Business

د. صلاح عبد الحق يكتب: الإسلام وتحرير العقل والفكر

ليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية. ومن كرامة الإنسان على ربه أن خَيَّره ولم يُكرهه، ويقولون إن الذي يرفع هذا الشعار، يمتاز بالأدب والخلق الرفيع؛ لأنه يَعرف للآخر حقه في الاختيار ويحمي له حقة في الاختلاف: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: 6)، لأن الدنيا لم تُخلَق لنا وحدنا ولن تصلح بنا وحدنا.

ولما أجمع رسول الله ﷺ السير إلى هوازن ذُكِر له أن عند صفوان بن أمية أدرعا له وسلاحًا، فأرسل إليه- وصفوان يومئذ مشرك- فقال: «يا أبا أمية! أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدًا، فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟!، قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح».

والإمام البنا رحمه الله كان كثيرًا ما يقول: «إننا نبغى صلاح العالم، ونناشد أحرار العالم أن يساعدونا. إن لنا مطلبين اثنين: الحرية والوحدة، ومطلب ثالث أن يفسح لنا مكان في هذا العالم لنساهم في بنائه على العدالة والإنصاف».

ولأن العقل هو مناط التكليف، فقد أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان ألا يعطله مرضاة لمخلوق أو خوفًا منه، وإن كان هذا المخلوق جمهرة من الخلق على تعاقب الأجيال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22).

والذين تكلموا عن الموانع والأعذار التي يتعلل بها من يعطل عقله، جمعوها في ثلاثة أسباب؛ أولها: العُرف والعادة أو الآبائية والتقليد، وثانيها: التقليد الأعمى لرجال الدين، وثالثها: الخوف المهين من السادات والكبراء.

والقرآن الكريم خص الآبائية والتقليد فحمل عليها حملة شديدة، فقوض دعائمها ونسف أركانها وهدم بنيانها، لأن العرف والعادة تختلف عن بقية الأسباب، فما يستهوي الضمير ٍمن داخله ليس كمن يتسلط عليه من خارجه إيثارًا للضلال ومحبةً للمضلين، ولأن من السهل اليسير على الجمهور الأعظم أن يفرق بين سيرة الرُّشْد والهداية، وسيرة الغواية والضلال.

وأعلن القرآن الكريم أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان، وأن الأخذ بالأقوال يكون من غير فرق بين القائلين: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18)، والمجتمع الذي نشأت فيه دعوة الإسلام كان قائمًا على الآبائية والتقليد، ولم يكن فيه رجال دين بالمعنى المعروف، ولم تكن فيه السلطة أو الحكومة كما كانت في الحضارات الأخرى.

وشاهدنا في ذلك ما رُويَ في سيرة ابن هشام، قال: «لما نادى رسول الله ﷺ قومه بالإسلام، لم ينكروا عليه ولم يبعدوا عنه حتى عادى آلهتهم وسَفَّه أحلامهم وضلَّل من مضى من آبائهم، فأكثروا ذكره وخاضوا فيه، ومشى ذوو الأسنان والشرف منهم إلى عمه أبي طالب يطالبونه بأن يضع حدًّا لفضيحة ابن أخيه؛ فدعا أبو طالب النبي ﷺ، وهو يقول له: أعمامك يطالبونني بكذا، فقال قولته المشهورة: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه».

ومشهد أليم آخر، يدل على الآبائية والتقليد، حين جلس النبي ﷺ أمام عمه أبى طالب وهو يجود بأنفاسه الأخيرة، ويريد أن يستنقذ نفسًا طالما حجبت عنه أذى الناس، فيكون رد عمه أبي طالب: «والله يا ابن أخي لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدك، لأقررت بها عينيك»، ثم مات على دين آبائه في حضور أشراف قومه.

لأن الإرادة العازمة النبيلة إنما تنشأ من أمرين: من تزاوج المُثُل العليا مع العقلية المحررة من الآبائية والتقليد، وهذه الإرادة تعني الرغبة والاختيار.

وعندما ننظر إلى الجانب الآخر من الصورة، نجد أنه ليس هناك كتاب آخر غير القرآن الكريم، دعا إلى إعمال العقل وتحرير الفكر والنظر، وفى نفس الوقت يدعوا إلى توقير الآباء واحترامهم، ودعا إلى توقير أهل الذكر والرجوع إليهم، كما دعا إلى احترام الحكام والاستماع إليهم.

وهذا الأمر يخاطب العقلاء، لا العجماوات البكماء ولا الآلات الصماء، فهي دعوة إلى إعمال العقل والفكر وإمعان النظر والروية.  والمقارنة بين طاعتهم والبر بهم ليس كالضلال معهم: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15).

ورغم تأكيد القرآن الكريم على الرجوع إلى أهل الذكر فيما لا نعلم، إلا أنه منع التقليد الأعمى لهم، وقال إن هؤلاء الذين لا ينتفعون بذكرهم فلا حاجة بالرجوع إليهم، وهو أمر يحتاج إلى نوع من الموازنة ومن الغوص في المعاني وعدم الوقوف أمام سطحية الفكر.

وكذلك احترام الولاة وتقديم النصح لهم، وعلى الجانب الآخر لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف، وسَرِيَّةُ عبد الله ابن حذافة السهمي حين أوقد لأصحابه نارًا وأمرهم بالدخول فيها، فترددوا وامتنعوا، وعندما رجعوا إلى النبي ﷺ شكوه إليه، فقال النبي ﷺ: «لو دخلوها؛ ما خرجوا منها»، ويعلق ابن القيم على هذا بقوله: «لأنهم بادروا بغير اجتهاد فلن يُعذَروا».

وهذا يدل على أنه لا يوجد في مبادئنا معنى الطاعة العمياء، إنما هى الطاعة المبصرة بعد اجتهاد وروية؛ لذا دعا الإمام البنا- رحمه الله- إلى الابتعاد عن سطحية الفكر والأعمال، وإلى الغوص في المعاني والوقوف على ما يُراد منها وما يقصد بها.

وفهم القضايا وتحرير ما يحاط بها من لبس واستقراء مقاصدها من خلال الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح من الأمور الهامة، فعندما تناول الإمام البنا قضية القوة قال: «وأما القوة فشعار الإسلام»، {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60)، ثم تكلم بعد ذلك عن درجات القوة: فقوة الإيمان والعقيدة، ثم قوة الوحدة والترابط، ثم قوة العقيدة والسلاح، ثم عَقَّب بقوله: «ومن تخطى حدود ذلك، فمصيره الحرمان».

ثم يقول: «وهل أَمَر الإسلام- والقوةُ شعارُه- باستخدامها في كل الحوادث وليكن بعد ذلك ما يكون! أم حَدَّد لذلك حدودًا وشرط شروطًا، ووجَّه القوة توجيهًا محدودًا، ثم هل جعلها أول الدواء أم آخر العلاج الكي؛ وهل دعا إلى استخدامها في كل الظروف والأحوال أم وازن بين نتائجها النافعة والضارة؟».

ورغم أن هذا موضوع شائك، أُلِّفت فيه مجلدات ضخمة، إلا أن البنا- رحمه الله- حلَّه في سهولة ويسر، من خلال استقرائه لكتاب الله تعالى وسنة النبي ﷺ، وتحرير الفكرة وتحديد الغاية، فخرج بذلك من مأزق حرج تورط فيه كثيرون غيره، فكان فكر البنا رحمه الله فكرًا عظيمًا فيه ما تطمح إليه الأمة من خير، وما ترنوا إليه من كمال في سهولة ويسر.

 

شاهد أيضًا ضمن السلسلة:

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم