إن للعبادات آثارًا جليلة على السلوك الإنساني، والناظر إلى المجتمع الإسلامي في شهر رمضان يعجب من الصلاح النسبي الظاهر في المجتمع خاصة في النهار، فمهما كان المجتمع بعيدًا عن خلق الإسلام فسيتغير الحال في رمضان، فتمتلئ المساجد، ويختم أكثر الناس القرآن الكريم، ويُكثرون من الذكر والتوبة، ويرسلون الدموع، ويظهرون الخشوع، ويجهرون بالاعتراف، ويندمون على الاقتراف، ولهذا فإن للصوم أثر كبير على السلوك الإنساني.
وفى دراسة بعنوان: «أثر الصيام على السلوك الإنساني»، للدكتور محمود فتوح محمد سعدات، تناول فيها الأثر الكبير للصيام على السلوك الإنساني، من تعديل للسلوك وضبط للتصرفات، وتعميق للمراقبة لله تعالى، والتحكم في الشهوات وتقوية الإرادة، وتحرير الروح والسمو بالعبادة، وغيرها.
أبعاد الصيام
- الأبعاد التربوية: يعد الصيام مدرسة تربوية لتهذيب الأخلاق والسموّ بالنفس عن شهواتها ورغباتها؛ إذ يعيش المسلم في خلقه أرفع درجات الصفاء والإخلاص، ففيه تربية للإرادة القوية، وتدريب على الصبر؛ وقاية من الإثم في الدنيا، ومن النار في الآخرة كما في الحديث الشريف: «الصيام جُنَّة» أي وقاية.
- الأبعاد الصحية: يساعد الصوم على تحقيق آثار نافعة في الصحة والبدن، كما شهد بذلك الأطباء المختصون، فهو يريح المعدة وجهاز الهضم، ويجنب الصائم أمراض التخمة والإفراط في السمنة.
- الأبعاد الاجتماعية: إن فرض عدم تناول الطعام والشراب على كل الناس رغم قدرتهم على ذلك، يُوجِد نوعًا من المساواة الإلزامية في الحرمان ويزرع في أنفس الميسورين الإحساسَ بآلام الفقراء والمحرمين.
- الأبعاد الاقتصادية: يساعد الصوم على التخفيف من نفقات البيت نظرًا لتخفيض عدد وجبات الأكل في اليوم، كما أن العمل المستمر دون انقطاع يؤدي إلى الزيادة في الإنتاج.
أثر الصيام على السلوك الإنساني
- تعديل السلوك وضبط التصرفات:
يؤثر الصيام تأثيرًا عظيمًا في ضبط السلوك الإنساني وإصلاح أخطاء الناس، فشهر رمضان شهر القرآن أنزله الله هدى ونورًا ودستورًا وفرقانًا بين الحق والباطل، وهذا الشعور بجلال رمضان وما له من مكانة كثيرًا ما يكون حافزًا على استصلاح الأخطاء في رمضان والعودة إلى الله بالتوبة الصادقة، والإنابة الدائبة، فكم من جبار في الأرض متسلط على العباد بسوط العذاب أقلع عن جبروته في رمضان أملًا في رحمة الله في شهر الرحمة، وأدرك أن الشمول في الصيام هو العمدة، فللعين صيام وللأذن صيام، وللرِّجل صيام، ولكل جارحة في الإنسان صيام، ومن مجموع ذلك يتكون الصيام الزاكي الذي لا خدوش فيه ولا نكور.
ويؤكد ذلك ما ورد من قوله ﷺ في مزايا رمضان وفضائله: «إذا جاء رمضانُ فُتِحَتْ أبوابُ الجنةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النارِ، وصُفِّدَتْ الشياطينُ»، إذ إن من عوامل فتح أبواب الجنان وقفل أبواب النيران كثرة من يدخلها، إذ يزداد صاحب البر في بِره في رمضان وحسن معاملته لله واستدامة طاعته، ويقصر صاحب الإثم عن نزوته ويرتدع عن غوايته وظلمه فيكون ذلك سببًا في شموله برحمة الله في رمضان، ودخوله دار كرامته إلى جانب البررة الصالحين من أوليائه.
- تعميق المراقبة لله تعالى:
يعمق الصيام في الإنسان المراقبة لله تعالى في كل حركاته وسكناته، والمراقبة سر من أسرار الإسلام لا تعرفه الأمم ولا تستعمله لضبط سلوك المجتمع والأفراد، فالصوم يربي في نفس الصائم صفة المراقبة، مراقبة الله عز وجل في السر والعلن والغيبة والشهود، والمسلم إذا راقب الله حق المراقبة فقد بلغ غاية الإحسان، وفي حديث جبريل المشهور الذي كان رواه الشيخان أنه سأل رسول الله ﷺ فقال: «... ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ...».
ولا تكاد تجد عبادة تتجلى فيها مراقبة الله مثل الصوم، فالصائم الذي لا يراقب الله سبحانه ربما يأكل ويشرب في الخفاء ثم يظهر أمام الناس بمظهر الصائم المتنسك، فالصوم في الحقيقة سر بين العبد وبين ربه، ولا يطلع على حقيقته إلا الله، ولكونه سرًا بين العبد وبين ربه أضافه الله إلى نفسه وشرَّفه بهذه الإضافة، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ لَه إلَّا الصَّومَ ، فإنَّهُ لي وأَنا أجزي بِه ، ولَخُلوفُ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللَّهِ من ريحِ المسكِ».
ولا يزال الصوم يقوي من صفة المراقبة حتى تصير ملكةً من الملكات النفسية، وإذا صارت ملكة راسخة تحكمت في سلوك الإنسان ووجهته إلى المسارعة في الخيرات والإحجام عن المنكرات، إذ كلما أمرتْه نفسه الأمارة بالسوء بمنكر تذكر عظمة الله وجلاله وأنه مطلع عليه ومراقب له فتقول له: اترك، ولعملِ الخير أسرعِ، وصدق الله حيث يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] وصلاح الأفراد والجماعات متوقف إلى حد كبير على هذا الوازع النفسي الذي يجعل من صاحبه رجلًا حاضر القلب متيقظ الشعور حي الضمير.
- التحكم في الشهوات وتقوية الإرادة:
وهذا أمر مهم جاء به الإسلام العظيم، فهذا الدين الجليل لم يجعل الوصول إلى رضى الله تعالى عن طريق الامتناع عن الملذات والشهوات كما زعم أحبار النصارى ورهبانهم، إنما أباح ذلك للمسلم بضوابط، وحثه على التحكم في شهواته، ومرادات نفسه، فقد فرض الله الصوم على الإنسان ليقوي من إرادته، ويشد من عزيمته ويرفع من همته، ويكمل من رجولته، فيصير مسلحًا بقوة الإرادة مزودًا بذخيرة الشجاعة، مستعدًا استعدادًا صالحًا لخوضِ ذلك العباب، ومغامرةِ هاتيك الصعاب، لذا كان من الطبيعي أن يُفرض الصوم على الأمة كما فُرض عليها الجهاد في سبيل الله وذلك لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصالَ طاعةٍ وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارًا لما عند الله من الرضى والمتاع، وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك، والذي تتناثر على جوانبه الرغبات والشهوات، والذي تهتف بالسالكين فيه آلاف المغريات.
إن ما في الصوم من كبت وحرمان، ليس هدفه هذا الكبت والحرمان وإنما الصوم وسيلة إلى غاية نبيلة، إنه التدريب على السيادة والقيادة: قيادة النفس وضبط زمامها وكفها عن أهوائها ونزواتها. بل إنه التسامي لتلك القيادة إلى أعلى مراتبها، فلقد كنتَ في بحبوحة الإفطار إنما تحمى جوفك عن تناول السحت والخبيث، فأصبحت في ظل الصوم تفطمه حتى عن الحلال الطيب.
ولقد كنت تكف لسانك على الشتم والإيذاء فأصبحت اليوم تصونه عن رد الإساءة، وعن إجابة التحريش والاستفزاز، فإن خاصمك أحد أو شاتمك لم تزد على أن تقول: «إني صائم، إني صائم». هكذا ملكت بالصوم زمامي شهوتك وغضبك، وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر. فلئن كان الصوم قد علمك أن تصبر اليوم طائعًا مختارًا في وقت الأمن والرخاء، فأنت غدًا أقدر على الصبر والمصابرة في البأساء والضراء وحين البأس. ولئن كان الصوم قد علمك كيف تنتصر اليوم على نفسك، فلقد أصبحت به أجدر أن تنتصر غدًا على عدوك.
- تحرير الروح والسمو بالعبادة:
يساعد الصوم على تحرير الروح والسمو بالعبادة، فالصوم يصنع أجواءً روحيةً ونفسيةً تساعد على تغيير النفس البشرية وإصلاحها، وتعبيدها لخالقها. ولابدّ للصائم من أن يستحضر هذه الحقيقة في نفسه، ويعمل على جعل شهر الله فرصة للتوبة والإصلاح والتغيير والتكامل الأخلاقي والسلوكي.
- زيادة رقة المشاعر وحب الخير لدى الفرد (الشعور بحال الفقراء والمساكين):
إن المرء مهما كان غنيًا مترفًا مرفهًا فلا بد له من الصيام، حتى يذوق آلام الجوع والعطش والامتناع عن سائر الشهوات، وهو عندما يتقلب في مشاعر الحرمان هذه لا بد أنه سيذكر إخوانه المسلمين ومعاناتهم فيرق قلبه لهم، فالإنسان كثير النسيان لإخوانه البؤساء، قليل العطف على المُعْوِزِين والفقراء، فأمره بالصوم حتى يذوق شيئًا من آلامهم، ويحس بؤسهم ويشعر بوجدهم، فإذا رأى أنه لم يصبر على الجوع وحده يومًا كاملًا وتقدم إليه في آخره ألوان الطعام والشرب، أدرك- إن كان فيه إحساس- كيف لا يستطيع أولئك البؤساء أن يصبروا على الجوع وغير الجوع عامًا كاملًا أو عمرًا طويلًا لم يقدم لهم فيه لون من تلك الألوان في الطعام والشراب.
.