ليس خافٍ على أحد أن البشرية تواجه في الظرفية الحالية أزمة حضارية عميقة متعددة الأوجه والأبعاد، وليس خافٍ أيضًا أننا نشهد، في الآونة الأخيرة، العديد من المؤشرات التي توحي بأن هناك ما يشبه الصحوة الأخلاقية. ومن بين تلك المؤشرات الدعوات المتكررة من قبل الأشخاص والمنظمات والهيئات الحكومية وغير الحكومية إلى التخليق وإعادة الاعتبار للقيم. المثير للانتباه، بل الاستغراب، أن هذه الدعوات تتصدرها جهات كانت إلى عهد قريب تعتبر الأخلاق عزاء للضعفاء أو أداة في أيدي الطغاة والمستغلين لتبرير ظلمهم واستغلالهم.
إننا نميل إلى الاعتقاد بأن تلك الدعوات تعبير جماعي (عالمي) عن الشعور بالأزمة الناجمة عما أصبح يُعرف بانهيار القيم، وتعبير عن رغبة جماعية في التصدي لهذه الأزمة ولمخلفاتها على حياة الأفراد والمجتمعات. وفي هذا الإطار يندرج ما نشهده من محاولات تروم تخليق الأفراد وتخليق المجتمعات والنظم والمؤسسات المكونة لها، وتجنيد المؤسسات المكلفة بالتنشئة الاجتماعية وضمنها وسائط وقنوات الإعلام ومؤسسات التربية والتعليم للنهوض بتلك المهمة.
من هذا المنطلق، أعد الدكتور مولاي هاشم هاشمي علوي، أستاذ باحث بالمركز التربوي الجهوي/مراكش، دراسة بعنوان: «التربية على القيم في المنظومة الإسلامية: المقاصد والآليات»، عن كيف ينبغي لنا نحن المسلمين أن نتعامل مع أزمة القيم تفسيرًا ومعالجة؟ وكيف يمكن لنا أن تتعامل مع الجهات التي تدعو إلى إعادة الاعتبار للقيم؟ وكيف ينبغي لنا أن ننخرط ونسهم في التربية على القيم؟
لا تربية على القيم بدون مربٍّ
فعل التربية فعل يقوم به طرف على طرف أو لفائدة طرف. وهنا لا بأس من التساؤل عن إمكانية التربية الذاتية: هل بإمكان الإنسان أن يقوم بتربية نفسه بنفسه؟ مما يبرر هذا التساؤل أننا عندما نفكر في الطرف المقصود بفعل التربية غالبًا ما ينصرف الذهن إلى النشء، إلى الصغار، لكن الأمر في الحقيقة غير ذلك، خصوصًا عندما يتعلق بالتربية على القيم التي يحتاج إليها كل الناس مهما بلغوا من العمر والجاه والغنى والسلطان، والتي قد لا يفيد فيها العلم ولا تكفي فيها المجاهدات الشخصية. لذا نرى أن التربية الذاتية ضرب من المحال لا مناص من التسليم بأنه لا قيم بدون تربية ولا تربية على القيم بدون مربٍّ.
لا تربية على القيم بدون مقاصد واضحة
وهنا لا بد من فتح قوس لنطرح سؤالًا مُشكِلًا: هل القيم غايات تُطْلَب لذاتها، أم هي وسيلة لتحقيق غايات أسمى؟ ليس من السهل الحسم في هذه المسألة ومع ذلك نرى من الضروري أن نراعي عند تعاملنا معها البعد الوظيفي للقيم الذي يبدو واضحًا إذا أخذنا بعين الاعتبار علاقة القيم بمشروع الحياة، بالنسبة للفرد وعلاقتها بالمشروع المجتمعي بالنسبة للجماعة.
من هذا المنطلق نتناول مقاصد التربية على القيم ونقول إن التربية فعل هادف، وكما هو واضح في العبارتين: «توجيه الفرد نحو... وإخراج الفرد من...» فالتربية تقوم أساسًا على ثنائية الإيجاب والسلب (التوجيه والإخراج).
ومن هنا ينبغي أن نقرر أن التربية على القيم تتطلب تحديد المقاصد الإيجابية والكمالات التي ينبغي أن يوجه نحوها النشء، وكذلك تحديد الحالات والأوضاع السلبية التي ينبغي أن يخرج منها. وغني عن البيان أن ثنائية الإيجاب والسلب (ثنائية التوجيه والإخراج) تحيل على ثنائية أخرى تتعلق بطبيعة الإنسان: ثنائية الفطرة الطيبة (قابلية الترقي والاستعداد لفعل الخير والتحقق بالكمالات) في مقابل الخصائص والصفات غير الطيبة؛ كالغرائز وغيرها التي قد توقعه في الشر وتمنعه من التحقق بالكمالات.
قيمنا الإسلامية والعولمة
الأمر الذي يهمنا في العولمة هو اقترانها بالحداثة، فالملاحظ أن الدعوة إلى التخليق لا تكاد تنفك عن الدعوة إلى الحداثة، وما يؤكد ذلك كون التيار الحداثي هو الأقوى والأكثر تأثيرًا في مجال التربية على القيم.
- فما هي منطلقات ومقاصد هذا التيار ما هي آثارها على الدعوة إلى التخليق وعلى التربية على القيم؟ وما مدى انسجامها مع منطلقاتنا ومرجعياتنا الإسلامية؟
أهم ما يهمنا من خلفيات الاتجاه الحداثي ومن موقفه من مسألة الأخلاق والتربية على القيم تحديدًا، أولًا: على مستوى المقاصد سعيه إلى تأسيس منظومة قيم إنسانية شمولية كونية تسمو على منظومات القيم المرتبطة بالمرجعيات الثقافية والدينية المحلية؛ وهو في هذا يلتقي مع دعاة العولمة الذين يسعون إلى تكريس سمو القوانين والمواثيق الدولية على القوانين والأعراف المحلية.
هذه القيم الكونية، من المنظور الحداثي، هي القادرة على توحيد البشر. قد يجد هذا الموقف الداعي إلى تجاوز كل الأطر المرجعية الثقافية الخاصة تبريره عمومًا وعند دعاة العولمة وعند الحداثيين فيما قد يتسبب فيه التعصب للهويات والخصوصيات، ومن بينها الخصوصيات الدينية، من صراع وتدافع عنيف بين البشر.
لكن ما لا ينبغي تناسيه هو أن التجربة أبانت أن تطويق الهويات والخصوصيات الثقافية في المجتمعات الغربية على الخصوص كانت له تداعيات خطرة على اندماج الأقليات من المهاجرين على الخصوص، وتبعًا لذلك على انضباطهم بقيم وقوانين بلاد المهجر. ولا يستبعد أن تتفاقم مشاكل اندماج هذه الأقليات في ظل العولمة، فالنظام العالمي الجديد يخضع لمنطق القطب الوحيد وهو منطق الغلبة للأقوى.
مما يترتب عن هذا الموقف وهذا هو الأهم بالنسبة لنا نحن المسلمين، هو إدخال الدين في دائرة الخصوصيات الثقافية وفي دائرة الأمور الشخصية. يترتب عن ذلك أنه لا ينبغي اعتباره في المشاريع الحضارية الكونية بالنظر للاعتبار الأول ولا ينبغي اعتباره في المشاريع المجتمعية المحلية بالنظر للاعتبار الثاني. وهنا نجد الدين قد غيُبِّ عن مجال التربية، وإذا استُحضِر أُطِّرَ بإطارِ قيمِ الحداثة.
وهنا ننتهي إلى أن الدعوة إلى التخليق في ظل العولمة هي دعوة إلى عولمة منظومة قيم بعينها هي قيم الحداثية. وتحديث القيم (الذي ينبني على تغييب المرجعيات القيمية الخاصة وضمنها مرجعية القيم الدينية) يفضي إلى علمنتها وعلمنة التربية عليها. ومن المنتظر منطقيًا من علمنة القيم ألا تقف عند حد فصلها عن الدين، بل إنها ستتجاوز ذلك إلى الدعوة لإخضاع منظومات القيم المستمدة من الدين لمنطق الحداثة ومقتضياتها. فالحداثة تتحول إلى فلسفة عامة توجه تصورات الإنسان لذاته ولمحيطه الطبيعي والإنساني الاجتماعي وتحدد مبادئ وقواعد سلوكه... إنها تتحول إلى دين، بل إنها تطمح لأن تصبح دينًا كونيًا، ويبرر مسعاه هذا بكونه يقوم على أسس كونية، العلم والعقل والقانون الدولي.
وهنا نتساءل عن جدوى محاولة الجمع بين الحداثة والإسلام.
مما لا شك فيه، أن معظم القيم الأساس في المنظومة الحداثية، خصوصًا ما يتعلق منها بالحرية الفردية، تتعارض في منطلقاتها ومرجعياتها الفلسفية وفي آليات تفعيلها القانونية والتربوية مع منظومة القيم الإسلامية، التي تتمحور حول صلة الإنسان بخالقه. لذلك نرى أن محاولة الجمع بينهما هي من قبيل محاولة تربيع الدائرة أو تدوير المربع، إنه لن يتم إلا باحتواء أحدها للآخر. فهل سيضطر المسلمون في ظل هذا الوضع العالمي للتخلي عن حلم إقامة حداثة إسلامية/أسلمة الحداثة وقيمها، والقبول بعلمنة وتحديث الإسلام وقيمه؟ هذا الوضع وما يحمله من تناقضات ومفارقات يتطلب منا أن نتبين موقع الإسلام والمسلمين في ظل هذا الوضع العالمي الجديد.
الأمر الآخر الذي يهمنا في العولمة يتعلق بوضع الإسلام والمسلمين:
- ينبغي أولًا أن نستحضر مختلف الأبعاد الدلالية للإسلام، فهو يشير أولًا إلى مجموعة من الدول والأنظمة السياسية، ويشير ثانيًا إلى مجموعات بشرية (مجتمعات أغلبيات أو أقليات)، ويشير ثالثًا، وهذا الذي يهمنا بالدرجة الأولى في هذا السياق، إلى دين وحضارة متميزين لهما تأثيرهما ليس فقط على حياة المنتمين إليهما، ولكن أيضا على حياة البشرية بشكل عام على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
- وينبغي ثانيًا أن نتبين دلالة الاهتمام المتزايد بالإسلام على الصعيد العالمي وتعدد وتباين المواقف منه (والتي تتراوح بين الإقبال وإعلان العداء مرورًا بالاهتمام البريء) ونحاول أن نفهم دون أن نستغرب ذلك الخوف الساذج، بل المَرَضِيّ من الإسلام الذي أصبح يعرف بــــ«الإسلاموفوبيا».
- لا بد أن ندرك أن الإسلام أصبح طرفًا في التدافع الحضاري وأنه لكي يكون طرفًا يأخذ بعين الاعتبار في المجالات المختلفة، وضمنها مجال إقرار منظومات القيم واعتمادها في تخليق، الأفراد والمجتمعات، لا بد أن يكون أيضًا طرفًا في التدافع الحضاري الذي يسيطر على العالم في المجالات المختلفة ومنها مجال القيم والأخلاق.
- كما ينبغي أن ندرك أن وضع الإسلام في العالم في الظرفية الحالية ودوره في التدافع الحضاري له تأثيره على الجبهة الداخلية على مواقف المسلمين بعضهم من بعض وله امتداداته في حياتهم وفي تعاملهم مع دينهم بشكل عام ومع منظومتهم القيمية بشكل خاص.
- وينبغي تبعًا لما سبق أن نعترف بأن الأمة الإسلامية معنية بمشكلة الأخلاق، لأنها كغيرها من الأمم والشعوب في حاجة إلى تخليق، ولأن نصيبها من الأزمة الأخلاقية لا يمكن تفسيره بالأسباب والعوامل الخارجية، بل لا بد من مراعاة دور العوامل الداخلية المرتبطة بحياة المسلمين أنفسهم.
- وينبغي أخيرًا أن ندرك أن انخراط المسلمين في السياق العالمي وممارسة ما يفرضه من تعاون وتدافع، تتطلب تقوية الجبهة الداخلية وذلك باحتواء الأمة الإسلامية لكل مكوناتها مهما تعددوا واختلفوا.
قضية أخرى مهمة سنحاول من خلال عرضها وتحليلها أن نقترب أكثر من السؤال الذي طرحناه سابقا: كيف ينبغي لنا نحن المسلمين أن نتعامل مع أزمة القيم تفسيرًا ومعالجة ؟ كيف يمكن لنا أن تتعامل مع الجهات التي تدعو إلى إعادة الاعتبار للقيم؟ كيف ينبغي لنا أن ننخرط ونسهم في التربية على القيم؟
جوابًا عن هذا السؤال نقول: إن أفضل ما يمكن أن تسهم به الأمة الإسلامية في سيرورة التخليق في الوقت الراهن، لمواجهة أزمة القيم، نموذجٌ أخلاقي حي (يجسده الحال قبل المقال وبعده) نموذج يستند إلى منظومة قيمية متكاملة وقوية بمقوماتها النظرية وبنظمها وبآلياتها التربوية العملية تحافظ على الثوابت الثقافية للأمة وتراعي متغيرات الزمان وخصوصيات الظرفية التاريخية الحالية.
لكن كيف نتصور هذا النموذج نظريًا؟ وما هي متطلبات تحقيقه على أرض الواقع في الظرفية الحالية؟
الجواب الذي نقترحه لهذا السؤال هو مفاد القضية: بناء نموذج أخلاقي إسلامي في الظرفية الحالية يتطلب تفعيل المنظومة الإسلامية كما سنحدد المقصود منها فيما بعد: وذلك لا يمكن إلا بتوفر الشروط التالية:
الشرط الأول: مراعاة خصائص المنظومة الإسلامية
إننا أمة لها تاريخ، ولها منظومة حضارية عظيمة أنتجت تراثًا غنيًا، ومن غير المعقول ألا نستفيد مما أنتجه أسلافنا، فالشجرة تحيا باتصالها بتربتها عبر جذورها وتموت بانفصالها عنها.
ما أود قوله: أن من بين أهم أسباب عظمة الأمم عظمة رجالها، ومن أهم هؤلاء الرجال العلماء، وهذا الأمر يصدق على الخصوص على الأمة الإسلامية، فقد أظمأ الله قلوب علمائها لمعرفة دينهم وأنار عقولهم وأنهض هممهم لتحقيق هذا المطلب فهبوا لخدمة الدين، فأسسوا العلوم المختلفة، وحددوا لكل منها مجاله، ووضعوا له أدواته المفاهيمية والمنهجية، وقعدوا له القواعد والضوابط... فأصبح للإسلام منظومة علمية شاملة ومتكاملة ومتينة هي بحق من أهم مقومات الحضارة الإسلامية.
ثم وحرصًا منهم على الاستفادة من العلم حرصوا على تأسس المؤسسات والنظم لإشاعة العلم ونشره في الأوساط المختلفة، وحددوا لكل فئة عمرية واجتماعية ما يناسبها. ووعيًا منهم بأن تحصيل العلم لا يؤدي حتمًا إلى العمل به، فقد قننوا القوانين وقعدوا القواعد وأسسوا المؤسسات حتى يكون المسلم أقدر على الانسجام مع تعاليم الدين السمحة والتحقق بقيمه الفضلى ومثله العليا. فأصبح للإسلام منظومة ثقافية شاملة ومتكاملة في مكوناتها ومجالاتها وأبعادها.
تتمثل هذه المنظومة الإسلامية حسب تصورنا لها في سياق الموضوع الذي نحن بصدده في:
- القرآن الكريم والسنة النبوية.
- سيرة السلف الصالح.
- اجتهادات العلماء المسلمين في المجالات المختلفة، تأسيسًا أو تطويرًا.
- ومختلف النظم والمؤسسات التي أبدعها المسلمون لتنظيم حياتهم داخل دائرة دينهم.
مما لا شك فيه أن عطاء هذه المنظومة عبر التاريخ كان يفور ويغور، لأنها كانت تتأثر بما يعتري حياة البشر من عوارض وما تتسم به من تدافع وتعاونن، لكنها ولله الحمد كانت وما تزال تحافظ على أهم مقوماتها:
- القدرة على الحفاظ على الوجود والتميز بفضل العناية الإلهية وفضل الغيورين على الدين وعلى مصالح الأمة.
- القدرة على التجدد: الصحوة الإسلامية... بفضل تجدد الشعور بالانتماء للأمة الإسلامية عبر مختلف دعوات التجديد والاجتهاد، وبفضل الانفتاح على تجارب المجتمعات الإسلامية المتنوعة وعلى تجارب المجتمعات غير الإسلامية، وعبر الحضور المتميز لفئات عريضة من المسلمين في تلك المجتمعات والاستفادة من المستجدات العلمية والتقنية.
- والقدرة على الضبط الذاتي التي تضمن مقاومة الانحراف والشطط ومقاومة التآكل/التحلل الداخلي ومقاومة الهجوم والتشويش الخارجي.
- تضافر جهود العلماء في المجالات المختلفة في بناء هذه المنظومة، واشتغال كل فريق منهم بترصيص الركن الذي يعنيه ويدخل في دائرة اختصاصه (رغم أن تكوينهم العلمي كان في الغالب موسوعيًا).
صحيح أن اشتغالهم لم يَخْل من التنافس ومن التدافع، ولم يخل من الاختلاف ولكن كل ذلك لم يزد البناء إلا قوة ورسوخًا. ومما أعانهم على ذلك وجعل تدافعهم ينفع ولا يضر- التزامهم بضوابط منهجية وبقواعد أخلاقية تضبط أعمالهم وتقنن علاقاتهم: أقروا بأن لكل علم رجاله وبأن لكل ميدان أهله، فاعترف كل فريق لغيره بأهليته في مجال اختصاصه وبمسؤوليته عن مراقبة ما يجري في دائرة اختصاصه. فوضع كل فريق آليات الضبط والمراقبة والتعزير؛ تفاديَا للفوضى وما ينجم عنها من إضرارٍ بمصالح العباد وعلى رأسها حفظ الدين.
لم تكن ميادين العلم معزولة بعضها عن بعض، لأن أهلها فتحوا قنوات التواصل والحوار فيما بينهم.
وفي المجال الذي نحن بصدده، مجال القيم والتربية على القيم، فإن من تَعَرَّف على المنظومة الإسلامية في شموليتها وتكاملها يدرك، أن المسلمين أنتجوا من المعارف النظرية ووضعوا من المناهج والآليات وأسسوا من النظم والمؤسسات ما يكفي لبناء منظومة تعليمية وتربوية متكاملة قادرة على تأهيل المسلمين، فرادى وجماعات، لاتباع تعاليم الدين والسير بصدق وثبات نحو تحقيق مقاصده السامية والتخلق بأخلاقه الفضلى والتحقق بقيمه العليا، وبذلك يكونون أقدر من غيرهم على الصلاح والإصلاح.
إنها منظومة متكاملة: عقيدة وشريعة وأخلاقًا، هذه المنظومة يرتبط تفعيلها في تأسيس نموذج أخلاقي باعتماد المنظور الشمولي تبعًا لشمولية الإسلام.
ومراعاة خصوصيات هذه المنظومة هي مراعاة لخصوصيات الإسلام ذاته:
فمن بين أهم محددات ماهية الإسلام التي بها يتميز بها شموليته، والشمولية هنا تعني أمرين: أولهما، كون الإسلام موجهًا للناس كافة، بل للثقلين، وثانيهما، كونه نظام حياة يشمل حياة المسلمين في كل مراحلها وفي جميع جوانبها وأبعادها. هذا أمر معروف.
ما نود إضافته هو أن تحقيق ماهية الإسلام يتوقف على تكامل مقوماته الثلاثة: العقيدة والشريعة والأخلاق. هذا التكامل يتوقف بدوره على تكامل أركانه ومقاماته الثلاثة المنصوص عليها صراحة في حديث جبريل- عليه السلام-: الإسلام والإيمان والإحسان.
فلكي يكون الإسلام فعلًا دينًا شاملًا صالحًا للعالمين، ويكون لهم بمثابة نظام حياة، لا بد أن يكون دين أخلاق.
وعندما نقول عن الإسلام إنه دين أخلاق لا نقصد بذلك فقط عنايته بالأخلاق، بل نقصد قبل ذلك أن له منظومة أخلاقية متميزة. هذا يقودنا إلى الحديث عن مميزات المنظومة الأخلاقية الإسلامية.
الشرط الثاني: مراعاة مميزات المنظومة الأخلاقية الإسلامية
لعل أهم هذه المميزات:
- كونها أولًا مؤسسة على عقيدة التوحيد.
- كونها ثانيًا مؤطرة بقواعد وأحكام الشريعة.
- وكونها ثالثًا، ولعل هذا هو الأهم، إجرائية ومعيشة ولذلك لم تبق على حالها (مُثُلًا عليا ومبادئ مجردة)، بل إنها تحولت إلى واقع مُعَاش يلمسه كل من تعرف إلى السيرة النبوية وسيرة السلف الصالح، وتحولت من جهة ثانية إلى إجراءات عملية يدركها كل من تعرف إلى مناهج وتقنيات التربية والتخليق عند المسلمين في تنوعها وتكاملها: بدءًا بمناهج التعليم والتلقين والتهذيب والتأديب، مرورًا بوسائل الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتهاءً بأشكال المجاهدات ومناهج التربية الروحية.
ومما لا شك فيه أن فعاليتها جاءت بالدرجة الأولى من التناسق الكبير بين سندها النظري وبين عدتها العملية، وتبعًا لذلك من الترابط الوثيق بين مقاصدها المستمدة من مقاصد الدين في معناه الشمولي وبين آلياتها ووسائلها المتعددة والمتكاملة المستمدة من مختلف مكونات الدين ومرجعياته: القرآن، والحديث، والسيرة، وسيرة السلف الصالح والتي أثبتت جدواها عبر القرون. من هذا المنطلق نرى أن تفعيل منظومة القيم الإسلامية وتوظيفها في بناء نموذج تربوي أخلاقي حي يقتضي الحفاظ على الترابط الوثيق بين مقاصد التربية وبين آلياتها والذي يقتضي بدوره التعامل مع الدين في المنظور الشمولي، من خلال مراعاة الأبعاد المتعددة للأخلاق، فمنظومة فالأخلاق الإسلامية متعددة الأبعاد ولا يمكن تفعيلها إلا بمراعاة وحدة وتكامل هذه الأبعاد:
- البعد التعبدي: فالأخلاق حاضرة في العبادات كلها وهي شرط لكمالها، مع العلم أن العبادة هي أيضًا أداة من أدوات تحسين الأخلاق: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} (العنكبوت: 45).
- البعد التَّعَرُّفي: مصداقًا لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}، فالعبادة وثيقة الصلة بالمعرفة معرفة الشرع ابتداءً، ومعرفة الله انتهاءً. ومن هنا كان للأخلاق بُعد تربوي يتمثل في تطهير النفس وتزكيتها استعدادًا لسمو الروح ورجوعها إلى خالقها.
وللأخلاق بُعد دعوي، فيها يتأهل المسلمون لتقديم الإسلام لغيرهم، بالحال قبل المقال، بالسمت الحسن بالمعاملة الطيبة، وكل أحوال المسلمين إن حَسُنَت كانت دعوة غير مباشرة لغير المسلمين.
وللأخلاق بُعد اجتماعي، فالأخلاق محكها الحياة الاجتماعية، كما في الحديث الشريف: «الدين المعاملات».
وتجب مراعاة الترابط بين الأخلاق وبين مقاصد الدين في منظوره الشامل للأخلاق: التكامل بين القيم المرتبطة بالاستخلاف وبالتكليف في أبعاده الثلاثة:
- عبادة الله (من بين القيم المرتبطة بها التوحيد، الطاعة والإخلاص والخوف والرجاء والمحبة والمعرفة...).
- وعمارة الأرض (ومن بين القيم المرتبطة بها تلك المرتبطة بالعمل والكسب).
- ونفع الخلائق، فمن بين أهم ما يطلب في التعامل مع الخلائق التوفيق بين التعامل معهم باعتبارهم بابًا، وبين التعامل معهم باعتبارهم حجابًا، والتوفيق في التعامل معهم بين الغيرة على شرع الله وبين توقير خلق الله الرحمة بهم والرفق والتماس العذر.
- مراعاة التكامل بين هذه المقاصد وبين مقاصد الشرع الخمسة أو الكليات الخمس: «حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال».
الشرط الثالث: مراعاة خصائص المنهج التربوي الإسلامي
من غير المعقول أن نشتغل في الوقت الراهن في مجال التخليق والتربية على القيم وكأننا نريد أن نعيد اكتشاف النار أو اختراع العجلة. من العبث أن نتناسى أن لنا منهجًا تربويًا متكاملًا.
الجدير بنا أن نستفيد في مجال التربية على القيم مما أنتجته تلك الفئة من علماء الأمة وصلحائها، وهم فئة ميز الله بهم أمة الإسلام، تخصصت في هذا الفن، فن الأخلاق جدير بنا أن نستفيد مما توصلوا إليه من تدقيقات نظرية ومما راكموه من تجارب عملية تتعلق بالجوانب التالية:
- تحليل القيم تعريفها وتدقيق ماهيتها.
- ترتيبها وتحديد أشكال الترابط التعارض فيما بينها.
- تحديد مقتضيات التحقق بها، ومستويات ذلك التحقق.
- العوامل الذاتية (أحوال المكلفين، واستعداداتهم الحسية، والمعنوية الظاهرية والباطنية) والعوامل الموضوعية التي تساعد أو تعوق التحقق بها.
- مقاصد الدين في شموليته وتكامل أركانه ومقاماته.
- أحكام الشريعة وحدودها.
- القواعد المبثوثة في كتب السنة والمتحققة في سيرة المربي الأول وسِيَر السلف الصالح.
الخاتمة
إن من بين أسباب تخلف المسلمين عن موعدهم في مجال الأخلاق تعطيل هذا المنهج التربوي. قد نجد لإعراض بعض المسلمين عن هذا المنهج عذرًا فيما حصل من انحراف في استعماله، لكن الأولى هو تقنين المنهج لا تعطيله.
ونقول على غرار ما قاله الندوي رحمه الله (ماذا خسر العام بانحطاط المسلمين)، أقول ما أعظم ما خسره المسلمون بسبب إعراضهم عن المنهج التربوي الإسلامي المتكامل في مقاصده وفي آلياته.
وهنا نرى أن الحل هو العمل على تفعيل المنظومة الإسلامية في شموليتها حتى تعود آليات الضبط الذاتي (الحوار والمناظرة والحسبة...) للاشتغال وبذلك سيستفيد المسلمون من تراثهم ومن هذا المنهج التربوي، ويأمنوا محاذير ومخاطر الانحراف التي قد تقع بسبب سوء استعماله.
.