لقد كان الطفل ولم يزل شاهدًا ومشهودًا في ثنايا صفحات التراث الإنساني الضخم، حيث استحوذت على أذهان المربين مسألة ضرب الطفل لتأديبه منذ زمن بعيد، ولا زالت كذلك، بل زاد الجدل في هذا الأمر واحتدم، إلا أن كفة حماية حقوق الطفل ومنع ضربه في المحيط الأسري والمدرسي آخذة في الازدياد.
وفى دراسة بعنوان: «تأديب الطفل بالضرب في الفكر التربوي الإسلامي.. دراسة نقدية»، لكل من د. بدر محمد ملك، ود. لطيفة حسين الكندري، الأستاذين بكلية التربية الأساسية- دولة الكويت، تسعى إلى الكشف عن أبرز الآراء الواردة في كتب التراثية والمعاصرة في موضوع ضرب الأطفال؛ بقصد التربية والتعليم، وتحقيق فهم نقدي أعمق وفكر تربوي أوسع في هذه المسألة الخلافية التي تمس حياة كل طفل وحاضره، بل قد تمتد إلى مستقبله، وحتى كرامته ومشاعره.
كتب الأدب العربي
أورد أبو الفرج الأصفهاني: «والعبد يقرع بالعصا.. والحر تكفيه المقالة».
وورد قريبًا من ذلك: والحر تكفيه الملامة، والإشارة، ويقال للذليل: عبد العصا، وقيل: الحر يخشى المضرة كما يخشى العبد العصا، وألف «أسامة بن منقذ» كتابًا عن العصا في الأدب العربي أسماه (الدرار هو المعلم والمؤدب)، واشتق له هذا الاسم من استعماله الدرة في تأديب وضرب الصبيان، وقولهم: هاتوا الجحش، يعني الفلقة.
ومن طرائف الأدب العربي ما ذكره الأبشيهي: أن الطفل اللئيم الذي يكره التعليم، ينال العقاب الأليم، واللطم بالعصا الطويلة والقصيرة، إذ قال الجاحظ: مررت على خربة، فإذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب، فوقفت أنظر إليه وإذا بصبي قد خرج من دار، فقبض عليه المعلم، وجعل يلطمه ويسبه، فقلت، عَرِّفني خَبَرَه، فقال: هذا صبي لئيم يكره التعليم، ويهرب ويدخل الدار ولا يخرج، وله كلب يلعب به، فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج؛ فأمسكه.
ومن أشهر الأمثلة الشعبية العربية قول الأهل لمعلم الطفل: «لك اللحم ولنا العظم»، يعنى: اضرب الولد ضربًا يؤلم الجلد، ولا تكسر له عظمًا، ويقول بعض العامة في بلاد الشام: «لعب العصا بجلدو»، وفي الأمثلة الشعبية الكويتية: «اللي يطقك يحبك»، أي أن الذي يضربك يحبك ويحرص عليك.
لقد شاع في تراثنا العربي قول معلم النحو: «ضرب زيد عمرًا»، ويرى المنفلوطي الابتعاد عن مثل هذه التعبيرات والشواهد، ويطالب بتركها لأنها من الأمثلة البالية، والمعلم يحتاج إلى أمثلة جديدة مستظرفة، تؤنس نفوس المتعلمين وتذهب بوحشتهم، وتحول بينهم وبين النفور من منظر هذه الحوادث الدموية بين زيد وعمرو، وخالد وبكر، وهل خُلق العربي ليَضرب ويُضرب!
كتب الفقه
إن الفقه الإسلامي أحد أهم مقومات المجتمع الإسلامي، وتشكل الإفادات التربوية المتولدة منه ينبوعًا من ينابيع الفكر العربي الإسلامي عامة، ودائرة الثقافة التربوية العربية الإسلامية خاصة.
إن كل علماء الفقه يرون إباحة الضرب في أضيق الظروف؛ لأنه نوع من أنواع التعزير، ففي الفقه الإسلامي: التأديب بالضرب والشتم، أو المقاطعة والنفي = لا يتجاوز عشر ضربات بالسوط، ويُشترط لوجوب التعزير أن يكون الجاني عاقلًا بالغًا، إلا أن العاقل غير البالغ يُعزرُ تأديبًا لا عقوبةً؛ لعدم التكليف.
وفي كتب الفقهاء نجد معالجات عميقة ودقيقة لموضوع العقاب البدني، فلو ضرب المعلم الصبي للتأديب فهلك؛ فعليه ضمان، ووجبت فيه ديةُ شِبهِ العمدِ على الصحيح، وقيل لا ضمان، وقال بعضهم يُضرب الطفل من سن الخامسة، والأكثر يرون بدأ العقاب من سن العاشرة.
ويرى الشافعي جواز التأديب بالضرب، مع أولوية تركه؛ لقول النبي ﷺ: «ولن يضرب خياركم».
وإذ ا لم يُجدِ الضرب نفعًا مع الصبي، فعلى المعلم والمربي تركه؛ قال بائع الملوك وسلطان العلماء العز بن عبد السلام: «ضربُ الصبيان على ترك الصلاة والصيام، وغير ذلك من المصالح، فإن قيل: إذا كان الصبي لا يصلحه إلا الضرب المبرح، فهل يجوز ضربه تحصيلًا لمصلحة تأديبه؟ قلنا: لا يجوز ذلك؛ بل يجوز أن يضربه ضربًا غير مبرح؛ لأن الضرب الذي لا يبرح مفسدة، وإنما جاز لكونه وسيلة إلى مصلحة التأديب، فإذا لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد، لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد».
وورد في الموسوعة الفقهية الكويتية: للمعلم ضرب الصبي الذي يتعلم عنده للتأديب، وبتتبع عبارات الفقهاء يتبين أنهم يُقَيِّدُون حق المعلم في ضرب الصبي المتعلم بقيود، منها:
- أن يكون الضرب معتادًا للتعليم كمًا وكيفًا ومحلًا، يعلم المعلم الأمن منه، ويكون ضربه باليد لا بالعصا، وليس له أن يجاوز الثلاث.
- أن يكون الضرب بإذن الولي؛ لأن الضرب عند التعليم غير متعارف، وإنما الضرب عند سوء الأدب، فلا يكون ذلك من التعليم في شيء، وتسليم الولي صبيَّه إلى المعلم لتعليمه لا يُثبت الإذن في الضرب، فلهذا ليس له الضرب، إلا أن يأذن له فيه نصًا.
- أن يكون الصبي يعقل التأديب، فليس للمعلم ضرب من لا يعقل التأديب من الصبيان، قال الأثرم: سُئل أحمد عن ضرب المعلم الصبيان، قال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإذا كان صغيرًا لا يعقل فلا يضربه».
كتب الأخلاق
إن كان الصبي طبيعته جيدة، مطبوعًا على الحياء، وحب الكرامة والألفة، مُحبًا للصدق، فإن تأديبه يكون سهلًا، وذلك أن المدح والذم يبلغان منه عند الإحسان أو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة من غيره، أما إن كان الصبي قليل الحياء، مستخفًا للكرامة، قليل الألفة، محبًا للكذب، عَسُر تأديبه، ولا بد لمن كان كذلك من إرغاب وتخويف عند الإساءة، ثم يحقق ذلك بالضرب إذا لم ينجح التخويف.
يقول ابن سينا الذي يعد أبرز الأطباء ومن أشهر فلاسفة المشرق العربي: «فينبغي لغنم الصبي أن يجنبه مقابح الأخلاق، وينكب عنه معايب العادات بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، وبالإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ أخرى، ما كان كافيًا، فإن احتاج إلى الاستعانة باليد لم يحجم عنه، وليكن أول الضرب قليلًا موجعًا كما أشار به الحكماء قبل، بعد الإرهاب الشديد وبعد إعداد الشفعاء، فإن الضربة الأولى إذا كانت موجعةً ساء ظن الصبي بما بعدها، واشتد منها خوفه، وإذا كانت الأولى خفيفة غير مؤلمة حسن ظنه بالباقي، فلم يحفل به».
أشار ابن خلدون إلى أثر العقاب البدني الشديد وعواقبه النفسية والسياسات في قوله: «الشدة على المتعلمين مُضرة بهم، وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم لاسيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم = سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمله على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخُلقًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين، وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف».
العقاب البدني بين المنع والتأييد
قضية ضرب الصغار قضية شائكة تضاربت بشأنها الآراء لاسيما في الوقت الحاضر، فنجد وفرة في الدراسات التخصصية الطبية والتربوية والنفسية والقانونية، التي تؤيد أو تعارض أو تقلل من ضرب الأطفال في حال الضرورة، فالقضية الآن من القضايا المجتمعية غير المحسومة، ونهايتها طريق مسدود، والأمر نفسه يمتد فنجده بين الآباء، فمنهم المؤيد ومنهم. ففي دول الخليج العربي أشارت دراسة إلى أن 51% من الأمهات يؤمن بأهمية التربية التسلطية، و41% منهن يُشِدْنَ باللجوء للعقاب البدني.
حجج المؤيدين
يستند المؤيدون للعقاب البدني في أضيق الظروف ووفق شروط صارمة، بالحديث النبوي الذي قال فيه رسول الله ﷺ: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع».
ويتفق علماء المسلمين قاطبة على أن الرفق أساس التربية، وأن العقاب من المبادئ التربوية للمتعلم، فالمعلم يجب أن يكون على جانب كبير من السماحة واليسر والبشر؛ ليحبب العلم إلى نفوس المتلقين، كما أن الصبر والاحتمال شيمة المربي.
قال النووي في صفة المعلم: «وينبغي أن يرفق بالذين يقرؤون عليه، ويرحب بهم، ويحسن إليهم بحسب حاله وحالهم، ويبذل لههم النصيحة ما استطاع، وأن يكون سمحًا بتعليمهم برفق وتلطف، ويحرضهم على التعلم، ويتألفهم عليه ويحنو عليهم، ويعتني بمصالحهم كاعتنائه بمصالح نفسه وولده، ويجري المتعلم منه مجرى ولده في الشفقة عليه والاهتمام بمصالحه، والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان، ويُعرّفه قبح ذلك بتلطف؛ لئلا يعود إلى مثله، وفي حال ضرب الطفل فيجب ألا يكون ضربًا مبرحًا، والضرب المبرح هو ضربٌ يُخشى منه ضرر نفسي أو تلف عضو من أعضاء الجسد».
ويرى عدد غير قليل من الباحثين المعاصرين أن تعليق أو إظهار السوط أو العصا أو الدرة وأداة العقاب = أمرٌ مستحسن، كدرجة من درجات العقاب، ويستشهدون بالحديث النبوي: «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت فإنه أَدَبٌ»، وهكذا ينصح هؤلاء بأهمية رؤية الأطفال للسوط بقصد الخوف منه.
ومن النصائح المؤكدة تجنب ضرب الوجه والرأس، فقد جاء في صحيح مسلم بشرح النووي، أن الوجه كما قال العلماء: «لطيف يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة، وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه، والشَّيْنُ فيه فاحش؛ لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من شين غالبًا، ويدخل في النهي إذا ضرب زوجته، أو ولده، أو عبده ضرب تأديب فليتجنب الوجه».
حجج المانعين
يقول الأستاذ حسن عشماوي في كتابه [كيف نربي أبناءنا]: «العصا وجارح القول لا يخلقان إنسانًا صالحًا أبدًا.. قد يخلقان قردًا مدربًا تبدو على حركاته وسكناته مظاهر الأدب، ولكننا نريد أولادنا بشرًا لا قرودًا، مجرمٌ كل مربٍ يضرب الولد، أبًا كان أو معلمًا، مجرم من ناحيتين: كل ضربة تنزل بجسم الصغير في البيت أو المدرسة تعد انتهاكًا لكرامة الإنسان، كل ضربة تنزل بجسم الصغير، تغرس فيه روح الذل والخنوع، أو روح الثورة والإجرام، حسب رد فعله الفطري».
إن ضرب الأطفال وصفعهم وإهانتهم، أو حتى الصياح فيهم من شأنه أن يغير شكل وبناء أدمغتهم بشكل بارز ودائم، بحيث يؤدي إلى مشكلات سلوكية طويلة الأمد، ففي تقرير نشرته جامعة هارفرد نجد أن الكثير من الأمراض النفسية عند الأطفال هي سلوكيات مكتسبة ناتجة عن مواقف سلبية قاسية، مما يؤكد على أن انتهاك حقوق الطفل من أخطر القضايا التي تسحق كيان الطفل، إن خوف الطفل الشديد قد يسبب مع الوقت تغيرات دائمة وضارة لتركيب المخ، ومن ثم تقود إلى مشكلات سلوكية.
يكشف الواقع العربي المعاش عن ثقافة قلقة وشائعة إذ أن الضرب عمومًا إهانة بشرية مرفوضةً شرعًا، وكل ما ورد في هذا الباب يجب أن يفسر على سبيل الاستياء والغضب، يرى بعض الباحثين الشرعيين عدم صحة الأحاديث المنسوبة للرسول ﷺ، والتي تتحدث عن ضرب الأطفال، مؤكدًا أن هذه الأحاديث لا تدل على الإيذاء، والعقاب ليس أصلًا في التربية الإسلامية والاجتماعية، وإنما هو استثناء.
ختامًا
إن أسلوب العقاب البدني للأطفال فكرة مهينة ولا يتفق مع رسالة المدرسة، ولا سلوك المعلم، وما كان يجب أن يكون عليه في تعامله مع تلاميذه، تقوم التربية على اللين من غير ضعف، والرفق بلا تساهل، ومن هنا قالوا عن المحبة والمواصلة: «من لانت كلمته، وجبت محبته، ومن لان عوده كثرت أغصانه، والرفق يملك الأمر كله».
إن الإكراه سلاح كل فقير في براهينه، فاشل في إقناعه، أعوزه المنطلق فأسعفته العصا.. إن الإقناع أهم من التخويف، والدليل أجدى من السيف، إن القسوة والشدة مع الناس دليل الإفلاس، إن التعلم بالاختيار والدعوة بالاختيار أقوى وأبقى من التعلم بالإجبار، إن عباراتنا لاسيما في التربية تحتاج إلى أن تكون أدق وأرق، فالطفل مخلوق رقيق لطيف، فجمل من مثل "آخر الدواء الكي" وأن يكون الطالب عبدا لمعلمه هي عبارات غير لائقة، مهما كان قصدنا نبيلًا واجتهادًا مصيبًا، ولا تشفع النية الحسنة للعبارات الخشنة.
لقد كانت تطبيقات النبي ﷺ بعيدة كل البعد عن توقيع العقوبات المادية في التربية والتعليم فإن كان العقاب البدني المحدود المنضبط سليمًا وصحيحًا فالأسلم والأصح تركه، ففي صحيح مسلم.. يصفُ الصحابيُّ تعليمَ النبي ﷺ فيقول معاوية بن الحكم السلمي: «ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني».
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: «ما ضرب رسول الله ﷺ امرأة قط، ولا ضرب خادمًا له قط»، لقد كان هديُهُ ﷺ في التربية والتعليم يقوم على الحلم واللطف.
.