الإنفاقُ تطهيرٌ للقلب، وتزكيةٌ للنفس، ومنفعةٌ وعونٌ للآخرين، وقبل ذلك وبعده قُرْبَى لرب العالمين.
ولقد سلك القرآن في تربية الشخصية المسلمة على الإنفاق منهجًا فريدًا يراعي فطرتهم؛ ليحثهم على بذل المحبوبات طواعية؛ لإرضاء الرب الكريم الحبيب إلى أوليائه.
من القواعد التي أقرها القرآن
أولًا: إقراره بأن حب المال فِطْرَة في النفس البشرية؛ تدفعه لفرط حبه للبخل به، ما لم يخالط الإيمان قلبه؛ فيُغَيِّر من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8].
ثانيًا: ترسيخ أن المالَ مالُ الله، والإنسانُ مستخلف فيه استخلافَ انتفاع.
قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فالأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مَوَّلكم إياها، وخَوَّلكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنوّاب؛ فأنفقوا منها في حقوق الله ([1]).
ولما أقروا بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم؛ شرع في حثهم على الإنفاق؛ وحدد لهم مصارف الإنفاق، فقال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم} [البقرة:215].
ولقد علم الله أن الإنسان يحب أفراد أسرته الأقربين: عياله ووالديه؛ فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم؛ ليعطيهم من ماله وهو راضٍ فَيُرْضي ميله الفطري.
ثم تَرَقَّى به درجة أخرى؛ ليعول ويكفل ناسًا هم أقرباؤه الأدنون، ليشيع بذلك الحب والسلام في أسرته الكبيرة.
ثم ترقى به لينفق على طوائف من المجتمع الإنساني، يثيرون بضعفهم عاطفة الرحمة، وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف، ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون، ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامةً وتجملًا، ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال، ولكنهم انقطعوا عنه، وحالت بينهم وبينه الحوائل.
ثم بعد ما حدد لهم مصارف الإنفاق؛ سألوا عن مقدار الإنفاق، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون} [البقرة:219]، العفو: الفضل والزيادة؛ فكل ما زاد على النفقة الشخصية- في غير ترف ولا مخيلة-؛ فهو محل للإنفاق، الأقرب فالأقرب، ثم الآخرون.
ولم يكلفهم سبحانه ما يشق عليهم، ويعنتهم من أخذ أموالهم، وبقائهم بلا مال، أو ينقصهم نقصًا يضرهم، قال تعالى: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم. إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُم} [محمد:36-37]، أي: ما في قلوبكم من الضغن، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.
هكذا راعى القرآن طبيعة النفوس، لكن وُجِدَ من الصحابة أهل العزائم والبصائر- وكلهم كذلك- من أنفق حبًا وطواعية لله؛ كل ماله كأبي بكر الصديق، ونصف ماله كعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، والذي جهَّرَ جيش العسرة مثل عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم رضي الله عنهم كثير.
ثم ترقى بهم للإنفاق في سبيل الله ووعدهم بالمضاعفة؛ فقال تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [البقرة:245]، فوعدهم وعد الصدق أن المال لا يذهب بالإنفاق؛ إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده، يضاعفه أضعافًا كثيرة، يضاعفه في الدنيا مالًا وبركة وسعادة وراحة، ويضاعفه في الآخرة نعيمًا ومتاعًا، ورضًى وقربى من الله، ومَرَدُّ الأمر في الغنى والفقر إلى الله، لا إلى حرص وبخل، ولا إلى بذل وإنفاق: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ}.
ثم خاطبهم بالصفة الحبيبة إلى نفوسهم، والتي تربطهم بمن يدعوهم، والذي هم به مؤمنون: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون} [البقرة:254]، وهي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه: {أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم}، وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم؛ فلن تعود: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}، فهي الفرصة التي ليس بعدها- لو فوّتوها على أنفسهم- بيعٌ تربح فيه الأموال وتنمو، وليس بعده صداقة أو شفاعة؛ تَرُد عنهم عاقبة النكول والتقصير.
ثم أشار إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله؛ فهو الإنفاق للجهاد؛ لدفع الكفر، ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون}، ظلموا الحق فأنكروه، وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك، وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان، ومَوَّهوا عليهم الطريق، وحرموهم الخير الذي لا خير مثله، خير السلم والرحمة والطمأنينة والصلاح واليقين.
والإنفاق في سبيل الله هو صَنْوُ الجهاد الذي فرضه الله على الأمة، وهو يكلفها النهوض بأمانة الدعوة إليه، وحماية المؤمنين به، ودفع الشر والفساد والطغيان.
وبعد هذا التدرج في الارتقاء في الإنفاق؛ يعرض القرآن صورة المنفق في سبيل الله كمثل زرع يُعْطي أضعاف ما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره، قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [البقرة:261]، يعرض القرآن صورة العود الذي يحمل سبع سنابل، والسنبلة التي تحوي مائة حبة؛ ليحث القلب البشري ويستجيش مشاعره وعواطفه لدفع صاحبه للبذل والعطاء، متأثرًا بالحبة التي أنبتت سبع سنابل في مشهد طبيعي في بيئة زراعية خضراء تسر الناظرين.
«إن منهج التربية على الإنفاق لا يبدأ بالفرض والتكليف؛ إنما يبدأ بالحض والتأليف».
رمضان شهر الجود بالإنفاق:
فشهر رمضان ميدان للتسابق العملي في الجود بالإنفاق:
- الجود على أهالي الشهداء الذين بذلوا مُهَج حياتهم؛ لإعلاء كلمة الحق.
- الجود على الجرحى والمصابين في ميدان التدافع بين الحق والباطل.
- الجود على أهل الحق الذين سجنهم أهل الباطل بغيًا وعتوًا.
- الجود على المهاجرين في سبيل الله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، فإخراجهم من ديارهم لأجل إيمانهم بالله ظُلم بواح، واستخدامٌ للقوة في غير موضعها.
- الجود على المجاهدين في سبيل الله؛ انتصارًا لدينه، وتحريرًا لأوطانهم من الأعداء المجرمين.
- الجود على اليتامى والفقراء والمساكين، الذين أعوزتهم الحاجة، وآلامهم انشغال إخوانهم الأغنياء من المسلمين عنهم بدنياهم.
ألا يستحق هؤلاء «تعجيل الزكاة» نصرة لهم، وخلفًا لهم في أهليهم؟
قال ابن تيمية – رحمه الله: «وأما تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب؛ فيجوز عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، فيجوز تعجيل زكاة الماشية والنقدين وعروض التجارة إذا ملك النصاب» ([2]).
وقال اللجنة الدائمة للإفتاء: «لا بأس بإخراج الزكاة قبل حلول الحول بسنَة، أو سنتين؛ إذا اقتضت المصلحة ذلك» ([3]).
فهلا اقتدى المربون الكرام بالرب الكريم المربي لأوليائه في التربية على الإنفاق؛ لينالوا أجر التعبد باسم الله «الرب» U، وأجر تربية طلابهم على الإنفاق، بعد قيامهم هم كقدوة بالإنفاق؛ فيُحَصِّلوا بذلك أجورًا عظيمة؛ ترفع من شأنهم وذِكْرِهم في الدنيا والآخرة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
المصادر:
[1] تفسير الكشاف :4/ 473.
[2] مجموع الفتاوى: 25/ 86.
[3] فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية: (9 / 422).
شاهد أيضًا في نفس السلسة:
.