى والصلاح، فزوجها أبو الدرداء منه، فتعجب الناس من صنيعه، فكان رده عليهم: ما ظنكم بابنة أبي الدرداء إذا قام على رأسها الخدم والعبيد، وبهرها زخرف القصور، أين دينها يومئذ؟
لقد كانت الدرداء نموذجًا للفتاة المسلمة، التي حيث تربت في أحضان العلم والزهد، فكانت بذلك نموذجًا في حياتها الأسرية وفي تبعلها، وتربيتها لأبنائها.
ويبلغ الحب الأسري بين الزوجين غاية السمو عندما تقف الزوجة ذات الشباب والجمال والعلم بين يدي زوجها المحتضر لتعلن له أنها لا تريد حياة بعيدًا عنه، بل أن تكون صاحبته في الجنة، فهذه أم الدرداء الصغرى ترفض الزواج بعده بخليفة المسلمين معاوية، إذ حدثت أنها قالت لأبي الدرداء عند الموت: إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة. قال: فلا تنكحين بعدي. فخطبها معاوية فاعتذرت إليه بالذي كان، فقال: «عليكِ بالصيام».
- تعليم الفتاة وتربيتها
جعل أبو الدرداءتعليم المرأة موازيًا لتعليم الرجال، فكانت حلق القرآن التي أقامها في دمشق تشمل النساء، فقد روى تلاميذه بأن أم الدرداء الصغرى زوج أبي الدرداء كانت تجلس في حلق القراء تتعلم القرآن، حتى قال أبو الدرداء يومًا: «الحقي بصفوف النساء»، وهذا دليل على أنه كان هناك صفوف للنساء ملحقة بالمسجد تحت إشراف أبي الدرداء.
بل كان لها كتابها الخاص لتعليم بنات المسلمين، فهذه زوجته تستمر على منهج زوجها في التعليم والفُتيا والإرشاد وتوجيه الناس، وكانت دارها مدرسة وملتقى للعلماء، فكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا نزل دمشق، نزل منزل أم الدرداء وكان يعقد درسه به ويحدث.
- نشر ثقافة الحوار
عن أبي حبيب القاضي أن أبا الدرداء كان يقول: «تَعَلَّمُوا الصَّمْتَ كَمَا تَتَعَلَّمُونَ الْكَلامَ، فَإِنَّ الصَّمْتَ حُكْمٌ عَظِيمٌ، وَكُنْ إِلَى أَنْ تَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْكَ إِلَى أَنْ تَتَكَلَّمَ، وَلا تَتَكَلَّمْ فِي شَيْءٍ لا يَعْنِيكَ، وَلا تَكُنْ مِضْحَاكًا مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَلا مَشَّاءً إِلَى غَيْرِ أَرَبٍ يَعْنِي إِلَى غَيْرِ حَاجَةٍ».
الأساليب التربوية التي اتبعها أبو الدرداء في تعليم تلاميذه
- الحث على طلب العلم
حرص أبو الدرداء رضي الله عنه على نشر العلم وبذله للناس بكل طريق، ففي الحديث الذي رواه كلٌّ من أبي هريرة وأبي الدرداء: «إنما العلمُ بالتَّعلُّمِ، و إنما الحِلمُ بالتَّحلُّمِ، و من يتحرَّ الخيرَ يُعطَهْ، و من يتَّقِ الشرَّ يُوَقَّه».
- التواضع واللين
لعل ما يميز شخصية أبي الدرداء هو تواضعه وقربه من الناس، وإشفاقه عليهم ونظرته الموسومة بالإنسانية والرحمة، وتلمس حاجتهم النفسية والاجتماعية، فكان يقف إلى جانب المحتاج والمقصر ويحاول مساعدته ورفع معنوياته، ويتحلي بأخلاق الإسلام، فليس من أخلاقه التكبر والتعالي على الناس، وكان يحث على نشر فضائل الأخلاق وحسن الكلام، وينهى عن الفحش والتفحش، ويمارس وظيفته كمربٍّ وآمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر.
- معرفته بأحوال الناس
كان لأبى الدرداء رؤيته النافذة في معرفة السمات الشخصية للمجتمع الذي يعيش فيه، فيختار الاستراتيجية المناسبة للموقف أو الحديث الذي يريد أن يتعامل معه، فيقول: «أدركت الناس ورقًا لا شوك فيه، فأصبحوا شوكًا لا ورق فيه، إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك».
- مراعاة قدرات المتعلمين والتدرج بهم
من الأساليب التربوية التي اشتهر بها أبي الدرداء رضي الله عنه مراعاة الفروق الفردية بين تلاميذه والتدرج بهم في تعليمه وفي تطبيق ما تعلموه، وهذا الأسلوب اقتبسه من المعلم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقسم التلاميذ إلى مستويات ومجموعات متناسبة في العمر الجسدي والعقلي والتحصيل العلمي، وكان طريقته في تعليم القرآن الكريم، أن يبدأ ذلك من بعد صلاة الفجر، حيث يبدأ مع عرفاء القراء، فيقرأ جزأه على مسمع منه، ثم إذا أتقن هؤلاء العرفاء انقلب كل عريف إلى حلقته فيقرئونهم ويعلمونهم ما تعلموه في ذلك اليوم، فمن أشكل عليه شيء رفعه أبي الدرداء.
- الوعظ والإرشاد
لقد كان للموعظة الحسنة حيز كبير في حياة أبي الدرداء رضي الله عنه، فقد كان لسانه وبيانه نموذجًا في الدعوة إلى الله تعالى وحث الناس إلى فعل الخير والمسابقة فيه، والتحذير من الأعمال السيئة وترهيبهم من عواقبها، فقد كان يقوم على درج مسجد دمشق فيقول: «يا أهل دمشق ألا تسمعون من أخ لكم ناصح»، وكذلك نجده وهو مقيم بحمص يمارس الإرشاد الجماعي فيقف خطيبًا ومذكرًا لهم، فيقول: «يا أهل حمص! ما لي أراكم تبنون شديدًا، وتجمعون كثيرًا، وتأملون بعيدًا، إن من كان قبلكم بنى شديدًا، وأمل بعيدًا، وجمع كثيرًا، فأصبح جمعهم بورًا، وبناؤهم قبورًا، وأملهم غرورًا».
.