Business

من مظاهر الفكر التربوي عند ابن خلدون

من المعلوم أن ابن خلدون هو المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع أو كما سماه (علم العمران البشري)، ولكن الباحث من خلال مطالعته لما تركه ابن خلدون من آثار وتراث؛ يرى أنه المؤسس لعلم النفس التربوي، أو على الأقل إدراك النواة الأولى للمفاهيم والمبادئ العلمية التي تقوم عليها التربية الحديثة، حيث يدل حديثه في مقدمته أنه أحكم فَهم كثير من التصورات والمبادئ التربوية.

وفي مستهل هذه الدراسة التراثية: «الفكر التربوي عند ابن خلدون»، التي أعدها الدكتور محمد صالح محمد الدرازي، يضع فيها العديد من التساؤلات، منها: ما هي أهم سمات شخصية ابن خلدون؟ وكيف كانت حياته؟ وما هي العوامل التي ساعدته على الوصول إلى هذه المكانة؟ وما هي أهم المبادئ والآراء التي يتبناها؟ ما هي أساليب التعليم التي كانت سائدة في عصر ابن خلدون؟

 

التعريف بابن خلدون

هو عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن خلدون، ولد في تونس في غرة رمضان، سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة من التقويم الهجري 732هـ، الموافق 1332 من التقويم الميلادي، وتوفي في القاهرة سنة 808هـ، الموافق 1406م، عن عمر يناهز 76 عامًا، وعاش طوال هذه الفترة حياة حافلة بالنشاط والحركة والحيوية.

ويمكن القول بأن ابن خلدون مر في حياته بأربع مراحل، تتميز كل مرحلة منها بمظاهر خاصة من نشاطه العلمي والعملي المتميز:

  • المرحلة الأولى: مرحلة النشأة والتلمذة والتحصيل العلمي، وتقع في حوالي عشرين عامًا، ابتداء من مولده حتى عام 751هـ قضاها في تونس، وقضى منها نحو خمسة عشر عامًا في حفظ القرآن الكريم وتجويده، والتتلمذ على كبار الشيوخ مهتمًا بتحصيل العلوم المختلفة.
  • المرحلة الثانية: مرحلة الوظائف الديوانية والسياسية، وتمتد من أواخر عام 751هـ إلى عام 776هـ، وتقع في خمسة وأربعين عامًا قضاها متنقلًا بين بلاد المغرب وبلاد الأندلس، وقد استأثرت الوظائف الديوانية والسياسية بمعظم وقته وجهوده أثناء هذه المرحلة.
  • المرحلة الثالثة: مرحلة التفريغ للتأليف، وتمتد من أواخر عام 776هـ إلى أواخر عام 784هـ، وتستغرق نحو ثمان سنوات قضى نصفها الأول في قلعة ابن سلامة، ونصفها الآخر في تونس، وقد تفرغ في هذه المرحلة للتأليف.
  • المرحلة الرابعة: مرحلة وظائف التدريس وتبلغ حوالي أربع وعشرين سنة، قضاها في مصر، وقد استأثرت وظائف التدريس والقضاء بأكبر قسط من وقته جهده في هذه المرحلة.

 

مراحل التعليم كما تصورها ابن خلدون

يرى ابن خلدون أن أفضل الطرق لتلقين العلوم والمعارف للمتعلمين الذين يتجاوزون المراحل الأولى = هي ما كانت تقدم لهم تدريجيًا شيئًا فشيئًا، من الأسهل إلى الأصعب، ومن البسيط إلى المركب، ومن المعلوم إلى المجهول، ويبدو أن الطريقة التي يشير إليها تتلخص في ثلاثة مراحل أو خطوات، حيث نادى بأن يرتقي التلميذ إلى درجة أو رتبة أعلى من السابقة التي اجتازها، وفي البداية تُقدم للتلاميذ مسائل عامة من كل باب من أبواب العلم، تتعلق بأسسه وأصوله ومبادئه، ويعني في شرحها على سبيل الإجمال، وفي هذه المرحلة يكتسب المتعلم ملكه جزئية وضعيفة في ذلك العلم، غير أنها تعمل على تهيئته لفهم واستيعاب ذلك العلم وإدراك قوانينه، ويطالب ابن خلدون المربي أن تُراعى قوة عقل المتعلم واستعداده لتقبل المعلومات.

 

من شروط التحصيل الجيد عند ابن خلدون

يشير ابن خلدون إلى أحد شروط التحصيل الجيد في عصرنا الحالي وهو التكرار، حيث أنه من المعروف أن الإنسان يحتاج إلى تكرار الأداء المطلوب لتعليم خبرة معينة حتِى يتمكن من إجادة هذه الخبرة، فالتكرار لا يقصد به التكرار الآلي الأعمى والأصم، بل التكرار المُوجَّه الذي يؤدي إلى الكمال، فلكي يستطيع الطالب أن يحكم حفظ قصيدة من الشعر فإنه لا بد من أن يكررها عدة مرات، ويؤدي تكراره وظيفة معينة إلى أن تصبح ثابتة، وكذلك يؤدي التكرار إلى نمو الخبرة وارتقائها، بحيث يستطيع الإنسان أن يقوم بالأداء المطلوب وبسرعة وبدقة في نفس الوقت، والتكرار المفيد هو القائم على أساس الفهم وتركيز الانتباه والملاحظة، ومعرفة معنى ما يتعلمه الفرد.

ويؤكد ابن خلدون على ضرورية تقديم الشروح الواضحة بصورة مفصلة وذكر أوجه التشابه واختلاف في العلم، وكافة وجهات النظر، فتتحسن بذلك الملكة، ويشير ابن خلدون إلى ما يعرف الآن بالفروق الفردية في عملية التحصيل الدراسي، حيث لا يحتاج بعض المتعلمين إلى تكرارات كثيرة للاختلاف الموجودة بينهم في القدرات الاستعدادات.

 

آراء ابن خلدون في العملية التعليمية

أولًا: استخدم ابن خلدون المشاهدة أو الملاحظة أو المعاينة لما يقع فيه المعلمون من أخطاء، وما ينبغي عليهم اتباعه ومراعاته في العملية التعليمية، والمشاهدة كما هو معروف، تعد إحدى خطوات المنهج التجريبي، تلك المشاهدة اليقظة للظواهر كما هو دون تعديل أو تغيير، أي أن الملاحظة مراقبة شيء أو حالة طبيعية أو غير طبيعية كما تحدث، وتسجيل ما يراقب لغرض علمي أو عملي كمراقبة نمو النباتات أو حالة مرضية، والملاحظة بالنسبة للعالم تعني تركيز الانتباه على كل الجزئيات غير المتوقعة.

ثانيًا: انتقد ابن خلدون طريقة المعلمين في عصره، إذا كانوا يحضرون للمتعلم في أول التعليم المسائل المغلقة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانًا على التعليم، ويخالطون عليه بما يلقون له من غايات وأهداف الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها.

وكذلك ينتقد ابن خلدون طريقة تلقين الطلبة الغايات قبل البدايات، وتلقين النظريات والقوانين، قبل الشرح والتوضيح بالأمثلة، ويرى إذا ألقيت على المتعلم الغايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والاستيعاب أو الوعي وبعيدًا عن الاستعداد له، أدى ذلك إلى صعوبة العلم وإلى إصابة ذهنه بالكلل، وعزف عن تحصيل العلم وتمادى في هجرانه له.

ثالثًا: يتحدث ابن خلدون عن مبدأ أصبح من أهم مبادئ التربية الحديثة، ويقوم على معرفة مدى الاستعداد في اكتساب المهارات والمعارف، وهو ما يعرف بأن الملكات والإدراكات تشحذ بالتدريب والإفادة وبتنوع البيئات، ولقد دلت التجارب أن لكل إنسان ميولًا واتجاهات ورغبات خاصة في تعلم فن أو علم من العلوم فيهتم به، بينما يمر آخر على هذا الفن أو العلم مر الكرام لانشغاله بفن آخر.

رابعًا: يرى ابن خلدون أنه على المربي أن يراعي عدم خلط مباحث الكتاب الواحد بغيره من الكتب الأخرى، حتى ينتهي إلى آخره، وحتى يحصل المتعلم على ملكة في أي علم من العلوم، ثم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد، وإلا عجز المتعلم عن الفهم ويئس عن التحصيل والتفكير وهجر العلم والتعليم، وفي ذلك إشارة من ابن خلدون إلى حالات الإحباط والفشل الدراسي الذي ينتج من سوء التعليم.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم