بات من الضروريات الملحة أن تعي الأمة الإسلامية أن الإسلام سبب رئيس في تطوير علوم التخطيط والتنظيم، وأن تدرك أهمية اتخاذ القرارات المدروسة، وإنجاز الأعمال بدقة وإتقان، وعليها أن تعي أن الإسلام مرجع لكثير من العلوم الحديثة، فهو واضع ضوابطها وقواعدها.
وفى دراسة بعنوان: «التأصيل الإسلامي للتخطيط الاستراتيجي التربوي»، للدكتورة فاطمة سالم عبد الله باجابرن، أستاذ مساعد- قسم التربية الإسلامية، بكلية التربية- جامعة أم القرى، تناولت فيها موقف الإسلام من التخطيط الاستراتيجي التربوي، وخصائص التخطيط الاستراتيجي التربوي في الإسلام، والتأصيل الإسلامي للتخطيط الاستراتيجي التربوي.
خصائص التخطيط في الإسلام
من خلال استقراء مصادر التربية الإسلامية، تتجلى العديد من المبادئ الأساسية التي قام عليها التخطيط الاستراتيجي، والتي تتمثل في الآتي:
- القيادة قدوة.
- الإخلاص في العمل.
- الصدق في القول والعمل بين الرئيس والمرؤوسين.
- الشورى في التخطيط.
- التعامل العادل بين جميع المرؤوسين.
- التنظيم والتدرج في العمل.
- القدرة على تحمل المسئولية.
وقد حدد كل من بن دهيش، ورضوان، والشلال (1430 هـ) خصائص التخطيط الاستراتيجي بصفة عامة في الآتي:
- يركز على العمليات الكفيلة بإنجاز الأهداف.
- عقلاني؛ لأنه يهتم بالجوانب العقلانية، ويأخذ في حسبانه الجوانب غير العقلانية.
- يركز على البيئة الخارجية والداخلية، وعلى المعلومات الكمية والنوعية معًا.
- يربط بين جميع العمليات، ويشمل عدد كبير من أفراد المؤسسة.
- يركز على الابتكار والإبداع والحدس؛ أي على فن التخطيط وصناعة القرار.
- يستخدم الاتجاهات الحالية والمستقبلية لاتخاذ قرارات تتعلق بالحاضر والمستقبل على السواء.
التخطيط الاستراتيجي التربوي في المجال التعليمي
الأمة الإسلامية منذ شروق شمسها وضع لها المربي الأول ﷺ تخطيطًا استراتيجيًا تربويًا، يبين أهمية العلم وفضله، وطريقة الحصول عليه، والهدف منه، والحوافز المشجعة من أجل الوصول إل درجة العلماء، كل ذلك تشرحه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (سورة الزمر: آية 9)، كما أشارت بعض الأحاديث إلى حكم طلب العلم فقال ﷺ: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وهذه المرحلة الأولى التي تضع الخط العريض حول أهمية العلم، ثم هناك أحاديث توضح الكيفية التي يكتسب بها المسلم العلم الصحيح.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة جمع البيانات، وهي توضح كيف علم المربي ﷺ الصحابة جمع المعلومات والتأكد من صحتها، وتحمل المشقة للحصول على المعرفة، وفضل طالب العلم وأجره.
و المرحلة الثالثة هي التنفيذ، ويتجلى في تعليم الناس وترغيبهم في العلم، والترحيب بمن يريد أن يتعلم، وبيان أهمية العلم ومنزلة العلماء، وكانت على خطوات:
- الترغيب في تعليم الناس، قال ﷺ: «سيأتيكُم أقوامٌ يطلبونَ العِلمَ فإذا رأيتُموهم فقولوا لَهُم: مَرحبًا مَرحبًا بوصيَّةِ رسولِ اللَّهِ ﷺ، واقْنوهُم، قلتُ للحَكَمِ: ما اقْنوهُم؟ قالَ: علِّموهُم».
- نشر العلم قولًا وعملًا، فقد كان ﷺ يطلق سراح الأسرى المتعلمين من الكفار إذا علموا بعض المسلمين القراءة والكتابة.
- أخذ العلم من أهله، قال ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانطروا عمن تأخذون دينكم.
- تدريب الكوادر البشرية على حب العلم، وتوضيح الحوافز لترغيب الناس على طلب العلم، فعن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله ﷺ ونحن في الصفة، فقال: «أيُّكُم يُحبُّ أن يغدوَ كلَّ يومٍ إلى (بُطْحانَ) أو إلى (العقيقِ) فيأتيَ منهُ بناقتَينِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ، بغيرِ إثمٍ باللهِ عزَّ وجلَّ، ولا قطْعِ رحِمٍ. قالوا: كلُّنا يا رسولَ اللهِ. قال: فلأن يغدُوَ أحدُكُم كلَّ يومٍ إلى المسجدِ فيعلمَ آيتَينِ مِن كتابِ اللهِ، خيرٌ لهُ مِن ناقتَينِ، وإنْ ثلاثٌ فثلاثٌ مثلُ أعدَادِهنَّ».
- اتباع السلف الصالح تخطيط القائد ﷺ؛ آخذين في الاعتبار الخطوط الواضحة لنشر العلم، فكانوا يتواصون بذلك. كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي ﷺ، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا.
- انتشار مراكز العلم في أقطار البلاد، قاصيها ودانيها، وتنافس الأقطار في مراقي الخير، وجليل المؤلفات خلال زمن يسير في جميع البلاد، فالإسلام هو منهج العلم والمعرفة، قال ﷺ: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، يتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
- وضع جزاء لمن يُخفي العلم، وبين أن من كتم علمًا أو حجزه على نفسه أو على فئة معينة من الناس فإن الله وعده بعقاب شديد، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (سورة البقرة آية 159 - 160).
- إخلاص النية لله في العلم، قال رسول الله ﷺ: «من تعلم علمًا، مما ينبغي به وجه الله- عز وجل- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة- يعني ريحها».
- ترشيح أهل العلم وتقديمهم على غيرهم في المناصب، لأن العلم النافع لا تقتصر منفعته على مثوبة الله وعلو منزلته الآخروية فقط، بل يعز صاحبه، ويرفع درجته في الدنيا أيضًا، فقد لقي عمر بن الخطاب نافع بن عبد الحارث بعسقان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال عمر: من استعملتَ على أهلِ الوادي؟ فقال: ابنَ أبْزَى. قال: ومنِ ابنُ أبْزَى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفتَ عليهم مولًى؟ قال: إنه قارئٌ لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وإنه عالمٌ بالفرائضِ. قال عمرُ: أما إنَّ نبيَّكم ﷺ قد قال: «إنَّ اللهَ يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرِينَ».
- احترام العلماء وتقديرهم، حيث جعل الإمامة فيمن هم أكثر علمًا قال رسول الله ﷺ: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، ...».
- الحرص على تعليم الصغار والاهتمام بهم، ومن نشأ على حب العلم أخذ منزلته بين الكبار ومكانته عند أهل العلم، فالمرء يقدر بعلمه.
- تعلم العلوم وفهمها لا يقتصر على فئة عمرية، أو على رجال دون النساء، بل شمل الجميع على حد سواء، فقد طالب النساء النبي ﷺ بتخصيص وقت لهن للتعليم، كما جاء في الحديث: قالتْ النساءُ للنبيِّ ﷺ: غَلبَنا عليك الرجالُ، فاجعل لنا يومًا من نفسكَ، فوَعَدَهُنَّ يومًا لقيَهُنَّ فيهِ، فوعَظَهُنَّ وأمرَهُنَّ، فكان فيما قال لهُنَّ: ما مِنكُنَّ امرأةٌ تُقَدِّمُ ثلاثَةً مِن ولَدِها، إلا كان لها حجابًا من النارِ. فقالتْ امرأةٌ: واثنينِ ؟ فقال: واثنينِ».
- تعلم اللغات، فهي بداية لمعرفة ما عند الآخرين من علم؛ لذا طلب ﷺ من زيد أن يتعلم لغة اليهود، عن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله ﷺ فتعلمت له كتاب يهود وقال: «إني والله ما آمن من يهود على كتابي»، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كُتب إليه.
- توطيد العلاقة بين المعلم والمتعلم، حتى يُقبل المتعلم على التعليم بنفس راضية وعقل متفتح، فقد كان المربي الأول ﷺ يتعهد الصحابة بالموعظة والنصح والتذكير، يقول ابن مسعود: كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا، وكان ابن مسعود يقول: إن القلوب لنشاطًا وإقبالًا، كما لها توليةً وإدبارًا، فحدثوا الناس ما أقبلوا عليكم.
ثم تأتي المرحلة الرابعة، وهي مرحلة التنبؤ بالمستقبل ووضع البدائل واتخاذ الإجراءات الوقائية؛ فقد بيّن ﷺ للمسلمين أنه سوف يأتي زمان يكثر فيه الزيف والضلال، وعلى الناس تجنب العلم الذي لا يتوافق مع الشريعة، وهذا ما نلمسه اليوم في واقعنا المعاش، حيث تضخمت المعرفة وتضاعفت، ولكن اعتراها الكثير من التضليل والانحراف عن الحق.
فالتربية الإسلامية لا تقبل أن يخوض فيها من يعلم ومن لا يعلم، إنما هي منهج يخوض فيه من وصل إلى مستوى الفهم والعلم؛ لذا فمهمة التعليم في البلاد الإسلامية تحتاج إلى رجال، فهي ليست مجرد تعليم علوم وفنون، ولغات وآداب، بل تتعدى ذلك إلى إنشاء جيل جديد؛ فكرًا وخُلقًا، وذلك يستلزم النبوغ والابتكار، والتأليف والإنتاج، والتمحيص والتدقيق في الكتب الموجودة.
.