Business

المعوقات الاجتماعية للموهوبين والمتفوقين في مؤسساتنا التربوية

هناك عدة أسباب تكمن وراء ظهور المعوقات الاجتماعية المختلفة لدى الأفراد الموهوبين والمتفوقين، منها ولعل أهمها: الحرمان الاقتصادي، والعزلة الجغرافية، وغياب الدعم الأسري، والتوجيه المهني، وأساليب التنشئة الأسرية الخاطئة، فضلًا عن أسباب أخرى تتعلق بالمدرسة: مثل توقعات المعلمين المرتفعة، وعدم وجود المناهج الدراسية التي تتفق وقدراتهم، وعلاقة الفرد بالأقران، وغياب المعلم الناجح أو اغترابه، وحلول المذكرات الدراسية بديلًا عن المصادر العلمية لاسيما في الجامعات وما يترتب على ذلك من استظهار الحفظ على حساب الاستيعاب والفهم؛ مما ينتج لنا في نهاية المطاف فردًا خاملًا خاضعًا ليس لديه القدرة على الحوار والنقاش.

من أجل كل ذلك، أعد الدكتور عبد الرزاق جدوع محمد، الأستاذ بجامعة ديالى في العراق، دراسة بعنوان: «المعوقات الاجتماعية للموهوبين والمتفوقين في مؤسساتنا التربوية»، ليكشف النقاب عن أبرز المعوقات الاجتماعية التي تقف حائلًا في طريق المبدعين والمتفوقين في مؤسساتنا التربوية.

 

 أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة في المؤسسات التربوية

1- الأسرة:

  • عدم تقبل مواهب الطفل، والنظر إليه على أنه مشاكس وجالب للمشاكل.
  • أن تطلق عليه ألفاظًا وعبارات لا يقبلها أو تسخر منه ومن طموحاته.
  • أن تبالغ الأسرة في إطلاق عبارات الثناء على ابنها وتمنحه العطف والتدليل أكثر من اللازم؛ مما يؤدي به إلى الغرور والشعور بالاستعلاء والتكبر.
  • توجيه الأطفال وتلقينهم مفاهيم خاطئة وقوالب جامدة في التفكير، كالقول بأن حل هذه المشكلة لا يتم إلا بطريقة واحدة فقط، وهذا يقتل روح الإبداع لدى الأطفال الذين يمكنهم اكتشاف حلول وبدائل أخرى جديدة غير مألوفة لدى الكبار وأولياء الأمور.
  • جهل الأسرة بالأساليب السليمة في تنشئة الأبناء، هذه الأساليب التي تعتمد على الرعاية المكثفة والملازمة المستمرة للأبناء أثناء عملية التعلم، ولا تعتمد على الموازنة بين أساليب اللين والشدة عند تربية الأبناء، فضلًا عن تبنيها مبدأ استعمال العقاب في التنشئة الأسرية.
  •  لا تمتلك معظم الأسر الرؤى السليمة نحو القيم الإيجابية المطلوب زرعها عند الأبناء، والقيم المنحرفة الطلوب محاربتها واستئصالها؛ لكيلا تكون أدوات ومعاول للهدم والتدمير وإفساد العقول والضمائر.
  • كما تفرط الأسرة في حماية الطفل من شتى المخاطر التي لابد أن تعترض حياته، لدرجة أنها تعيش بدلًا عنه الخبرات الصعبة والمؤلمة التي عليه هو عيشها؛ كي يتمكن من تجاوزها فيغني رصيد خبراته الشخصية وتتبلور استعداداته وميوله الفردية، وأخطر ما في الحماية المفرطة أنها تعطل دور النمو الطبيعي كما أنها تولد عند الطفل الاتكالية والشعور بالعجز والقصور. فالأسرة تقتل شخصية الطفل وتروضه بشكل متطرف على التقيد الأعمى بعادات المجتمع وتقاليده، فهي تعلمه الرضوخ للسلطة المتمثلة بالأب الممثل بدوره لقيم المجتمع، وتعاقب كل من تسول له نفسه الخروج عليها عقابًا جسديًا ونفسيًا ومعنويًا عن طريق الازدراء مما يضطر الفرد للامتثال لها حتى لا يرفض من قبل أسرته، كما أنها تعتمد في تربيتها للطفل ببناء شخصيته على صورة الآخرين فهي تلحق أشد العقاب بكل ابتكار وتجديد يقوم به الفرد، بينما تكافئ كل نشاط يمثل ما هو مقبول من قبل المجتمع، كما تقتل فيه الثقة في نفسه لأن الأسرة تعوده على الاهتمام بما يقوله الآخرون؛ لأن رأيه لا يعول عليه، وتعلمه فن مسايرة الآخرين ولو تم ذلك على حساب حقوقه المشروعة، وإن كان الآخرون على خطأ وهو على صواب.
  • وتقتل الأسرة في داخل شخصية الطفل بذور الإبداع نظرًا لانزعاج الأهل من كثرة الأسئلة التي يطرحها الطفل، إذ يدفعه فضوله للتعلم، فيسكتونه مع العلم بأن فضول الطفل وبحثه عن المعرفة يعدان عاملين من العوامل التكوينية في بناء شخصية، والصفة المثالية للطفل في المجتمع العربي تكمن في كونه عاقلًا محبوبًا يكتفي بطرح القليل من التساؤلات والإزعاجات، وهكذا تقوم الأسرة بعملية غسل دماغ طفلها وتغرقه في خضم الجهل، خاصة وأن إجاباتها على تساؤلاته تعتمد على الإجابة دون اطلاع ومعرفة.

2- المدرسة:

تكمل المدرسة الدور الذي تؤديه الأسرة في معاقبة العقل المتفتح والمتوثب والراغب في الاستزادة من المعرفة والعلم، ففيها كما كانت الحال في الأسرة يتعلم الطفل ثم البالغ والشاب ومن ثم الراشد الرضوخ للسلطة والاقتداء بالآخرين، والأدهى من ذلك يكمن في ممارسة المدرسة لعملية التسلط الفكري المباشر الذي يقطع الطريق عن كل محاولات التلميذ في مجال التساؤل والحوار، وفي الواقع يشكل التلقين الأسلوب الأساسي للتعليم داخل مؤسساتنا التربوية كافة، إذ أنه لا يقتصر على المدارس الابتدائية والتكميلية والثانوية؛ بل يتعداها إلى حرم الجامعة حيث يفرض الحفظ وغالبًا دون فهم التلميذ لما يدرسه كطريقة أساسية للتعليم، وطريقة التعليم تشكل السبب الرئيسي المسئول عن عجز الثقافة في مجتمعاتنا، مع العلم أن هذه المجتمعات تضم نسبة مئوية مرتفعة جدًا من حملة الشهادات العليا لكن دون المساهمة الفاعلة في بلورة الشخصية الفردية.

لقد آن لنا أن نعترف بأننا نقتل في طلابنا كل إمكانيات التفكير والإبداع، وأننا نعمل على محاصرة العقل والإجهاز على بقية الومض فيه، ونحن في كليات التربية أشد فتكًا بالعقل من أية كليات علمية أخرى، لقد شغفنا بالتعليم البنكي الذي نعلن في كل مناسبة عن خطره، ونحن نستخدم كل إمكانيات ما يسمى بالمنهج الخفي في سبيل تحطيم كل الإمكانيات الإبداعية عند الطلاب، ونبحث في قلوبهم كل مشاعر الحرية، ونحاصرهم بسلاسل الامتحانات التقليدية،، نلقنهم ما يجب قوله في الامتحان، ونمنعهم من حرية الرأي، ونقهر فيهم كل حرية في القول والتعبير عن الرأي، أسئلة الامتحان تحولت إلى فوازير وحزازير وعقول الطلاب إلى حجرات نضع فيها فتات المعرفة، لقد درج في جامعاتنا ما يسمى بالأسئلة الموضوعية التي يندى لها جبين العلم خجلًا، وخرجنا بهذه الأسئلة عن غايتها وأساليب عملها، لقد وضعنا جانبًا كل إمكانيات الحوار والتعليم الذي يعتمد على العقل والمناقشة والتفكير الحر. ومن جراء ذلك غص عالنا العربي بحاملي الشهادات العليا، ذلك لأن الأسلوب التعليمي المتبع عندنا يعطل عن هؤلاء طاقتهم الأساسية على الإبداع ويؤدي إلى شلل كلي في أجهزة العقل وقدرته على النقد والتحليل.

لا يتم إنماء القدرة الإنتاجية في مجتمع، ما لم تنفتح العقول وتتمكن من أساليب التفكير العلمي وتروض على الاستقلال والمبادرة، خلافًا لذلك فإننا نتبع أسلوب التصدي لحل المشكلات بأسلوب عاطفي شكلي غير ملتزم بالواقع، بينما عليه الانكباب على العمل بأسلوب يمكنه من الخروج من واقع الانغلاق على الذات لاكتساب الذهنية المتفتحة المهيأة لقبول الحقيقة، كما يعاني مجتمعنا من خوف أبناءه من مواجهة الذات ونقدها، إذ إن محاسبة الذات تعد ميزة من ميزات العقل المتفتح.

إضافة إلى ما سبق ذكره هناك أسلوب العقوبات الجسدية القاسية مثل، الصفع والركل، والضرب بأدوات متعددة، مثل الأحزمة والعصي، وقد يتعرض الطفل لأشد أنواع الأذى، ويذهب ضحية الإسراف في العقاب، وغالبا ما تصدر هذه العقوبات من قبل الآباء المتسلطين ولاسيما هؤلاء الذين يتعاطون الكحول أو المخدرات، ولاسيما عندما يكون أحدهم تحت تأثير الخمر أو تأثر فوران الغضب وجنونه، ويجب علينا في هذا الخصوص أن نمايز بين أشكال العقاب، فهناك العقوبات الخفيفة نسبيًا مثل: الانتقاد، وهي من نوع العقوبات التي تلعب دور التهدئة، وهناك عقوبات الإذلال كالضرب والصفع والحرمان من الطعام. وهؤلاء المربون الذين يلعبون لعبة التخويف ضد تلاميذهم، يعدون أناسًا خطرين جدًا على الحياة الاجتماعية، ومثل هؤلاء يقودون الأطفال إلى حالة انفعالية مأساوية، تأخذ طابع الاضطرابات النفسية.

وقديمًا قال الإمام الغزالي أنه يجب على المربي أن يعرف نوع المرض وسن المريض حالة تأديب الطفل وتهذبيه، لأن المعلم في نظره كالطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد لأمات قلوبهم، ومعنى هذا أن يعامل كل طفل حسب ظروفه وسنه، وكان الغزالي ضد الإسراع في معاقبة الطفل المخطئ، فقد نادى بنبذ اللوم والتقريع، ورأى أن التعزيز يفرح النفس، أما التوبيخ فيؤدي إلى الحزن.

إلى جانب ذلك هناك التسلط الفكري الذي يبدأ في الأسرة ويمارس في المدرسة وتصل غصونه إلى الجامعة بحيث يشعر الطالب بعدم الطمأنينة نتيجة انعدام تشجيع الأستاذ له وحثه على التعبير عن رأيه بصراحة وحرية وبدون رياء ومقابلة ذلك بالإيضاحات العلمية لتصحيح ما علق في ذهن الطالب من شوائب، فالأستاذ يبدو غير مستعد نفسيًا وفكريًا بل يبدو عاجزًا عن القيام بدوره نظرًا لكونه هو من نتاج التربية الاجتماعية ذاتها، لذا نجد طاقة الإبداع محدودة جدًا عند الأستاذ والطالب الجامعي: تهجير عدد كبير من الطاقات العلمية الرفيعة المستوى إلى الخارج حيث تجد هناك المتنفس الواسع للتعبير عن ذاتها.

إن أسلوب التعليم يغلق الباب أمام أي تساؤل أو حوار بحيث لا يجرؤ أحد من التلاميذ على طرح سؤال أو إبداء رأي مختلف، والأخطر من ذلك في تعلم الأولاد أن عدم المعرفة عيب لذا لا يجرؤ الطالب على قول أنا لا أعلم فيلجأ إلى طرق ملتوية وأساليب مختلفة بهدف تمويه عدم معرفته مما يؤدي إلى نمو شخصيته وعقله بشكل مرضي ويرسخ عنده روح الخضوع والاتكالية.

لذا فمن الواجب على المربين أن يختاروا الأساليب المناسبة لكي تدعم الروح الابتكارية في التفكير، فعلى سبيل المثال لا تقدم المفاهيم للأطفال في مرحلة الرياض عن طريق إلقاء المعلومات النظرية، حيث تصلح هذه الطريقة في المراحل المتقدمة وإنما تقدم لهم عن طريق التطبيقات العملية التي تتيح الفرصة للطفل لكي يكتشف وينتج. كما أن الأساليب التسلطية المعتمدة في المدارس كثيرًا ما تسبب التسرب من المدرسة، فالتسرب الدراسي يعني أن المدرسة رفضت الطالب، وأنه بدوره رفض المدرسة، على سبيل المثال، أظهرت نتائج إحدى الدراسات أن عينة المتسربين التي أجريت عليها تلك الدراسة كانت تعاني العزلة.

أما فيما تتعلق بالمنهج فإنه روح العملية التربوية، فهو ليس محصورًا في المواد الدراسية التي تدرس تقليديًا. بل هو كل الخبرات التي يكتسبها الطالب من خلال الأنشطة المتنوعة التي مارسها في المدرسة، وتعد بعض المناهج الدراسية مصدرًا من مصادر السلطوية، ومن مظاهرها أن عددًا منها مقتبس من المناهج الدراسية الغربية، بما في ذلك بعض المناهج الدراسية الجامعية، وكل ما جرى هو ترجمتها وفرضها بطريقة تعسفية على الطلاب العرب، كما أنها بشكل عام ترتكز على المعرفة بدلًا من الطالب؛ ولذلك فإن مشاركة الطلاب في القرارات التي تشترك في مناهجهم تكاد تكون معدومة، ونتيجة لذلك فإن معظم محتويات تلك المناهج غير ملائمة لواقع المتعلم وبيئته الاجتماعية، ولا يمكن أن تعده لمواجهه حياته المستقلة بشحذ مهاراته وتحدي قدراته، وكأنها جاءت تمثل عالمًا بعيدًا عن واقعنا فضلًا عن عدم ملائمة المناهج الدراسية لرعاية الموهوبين؛ مما أدى إلى فشل كثير من الموهوبين في تطور استعداداتهم؛ لأنها لا توفر لهم فرص الدراسة المستقلة ولا تحفز حبهم لاستطلاع وشغفهم للبحث وإجراء التجارب.

 

الإمكانات المادية والمعنوية في المؤسسات التربوية

1- الأسرة

إن احتياجات المبتكر وما يرغب فيه من أجهزة وتقنيات في دعم التفكير الابتكاري لديه وتسهل عملية التأكد من صحة أفكاره ترتبط بالجوانب الاقتصادية، والتي إذا لم تتوفر بالمقدار المناسب تؤدي إلى إعاقة الفكر الابتكاري، فقد يحتاج المبتكر إلى مقدار من الأموال لتنفيذ أفكاره، وكذلك مكان مناسب يتفق مع ما يريد ابتكاره كحاجة الطفل عند ابتكاره لجهاز جديد إلى بعض الأدوات.

والحرص على وجود مكتبة تحتوي على الكتب النافعة والقصص ذات الطابع الابتكاري أو ذات النهايات المفتوحة، وأيضًا ضرورة أن تحتوي المكتبة على دفاتر التلوين وجداول العمل ومجموعات اللواصق، كما أن على الأسرة أن تفسح المجال للطفل للتعبير عن مواهبه من خلال اللعب، فاللعب وسيلة هامة، ولهذا يجب الحرص على توفر الألعاب ذات الطابع الذهني أو الفكري مع إعطاء الطفل الموهوب الفرصة لاستخدام ألعابه الجديدة على تلطيف ودعم أواصر العلاقات داخل الأسرة، وللعب دور في تنمية الجانب العقلي والإدراكي لدى الطفل. لكن عدم توفر الأدوات والآلات والألعاب اللازمة يسبب شعور الطفل بالحرمان؛ ما يقضي على إبداعه وينهي طموحاته وأهداف.

وكما يحرم الطفل ماديًا كذلك يحرم معنويًا ،ويتجلى هذا الحرمان من خلال قيام الأسرة بوأد الأصالة الفكرية عنده، إذ منذ البداية تتجه التربية إلى تثبيط الطفل عن أن يفكر لنفسه بل تزقه الأفكار الجاهزة زقًا، إذ أن رؤوس الأطفال تكون فوارة بحب الاستطلاع عن العالم، لأنهم يريدون أن يكتشفوه ويملكوا ناصيته ماديًا وعقليًا، إنهم يريدون أن يعرفوا الحقيقة لأن ذلك هو السبيل الأكثر ضمانًا للوجود في عالم غريب وقوي يحيط بهم، وبدلًا من أن تلبي الأسرة نوازع الأطفال فإنها لا تزرع فيهم قيم الصدق والأمانة، وعندما يكبرون يكتشفون أن المدرسة علمتهم ما ينفيه العلم ويكذبه الواقع.

إن ما يُقدم للأطفال عبر أجهزة الإعلام والقنوات الثقافية التي تخاطب الطفل؛ تتركز على الطفل العادي، على أساس أن الطفل المبتكر ليس بحاجة إلى رعاية وأن لديه من المواهب التي تنمو بذاتها وبالكيفية التي تمكنه من التفوق دون صعوبة، وعدم النظر إليه كطفل له احتياجاته الخاصة، فضلًا عن ذلك أن ثقافة (المسايرة) التي تسود جو المدرسة والأسرة لها أثرها السيئ على الطفل المبتكر الذي يتمتع بالتفكير النافذ والخيال والإبداع.

كما أن الطفل في الأسرة كثيرًا ما يفتقد للفهم والتقدير والتشجيع وأساليب التربية تستثمر طاقاته وتدفعه إلى تحقيق ما يتمتع به من استعداد وموهبة، فضلًا عن ذلك فإن القصص من الأشياء الضرورية لكل طفل خاصة الموهوب منهم، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الأطفال الذين يستمعون إلى القصص من ذويهم منذ فترات مبكرة من حياتهم هم أنجح الأطفال في مدارسهم، وتشير تلك الدراسات أيضًا إلى أن قراءة الحكايات مع استخدام تعبيرات الوجه له تأثير إيجابي على قدرة الطفل على القراءة ودفعة لها.

يختار الموهوبون من التلاميذ أحيانًا مسارات من المدرسة أو أنواعًا من المهن غير مألوفة لدى الأسرة أو تتعارض مع رغبات الآباء أو يشعرون بأنها لا تتناسب مع مكانتهم الاجتماعية، مما يدفع بالآباء إلى الوقوف في وجه أبنائهم ومنعهم، مما يؤدي بهؤلاء إلى التراجع والتقهقر ومن ثم الإحباط والفشل. إن الآباء لم يدركوا أن المتعلم ليس متلقيًا وحسب، إنه مبدع منذ البداية، ولو تفحصنا تصوراته للعالم وتعبيراته عن الانفعال لوجدناها تعبيرات وتصورات مبدعة، إن هذه الأصالة الفطرية هي مفتاح النمو السوي للأطفال وهي تقتضي معاونة الطفل على الدخول في علاقة حميمة مع البشر والطبيعة.

2- المدرسة

هناك نقص بائن في المدارس وما هو متوفر لا يفي ولا يكفي الأعداد المتزايدة سنويًا من الطلبة وأمر كهذا يؤدي لا محالة إلى تكدس وتزاحم الطلبة في القاعة الدراسية الواحدة، لذا تم تقسيم دوام المدارس إلى وجبتين أو ثلاث وجبات، وقد أدى ذلك إلى ضعف مستوى التحصيل وشل حركة الإبداع والتفوق لدى الطلبة المتفوقين، فضلًا عن ذلك فإن التقنيات والمحاكاة الموجودة في المدارس غير كافية لتلبية حاجات الطلبة المتفوقين وغير المتفوقين، وعدم توفر مقرات وأماكن خاصة بكل نشاط بسبب عدم توفر المباني، وقلة البرامج المعدة مسبقًا من قبل إدارات التعليم والتي تهدف للكشف عن الطلاب الموهوبين وعدم إعطاء الطالب الحرية التامة في اختيار النشاط الذي يتوافق مع هواياته.

فضلًا عن ذلك فإن عدم وجود كوادر متخصصة أدى إلى قصور فهم المعلم للطلاب الموهوبين وحاجاتهم، ولذلك فإن تطوير البرامج الدراسية يحقق المتطلبات الأساسية لتنمية استعدادات الموهوبين، لكن ذلك لا يعد كافيًا ما لم يكن هناك معلم كفء للعمل مع هذه الفئات من الطلاب.

كما تعاني المدارس في الوقت الراهن من عدم توفر اختصاصيين نفسيين يقومون بتطبيق الاختبارات النفسية؛ كاختبارات الذكاء للتفكير الابتكاري واختبارات القدرات والاستعدادات الخاصة، وعدم قدرة المعلمين الرواد في الأنشطة المختلفة على التخطيط واكتشاف الطلاب الموهوبين وابتكار البرامج المناسبة، بسبب عدم إيمانهم وعدم مطالبتهم بذلك أو قلة خبرتهم أو جهلهم بالأهداف.

إن مهارات التفكير الابتكاري لا تكتمل إن لم تكن هناك حرية من القيود الخارجية، بمعنى أن أوضاعنا النفسية لا بد أن تكون حرة بحيث نستطيع أن نؤسس فرديتنا، ولكن هذا ليس هو الحال دائمًا، فهناك مواحق لعملية التأسيس تسلب التعلم حقه في اختيار أفكاره الخاصة وتقوده إلى التوافق القسري مع الواقع الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى جمود المجتمع ومنع تقدمه، وبموجب هذا النوع من التوافق يتحول الإنسان إلى كائن آلي يفقد روحه.

 

قيم الامتثال وقيم التفرد

الأخلاقيات التربوية الجديدة تنطلق من الإقرار بأن المجتمع العادل يجب أن يوفر لكل أطفاله فرصًا تعليمية متكافئة، ليس بإعطائهم كلهم الكمية نفسها من التعلم والعدد نفسه من السنين المدرسية، ولكن أيضًا بالتأكيد من أنهم ينالون النوعية نفسها من التعليم، ذلك إننا ما لم نبلغ بكل الأطفال حدًا أدنى مشتركًا من القدرة العقلية، فإننا سنكتب على أنفسنا المصير إلى حكم الدهماء الذي لا مكان في ظله للحياة العقلانية ولا لسيادة القانون، إننا سنظل قاصرين على بناء المجتمع المقنن.
تهيمن على الفرد في مؤسساتنا التربوية نوعان من القيم هما:

1- قيم الامتثال

لو قارنا بين المجتمع الحالي وما كان الناس عليه في القرون الماضية لرأينا فرقًا كبيرًا جدًا، فقد كان النظام الطبقي في العهد العثماني مثلًا شبه مغلق، فكان من العسير على الفرد أن يرتفع إلى طبقة اجتماعية أرفع من طبقة أبيه، وكان الطفل نادرًا ما يطمح إلى مهنة أو منزلة خارج النطاق الذي فرضه المجتمع عليه، ومما يجدر ذكره أن هذا الوضع عوّد الناس على القناعة وعلى الرضى بالنصيب، فكل ما يصيب الإنسان في حياته هو مكتوب على جبينه منذ ولادته، فلا فائدة إذن من الجد والطموح، ولكن بعد ظهور المدارس ودخول الناس فيها تغيرت طموحات الناس فجعلت كل واحد منهم يطمح أن يكون وزيرًا، أو زعيمًا، أو قائدًا، لكن رغم ذلك وبعد هذه السنين الطويلة ظل المجتمع ينظر في بعض الأحيان إلى المبتكرين نظرة نبذ وعدم تقدير لما يبتكرونه، وأن فكرهم الجديد يعد غير مقبولٍ، وأن ما يقوم به المبتكر من أعمال وإبداء لفكره يمكن أن يؤدي إلى خطورة على حياته، وهذا يؤدي إلى إحباط للمبتكر، وبذلك فإن المجتمع لا ينمي القدرة الابتكارية ولا يساعد الأفراد على تنمية الاستقلالية في التفكر.

لقد وجد العلماء أن أهم عامل في تكوين الشخصية هي الجماعة الأولية التي ينشأ فيها الطفل؛ لأول عهده بالحياة رغم وجود جزء كبير من الشخصية غامضًا (قوى خارقة مبدعة تتحدى نطاق الزمان والمكان، كما يقول تيرل في كتابه شخصية الإنسان)، وأعني بالجماعة الأولية تلك الجماعة التي تتألف من أفراد العائلة والجيران ورفقاء طفولته وأقران المدرسة، فهذه الجماعة في الغالب تصب شخصية الطفل في قالب يصعب عليها بعد ذلك أن تبدله أو تغييره، فالطفل إذ يفتح عينه للحياة يجد أنه قد أعطي منزلة عالية أو واطئة، من قبل أولئك الذين يحيطون به، وعلى هذا تبدأ شخصية الطفل بالنمو تراكمًا على النواة المركزية: نواة النفس الناشئة فالطفل الذي ينشئ في بيت ثراء وشهرة وقد وهب شيئًا من وسامة الوجه وحسن القامة، فتراه إذن محفوفًا بالاحترام بين أقرانه وأبناء جيرته، وشخصية هذا الطفل ستكون في الغالب متفائلة ليس فيها ما يدعوها إلى الكدح المتواصل، إن أي إنسان لا ينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له، ومن الظلم أن نطالب إنسانًا عاش بين البدائيين مثلًا أن ينتج لنا فلسفة معقدة.

2- قيم التفرد:

يعامل الإنسان في الأسرة كعضو وليس كفرد، فيتحمل مثالبها وفضائلها، ويتوقع الإنسان كعضو في الجماعة أن يتصرف من منطلق العضوية والامتثال دون تساؤل والتمسك بالتقاليد، ولأن الجماعة تقدم لأعضائها الدعم دون حدود، فهي تتوقع من كل منهم الولاء الكلي والانصياع لإرادتها أيضًا دون حدود واضحة، وإذا ما حاد عن الطريق المرسومة له لسبب ما؛ يتحول الحب إلى كره.

وللقيم الامتثالية المستمدة من الانتماء العضوي إلى الجماعة إيجابياتها، كما أن لها سلبياتها، من بين إيجابياتها التعاون والطمأنينة النفسية، فلا يعاني الإنسان العربي ما يعانيه الإنسان الغربي من الوحدة ومن سلبياتها؛ إن العلاقات الشخصية للفرد العربي تسود حتى في المؤسسات الرسمية ومنها مؤسسات الدولة حيث تتم الزيارات وتقدم الضيافات من قهوه أو شاي وتتم المجاملات أو النقاشات التي قد لا يكون لها علاقة بطبيعة الوظيفة، ومنها ما يتعرض له الفرد من ضغط اجتماعي لفرض الامتثال الصارم، فيفقد الكثير من حريته ورغبته بالتفرد والاستقلالية والاعتماد على الذات، ولكي نجسد قيم التفرد ضد قيم الامتثال والخضوع فلا بد من توليد فكر جديد عن التراث من خلال تغيير برامج التدريس في الثانويات وحتى الجامعات لكي تولد أجيالًا تفكر عن طريق العقل لا عن طريق النقل فقط، والاهتمام ببرامج التدريس الجديدة ليتعرف الطلاب على الجانب الإنساني والعقلاني المضيء من التراث العربي وأن يتعرفوا أنه قد وجد في التراث وفي مراحله الأولى مفكرون ينتجون أدبًا وعلمًا وفلسفة ويؤثرون حتى على أوروبا، فلا بد أن تشرح وتسهل قراءتها وتدخل في برامج التعليم منذ المرحلة الثانية.

فضلًا عن الأسباب الاجتماعية التي تحد من تفوق الفرد وتفرده؛ هناك الأسباب النفسية المرتبطة باللاشعور؛ فقد كشفت لنا الأبحاث النفسية الحديثة أن الإرادة قد تعرقل سبيل النجاح أحيانًا، وأن الذي يستعمل إرادته في كل الأمور قد يسيء إلى نفسه من حيث لا يدري، وفي الواقع الذي يريد أن يرقى إلى منزلة رفيعة وهو غير موهوب بالصفات التي تؤهله لها يؤذي نفسه اكثر مما ينفعها، إن الإرادة وحدها لا تكفي لنوال شيء؛ فالإنسان ليس كالطبيعة التي يمكن توجيهها في أية ناحية، إن لكل نوع من أنواع النجاح مؤهلات خاصة، وتلعب القوى النفسية الخارجية دورًا كبيرًا في تكوين هذه المؤهلات.

كما إن المبدع لا يكون مبدعًا إلا إذا تميز بخصائص العبقرية والإلهام والموهبة والأصالة، وهذه الخصائص التي لا يكتسبها الإنسان من طبيعته الذاتية فحسب مهما كان ذكاؤه وشهرته وشخصيته، بل يكتسبها من معطيات البيئة الاجتماعية وخبراته وتجارته السابقة وظروفه المادية وغير المادية، ومن الجدير بالذكر أن صفة الإبداع عند الإنسان إنما هي صفة نادرة ومتفردة، إذ لا يتسم بها إلا القلائل من الأفراد الموهوبين والأذكياء الذين تحيط بهم ظروف نفسية ومادية واجتماعية متميزة.

إن الفردية غير موجودة في ثقافتنا أو أنها تتهمش أمام الجماعة، فضلًا عن ذلك فإن البنية الاجتماعية لا تزال في أكثر المناطق الريفية قبلية، إن الفرد هو الذي يبدع الأعمال الفنية وهو الذي يتقبل أو يرفض العقائد السياسية وهو الذي يغامر بأمواله وجهوده وفكره في المشاريع التجارية والصناعية، وهو الذي يهجر مسقط رأسه ليرحل إلى بقاع العالم حيث يؤسس لنفسه وطنًا جديدًا عندما يعني الوطن الحرية والكرامة والأمن والفرص المتكافئة، وهو الذي يغير نفسه ويطورها بالعلم والثقافة تمهيدًا لتغير الوضع الاجتماعي الذي ينتسب إليه.

إن ذهاب المسلكيات الجماعية لا يعني غياب المسلكيات التعاونية، ففي المسلكيات الجماعية تمحى شخصية الفرد وتلغى ذاتيته المتميزة؛ وعَى ذلك أم لم يَعِه، في المسلكيات التعاونية يدخل الفرد مع الجماعة في عقد مراضاة يقدم إليها بقدر ما يأخذ منها، وقد يعطي أكثر ما يأخذ، ولكنه يعطي بغير إكراه، والفردية فلسفة أخلافية يرتضى بموجبها الفرد التضحية من أجل الآخرين في قضية أو موقف ذي مضمون أخلاقي، ولكي يكون الفرد قادرًا على هذا لا بد من أن يُعد لذلك ويربى عليه، وهذه مسؤولية أغفلتها مؤسساتنا التربوية، فضلًا عن ذلك فإن أهم ما يميز الفرد في مجتمعنا النَّفَس القصير؛ فهو ميال للإنجازات الفردية الصغيرة والتهرب من كل ما يتطلب بذل جهود طويلة المدى وشاقه، مع العلم بأن الإنجازات الكبيرة كانت دائمًا وستبقى أبدًا نتيجة العمل المتواصل.

إن الثقافة الحديثة فرضت على الطالب العربي التخلي مضطرًا عن لغته في بعض الأحيان بمجرد أن يصل إلى مرحلة الدراسات العليا أو حتى قبل ذلك، فلكي يتعمق في اختصاص ما لا بد له من اللجوء إلى الإنكليزية أو الفرنسية وهذه مشكلة بحد ذاتها لأن الكثير من طلبتنا ضعيف جدًا في هاتين اللغتين وأمر كهذا يقف في طريق إبداعه وتفرده.

 

ختامًا

تعد المعوقات الاجتماعية للموهوبين والمبدعين في مؤسساتنا التربوية من أكثر المعوقات تأثيرًا على الموهبة والإبداع ومن هذه المعوقات:

  1. يفتقد الفرد في الأسرة الحرمان المادي والتشجيع والتقدير.
  2. سيطرة الاتجاهات السلبية وأساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة القائمة على التسلط والتي تعرقل ابتكار الفرد.
  3. إن وجود النمطية واتباع التقاليد الماضية ووجود المناهج التعليمية المؤسسة على الاهتمام بالقدرات المتوسطة أو العادية لا تلائم الطفل المبدع، ويواجه الطفل المبدع قصورًا في فهم العلم له.
  4. لا زالت الأساليب التعليمية تتسم بالنمط التقليدي مع تطور هذه الأساليب في المجتمعات المتقدمة، فضلًا عن وجود التسلط التربوي في أغلب مدارسنا، إذ لا زال المعلم يتعامل مع الطالب تعاملًا قائمًا على القسوة والهيمنة.
  5. إن ثقافة التسلط التي تسود جو المدرسة والأسرة تنسحب على ما يقدم في وسائل الإعلام، وهذه الثقافة لها تأثير سلبي على الطفل المبدع.
  6. إن قيم الامتثال لا زالت فاعلة ومهيمنة في أغلب مؤسساتنا التربوية رغم التطورات الاجتماعية، وهذا ما جعل الفرد منسحبًا خاضعًا ليس له القدرة على الحوار أو النقاش لغياب التربية القائمة على التفرد والتميز.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم