Business

المدارس الإسلامية في العصور الوسطى ودورها في تطوير التعليم

نشأت المدارس الإسلامية في أواسط القرن الخامس الهجري كرد فعل للأحداث التي طرأت على العالم الإسلامي إبان تلك الفترة، فكانت الظروف المجتمعية مهيأة لإحداث مثل هذا النوع من ردود الأفعال، وذلك عندما انتقل المجتمع الإسلامي من طور الكمون والنشأة إلى طور البلوغ والاكتمال، عندما بدأت الثقافة القومية تلتحم بالثقافات الوافدة. الأمر الذي أدى بدوره إلى نضج العلم في المجتمع الإسلامي، حتى أصبحت المساجد تنوء بتحمل مثل هذه الوظيفة، فكان لا بد من ظهور الإرهاصات الأولى للمدارس كمؤسسات تربوية متخصصة لتدريس العلوم، بصورة منظمة، وظلت المدارس إبان ظهورها تؤدي مهمتها التربوية في المجتمع الإسلامي، وذلك لأنها الرحم الطبيعي لنمو العلوم وازدهارها، حتى تغلغلت في كل نواحي العالم الإسلامي، وهذا بعد أن أدرك القائمون على أمر العالم الإسلامي آنذاك أهمية وجود المدارس في المجتمع، لهذا فقد عملت المدارس على مسايرة ما يحدث في المجتمع.

وفى دراسة بعنوان: «المدارس الإسلامية في العصور الوسطى ودورها في تطوير التعليم»، للدكتور صلاح السيد عبده رمضان، الأستاذ بكلية التربية جامعة بنها، يرى أن هذا كله أدى بدوره إلى نمو وتطور الفكر التربوي العربي الإسلامي، وجعله معينًا لا ينضب لمن أراد أن يجعله نموذجًا يحتذى به في آرائه التربوية ونظرياته، التي اتضحت معالمها بعد قيام هذه الحركة المدرسية التي شملت ربوع العالم الإسلامي، لأن حركة التنظير التربوي في المجتمع الإسلامي اقترنت هي الأخرى بظهور تلك المدارس كمعاهد عليا للتعليم.

 

ويمكننا الآن تبيان دور المدارس الإسلامية في تطوير نظام التعليم العربي وذلك على النحو التالي:

ديمقراطية التربية والتعليم

تعتبر الديمقراطية، وخصوصًا في الوقت الحالي، من أهم مظاهر الحضارة والكمال الإنساني. ولقد كانت الأمم الإسلامية في مقدمة المؤيدين للديمقراطية التي هي ضد الدكتاتورية، ولم يكن ذلك التأييد لدوافع سياسة فحسب بل تأثر إلى حد كبير بعوامل وجدانية.

فالمسلمون من أهم الشعوب التي تفخر بقدم الصلة بينها وبين الديمقراطية التي تتميز بمبادئ خاصة، منها الحرية، والإخاء، والمساواة، والشورى في الحكم، والعدالة. والمسلمون لا يُعدَمون الأدلة الكثيرة على وجود المبادئ المذكورة في تعاليم دينهم وفي أساليب حياتهم وتاريخهم، ولعل ميدان التربية والتعليم هو أفضل الميادين لدراسة هذه الظاهرة في الحياة الإسلامية، ففي نظم التربية والتعليم وأساليبها تتجلى أهم المبادئ والغايات التي تعمل الأمة على تحقيقها وبقائها مما يكون له الأثر القوي في نواحي التفكير وأساليب الحياة في المجتمع.

وتظهر مؤشرات ديمقراطية التعليم التي عملت على تأكيدها المدارس الإسلامية في نظامها التعليمي فيما يلي:

  • إن هذا التعليم لا يفرق بين الدارسين على أساس من الجنس أو اللون أو العقيدة أو الثروة، فكان نظام التعليم يتجاوز حدود القُطْرِية.
  • كان التعليم يعطَى في المدارس مجانيًا، لم يُنتظر من طالب العلم إلا حالة واحدة؛ وهي رغبته الأكيدة في تلقي العلم والإقبال عليه.
  • لقد كان طلب العلم والتعليم واجبًا دينيًا، فرضَ عينٍ على كل مسلم ومسلمة، فقد سعى الجميع إلى العلم، وفتحت كل الأبواب، فقامت الدولة بإنشاء المدارس، وأوقفوا الأوقاف للصرف عليها، وقد تسابق في هذا المضمار الأغنياء لإقامة هذه المدارس وتزويدها بما تحتاجه.
  • أصبحت وظيفة العَالِم في هذه المدارس لا تقتصر على نشر العلم، بل كان يتوقع من العالم أن يكون على اتصال دائم بالمجتمع الذي يعيش فيه، وبمشكلاته التي يئن منها، فبالتالي كان واجبًا عليه أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، مهما كانت الصعوبات التي يمكن أن يتعرض لها.
  • لقد تمتع الطلاب والمعلمون في هذه المدارس بالحرية العلمية الكاملة؛ وهي حرية قَلَّمَا يستطيع أن يتمتع بها الطلاب والمعلمون في عصورنا الحديثة في ظل نظم تعليمية دكتاتورية تحد من حرية الطالب والمعلم في كثير من الأمور.
  • نشأت المدارس من بدايتها شعبية فالأهالي هم الذين حددوا حاجاتهم منها، وهم الذين اختاروا أماكنها ودبروا لها الأموال وهم الذين اختاروا لها المعلمين، ودفعوا لها المرتبات، واختاروا مواد الدراسة، وكذلك الكتب التي سيتدارسها الطلاب، واختاروا أساليب التقويم وطرق الامتحان.

مما سبق يتضح لنا أن التعليم في هذه المدارس التي انتشرت في ربوع العالم الإسلامي كانت السمة الغالبة عليه هي الديمقراطية في كل نواحيه التعليمية، مما كان له أكبر الأثر في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في هذا التعليم، هذا المبدأ الذي جعل التعليم في متناول الجميع بنفس الكم وبنفس الكيف، لا توجد صور متعددة للتعليم تبعًا للتفاوت الطبقي، وإنما هي صورة واحدة للتعليم لكل الطبقات، وهذا نابع من فلسفة الإسلام العليا أن جميع البشر متساوون لا فرق بين أحدهم إلا بالتقوى والعمل الصلاح، فمبدأ تكافؤ الفرص ليس من مستحدثات العصر، وليس من صنع التربية الحديثة، وإنما يضرب بجذوره إلى تراثنا الإسلامي، فهو أصيل النشأة، تشبع بفلسفة الإسلام المتمثلة في العدل التربوي والمساواة.

وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في المدارس الإسلامية، أتاح التعليم للجميع غنيًا كان أم فقيرًا، طالما توفرت فيه الرغبة في تلقيه للعلم، مما أعطى لنا علماء عظامًا، استطاعوا أن يقدموا جليل الخدمات للعالَم كالتي قدمها نيوتن وغيره من نوابغ الفكر الغربي، وقد اعترف أرسطو وبول بأن العرب أخذوا بعض النظريات عن اليونان وفهموها جيدًا وطبقوها على حالات كثيرة مختلفة، ثم كوَّنوا من ذلك نظريات جديدة وبحوثًا مبتكرة، فهم بذلك قدموا للعلم خدمات جليلة لا تقل عن الخدمات التي أتت من مجهودات كبار رجال الاختراع في الغرب.

 

وظيفية مناهج الدراسة

كانت مناهج التعليم في هذه المدارس تمتاز بالوظيفية الحقة، وذلك بمعنى أنها تهدف إلى تخريج إنسان واعٍ للحياة، قادرٍ على أن يساهم في حركة بناء مجتمعه وتطويره من خلال عمل معين يتقنه ويجيده، وتطورت المناهج بتطور أهداف المدارس، فقد كان هناك المنهج الديني الأدبي الذي أخذت به المدارس الإسلامية في أول الأمر؛ ليساير المرحلة التي كان فيها العالم الإسلامي متفرغًا لتفهم ونشر الدين. على أن العناية بالدين لم تقتصر على دراسة العلوم الدينية البحتة وإنما أدت إلى الاهتمام بدراسات مختلفة لها صلة بالدين كعلوم اللغة وعلم الأخبار والحديث والتفسير، وقد نمت تلك العلوم نموًا كبيرًا في المرحلة الأولى أي في القرنين الأول والثاني للهجرة. ولقد استمرت تلك الصلة الوثيقة بين العلوم الدينية والعلوم العقلية وساعدت على نمو العلوم الأدبية أو الإنسانية التي وإن كانت نظريًا تعتبر مجرد خادمة للعلوم الدينية، إلا أنها كانت تدرس عمليًا من جميع نواحيها دراسة واسعة، وهكذا نجد أن المنهج قد اصطبغ بالصبغة الدينية، وفي ذات الوقت غني بأنواع الآداب والمواد الإنسانية.

وأما المنهج الثاني ويتمثل في المنهج العلمي الأدبي، وقد بدأ العمل به منذ تطور الفكر العربي الإسلامي في العصر العباسي، حينما اتصل العرب بأصول الثقافات الأجنبية من فارسية ويونانية وهندية، وفي هذه الفترة بدأ التفكير الإسلامي يتحرر بدرجة كبيرة وينطلق من الإقليمية إلى العالمية، فنشأت حركة علمية فلسفية نشطة، وبدأت هذه المرحلة في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري، وبلغت ذروتها في القرن الرابع. وفي تلك المرحلة غمر العالم الإسلامي فيضٌ من النشاط العلمي والفلسفي انعكس أثره على مناهج التعليم في هذه المدارس، ومن ثم فقد سبقت المدارسُ الإسلامية بمناهجها ما تنادي به التربية الحديثة اليوم من أن التربية بأوسع معانيها تكمن في عملية الارتباط بالثقافة والتلاؤم معها.

وكان محتوى المناهج في هذه المدارس عبارة عن المواد التي يجب على كل طالب دراستها، وتتمثل في المواد الدينية والأخرى المساعدة لها، وتتمثل في المواد اللغوية مثل النحو والصرف والأدب وعلم الأخبار وغير ذلك، ويبدو أن سبب احتلال المواد الدينية مركز الصدارة بين المواد التي تدرس بهذه المدارس- يرجع تفسيره إلى العمل على تكوين عقلية قادرة على درء التيارات الفكرية والمذهبية المناوئة للدين الإسلامي، عقلية مؤمنة بربها حق الإيمان، لذا كان الدين عاملًا مشتركًا في جميع المناهج الدراسية، حتى ذهب بعض فلاسفة الإسلام إلى أن الكمال الإنساني لا يمكن الوصول إليه إلا بالتوفيق بين الدين والعلم.

فتعددت بالتالي العلوم، وتبعًا لتعددها تعددت مناهجها، ولكن المناهج تباينت بتباين الغرض الذي يرمي إليه المتعلم، فمنهج من أعد نفسه ليكون طبيبًا غير منهج من أعد نفسه ليكون فيلسوفًا، ومنهج من أعد نفسه ليكون كاتبًا يختلف عن منهج الذي أعد نفسه ليكون محدثًا.

وكانت مناهج التعليم المدرسي تبعد كل البعد عن التخصص الدقيق للعلوم، بل كانت تمتاز بالاتساع والشمولية فهذا دارس الطب يدرس إلى جانب علوم الطب علومًا أخرى، بعضها يتصل به اتصالًا وثيقًا، والآخر بعيد عنه تمامًا.

لذا فقد كان من آثار هذه المناهج التعليمية أنها خَرَّجت علماء دينٍ ودنيا، وهذا يتماشى مع فلسفة التكامل في هذه المناهج، فقد جمعت في محتواها بين وسائل الإعداد الدنيوي والأخروي، فلم يوجد ما يُسمى بعالم الدين فقط، فكل عالم رجل دين ودنيا، يأخذ من العلوم المختلفة بأوفر قسط، فقد تجد عالم طب له مصنفات في الفقه والأصول والحديث والعربية والمنطق؛ كابن النفيس شيخ الطب بالديار المصرية. وتلميذه هبة الله الأسنائي اشتغل أولًا بالفقه والأصول، ثم عني بالمعقولات فغلب عليه الطب والحكمة والمنطق، وغيرهم كثيرون.

 

تعدد وتنوع طرق التدريس

كان من الطبيعي أن تتعدد طرق التدريس وتتنوع وذلك تبعًا لكثرة العلوم، وتنوع مناهجها، ويرجع الفضل الأكبر للمسلمين في تطور هذه الطرق؛ وذلك لانفتاح المسلمين على ثقافات الدول الأخرى، فقد نمت طريقة المحاضرة على أيديهم، ووُضعت لها أصول وخطوات كما بينها ابن خلدون؛ وتميزت هذه الطريقة بما يتيحه المدرس من فرص أمام تلاميذه للمناقشة والاستفسار وحثهم على ذلك؛ مما ساعد على توثيق الصلة بين التلميذ والمعلم، وكان المدرس أحيانًا يقوم مقام السائل، فيُلقى على الطلاب بضعة أسئلة يختبر فهمهم ثم يجيب على ما تعسر عليهم أن يجيبوا عنه، وهو بهذا يعطي فرصة للطلاب قليلي الذكاء أن ينتفعوا بما تستدعيه هذه الأسئلة والإجابة عنها، من إعادة للموضوع وزيادة توضيح جوانبه.

وعرفت المدارس الإسلامية أيضًا، طريقة المناظرة التي تعمل على شحذ الذهن، وتقوية الحجة والتمرين على سرعة التعبير، والتفوق على الأقران، وتعويد المناظرين الثقة بالنفس، والقدرة على الارتجال. ولهذه الأسباب عني بها المسلمون عناية كبيرة، وَعَدُّوها طريقة من طرق التعليم، وأشاروا إليها في كتبهم الأدبية.

ولتفعيل طريقة المناظرة في التعليم، فقد اشترط العلماء شروطًا منها: أن يكون غرضُ المتناظرين بحثَ العلم وإحياء الحق والهدف الثقافي البحت، لا الجدل الخالص، وحب الانتصار على الخصم، وهكذا كان جدل الأئمة الكبار، والفقهاء والعلماء أمثال الشافعي وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة، وأن يكون المتناظران عالمين بارعين متسامحين، غير حقودين ولا غيورين ولا مرائين.

 

التقاليد المدرسية

أما في مجال التقاليد المدرسية فقد اختصت هذه المدارس بتقاليدها الواضحة، والتي لم يسبقها أحد فيها، بل كان لها الريادة الكاملة في وضع هذه التقاليد في التعليم المدرسي وتمثلت في الآتي:

  • الإجازات العلمية

تعتبر الإجازة العلمية من التقاليد الراسخة بالمدارس خلال العصور الإسلامية المختلفة، ومصطلح الإجازة مصطلح يوافق الشهادات أو الدبلومات التي تعطى للطلبة عند انتهائهم من دروسهم الرسمية في عصرنا الحاضر، غير أن الإجازة تختلف عن هذه الشهادات في أنها كانت تقدم باسم المدرس، والثانية تقدم باسم المدرسة.

وهذه الإجازة تخول للمدرس وتعطي له الحق في ممارسة مهنة التعليم، ولكنها لم تعط له الحق في القيام بتدريس كل العلوم، بل تجيز له نوعًا معينًا من العلوم التي أتقنها على أستاذه، وكانت هذه الإجازة تستمد شهرتها من شهرة أستاذها الموقع عليها. والإجازة لم تُعطَ إلا لمن هو كفء لها، وقدراته واستعداداته تعبر عن هذه الإجازة ولا تعطي إلا للذي تتوافر فيه الأهلية الكاملة والصلاحية التامة التي تجعله صالحًا لممارسة مهنة التعليم، ويكون من أهل الثقة في العلم.

وهذه الإجازات كانت تعطي للطلبة في هذه المدارس بغير أن يؤدوا امتحانًا معينًا بعد الدراسة كالامتحانات التي تعقد في عصرنا الحاضر، والتي تمثل شبحًا مخيفًا أمام الطلاب، علاوة على أنها ليست دقيقة لتقييم الطلاب فيما حصلوه من علم طيلة العام الدراسي، ولكن كانت هناك حالة واحدة ذكرها أبن أبي أصيبعة جاء فيها أنه عقد امتحانًا لأطباء بغداد في عهد الخليفة المقتدر في القرن العاشر الميلادي بحضره سنان بن ثابت الذي كان يمتحن الطلاب امتحانًا شفهيًا.

وبدلًا من هذا الامتحان كانت الأساتذة يعطون طلبتهم الأكفاء شهادة أو إجازة بالمصطلح الذي كان شائعًا آنذاك ينصون فيها على أن الطالب أتم دراسة منهج معين تحت إشراف الأستاذ الفلاني، والغرض منها الإقرار بكفاية الطالب واجتهاده، وانكبابه على العلم، وتفرغه للدراسة والبحث والاطلاع، وكانت هذه الشهادة شخصية من الأستاذ لطلابه، وليس فيها عنوان معهد معين، ولا يذكر فيها لقب علمي.

  • نظام القبول والاختيار

لم تضع المدارس الإسلامية شروطًا مقيدة لكل من يريد التعلم، مثلما يحدث في نظم التعليم المعاصرة، فكان نظام القبول غير مقيد بشروط معينة؛ وإنما كانت هذه المدارس كفتحة الأبواب أمام كل متعطش للعلم قادر على هضمه والإفادة منه فيدرس ما يحب من العلوم ويختار من يروم من الشيوخ فينتظم في حلقته ويستمر في تلقي العلم على يديه ما دامت له الرغبة والميل. وقد يختار الطالب معلمًا مشهورًا في ناحية من نواحي العلم فيتلقى عنه العلم في داره أو أي مكان آخر، كذلك لم يكن هناك قيود في حضور الطلاب للدروس، كما لم يكن المدرس مقيدًا بإلقاء عدد معين من المحاضرات، كما لم يوجد نظام معين لتوزيع المحاضرات بل كان يتبع ذلك رغبة المحاضر، ولم يتبع نظام محدد للعطلات في خلال السنة وإنما كان يتحدد بدء العطلات تبعًا لانتهاء المحاضرات.

  • البعثات التعليمية

نظام البعثات التعليمية المأخوذ به في نظم التعليم المعاصرة مقتبس من التربية الإسلامية، حيث كانت الرحلة التعليمية في الفكر التربوي العربي الإسلامي وسيلة من وسائل الحصول على العلم، ومن الرحلات التي يقوم بها المتعلم من أجل العلم يستمد مكانته العلمية، لهذا كانت الرحلة أسلوبًا من أساليب التحصيل العلمي، إذ أنها أحد الطرق المستخدمة في تحصيل العلوم، وأصبحت الحاجة ملحة إليها حين تفرق الأئمة من العلماء والقراء في الأقطار الإسلامية النائية بعد أن اتسعت رقعة ديار الإسلام، وكانت الرحلة أشد عناية في مجال السنة النبوية وذلك خوفًا من الكذابين، والوضاعين، والزنادقة والمارقين.

وكان العلماء والطلاب يرحلون من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى آخر، غير مبالين بما يعترضهم من مشقة وعناء وفقر، مع ما في السفر من مشقة وصعاب جعلته كما عبروا عنه: «قطعة من العذاب»، ولعل خير مثال يدل على ذلك ما روي عن أبي الدرداء، وظل العلماء يحثون على الرحلة وما لها من فوائد جمة في أقوالهم المأثورة، فهذا الشعبي يقول: «لو أن رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة ما رأيت أن سفره ضاع»، وهكذا رحل علماء اللغة إلى البادية يقيدون اللغة والأدب، ورحل علماء الحديث إلى الأمصار المختلفة يقيدون الحديث، ورحل الأدباء إلى نواحي المملكة الإسلامية يأخذون عن أدبائها، ورحل طلاب الفلسفة إلى القسطنطينية وغيرها في طلب الكتب اليونانية للترجمة وكذلك الشأن في كل فرع من فروع العلم والمعرفة.

وهكذا نجد أن المملكة الإسلامية المترامية الأطراف لم يكن فيها حواجز ولا حدود مصطنعة ولا موانع تمنع أي عالم من الرحلة العلمية، فترى العالم في المشرق فإذا هو بالأندلس، وفيما هو بالأندلس إذا هو بالعراق، وفيما هو في العراق، إذا هو بمصر والشام، لا يعوقهم فقر مدقع، ولا يوهن من عزائمهم صعوبة الطريق، وذلك كله بفضل إيمانهم وحبهم المطلق للعلم الذي بذلوا في سبيله كل غال ورخيص، هذا إلى أن العلم عند كثير منهم أصبح يقصد لذاته لا وسيلة، ويرغب فيه لمتعته.

وقال أبو عمرو بن العلاء: قيل لمنذر بن واصل: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم مثل ما تنعمت الأذان، قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها، وليس لها غيره، قيل: وكيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على بلوغ لذته في المال.

لهذا كله تلاشت المسافات وهانت الصعاب أمام طلب العلم وتحصيله والاتصال بالأستاذ المختار، فقد يتلقى عالم في أصفهان طلابًا من الأندلس وقد يجلس في حلقة عالم بمصر طلاب من بخارى وطبرستان. وعالج مؤرخو التراجم حياة علماء المسلمين من مختلف البلدان كما لو كانوا أبناء بلد واحد وذلك لكثرة ترحالهم وتمازجهم.

وأصبحت الرحلة مقياسًا من مقاييس الحكم بالصلاحية على الطالب في هذه المدارس، فقد كانت قيمة الطالب في نظر الناس تتناسب مع ما قام به من رحلات علمية، ومع عدد المدرسين الذين تلقى عنهم، كل هذه الظروف والعوامل جعلت الطالب لم يتقاعس عن طلب العلم في أي بقاع الأرض، وهذه الحماسة لم تحظ بنصيب الأسد بين طلاب الدراسات الدينية فقط، بل تعدت إلى طلاب العلوم العقلية.

وهكذا تعتبر الرحلات العلمية وسيلة لتحصيل الخبرة المباشرة كما يقول علماء التربية الحديثة، وفي ذلك يحث ابن خلدون على الرحلة في طلب العلم وذلك لأنها تيسر للطالبين المعلومات وفهمها، والتربية الحديثة تؤيد اتجاه ابن خلدون إلى استخدام الرحلات كوسيلة عظيمة في تحصيل المعلومات بطريقة مباشرة تترك أثرها القوى في أذهان الناشئين ويتضح هذا في قوله: «إن الرحلةَ في طلب العلم ولقاءَ المشيخة، أصحاب الاختصاص وكبار رجال العلم والتعليم مزيدٌ كمال في العلم، والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة علمًا وتعليمًا وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقينًا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات من المباشرة والتلقين أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا، ولاسيما عند تعدد الأساتذة وتنوعهم».

  • نظام المعيدين:

هذا النظام المطبق في نظم التعليم العالي في عصرنا الحاضر لم يكن من مستحدثات هذا العصر، ولكنه في الواقع إسلامي عربي أصيل، وذلك لأن وظيفة المعيد قد ظهرت في القرن الخامس الهجري، وذلك إبان ظهور المدارس الإسلامية حيث ارتبطت هذه الوظيفة بهذه المدارس التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، ولكن سبب ارتباط هذه الوظيفة بهذه المدارس إنما يرجع إلى أن المدرسة جمعت طلابًا تتباين مقدرتهم العلمية فاحتيج إلى المعيد ليشرح الدرس مرة أخرى بعد المدرس، وذلك حتى يفهم الطلاب الدرس، وبجانب هذا كان يوجد طلاب ممتازون وفائقون زاد ارتباطهم بمدرسيهم، ففضلوا أن يعملوا مساعدين لهم أو معيدين لدروسهم عن أن يستقلوا عنهم، ويُروى أن أبا إسحاق الشيرازي قد صحب أبا الطيب الطبري كثيرًا، وانتفع به، وناب عنه في مجلسه ورتبه معيدًا في حلقته ثم صار إمامًا ببغداد، وقد ورد ذكر المعيدين متصلين بالمدارس النظامية، حيث روي أن أبا الفتح أبن أبي الحسن الأشتري الفقيه كان يعمل معيدًا بالنظامية، وروي أيضًا أن أبا الحسن علي بن علي بن سعادة كان يعمل معيدًا بالنظامية.

ووظيفة المعيد تلي مرتبة المدرس لأن الأصل فيه إذا ألقى المدرس الدرس وانصرف؛ أعاد المعيد على الطلبة ما ألقاه المدرس إليهم ليفهموه ويحسنوه وقد يتعدد عدد المعيدين.

ويتمثل عمل المعيد في تبسيط عويص العلم للتلاميذ. وبيان الغامض لهم، فكان المدرس يلقي الثقافة العالية على سامعيه فمن احتاج إلى توضيح شيء أو فهمه عاد ذلك إلى المعيد، ومن أجل هذا كان المعيد يجلس بجوار المدرس ليعرف سير الدرس، فيوضح ما خفي منه، وقد يكون للمدرس الواحد معيد أو أكثر وذلك تبعًا لعدد الطلبة وكثرتهم، فإذا خلت مدرسة من المدرسين وتولى أمرها المعيدون كما حدث في بعض الأحيان في بعض المدارس كان معنى ذلك أن هذه المدرسة أصبحت للتعليم الأولي وليست للتعليم العالي.

وبإمكان المعيد أن يرقى إلى درجة مدرس فجمال الدين أبو إسحق الشيرازي رتب معيدًا في حلقة الشيخ أبي الطيب الطبري ثم أصبح مدرسًا للفقه في المدرسة النظامية، وكذلك الشيخ أبو علي بن يحيى بن سليمان بن الربيع العمري الواسطي كان معيدًا بالنظامية ثم رتب مدرسًا بها، وكانت شروط تعيين المعيد تتمثل بالدرجة الأولى في كفايته لهذه الوظيفة، فمن يجد فيه الأستاذ هذا الشرط، يعينه معيدًا، فعلاء الدين أبو الحارث قدم بغداد وسكن النظامية واشتغل ودأب في علوم الفقه، ورتب معيدًا بها ثم عين مدرسًا للنحو كذلك تفقه كمال الدين أبو البركات بن أبي سعد الأنباري في المدرسة النظامية وصار أحد المعيدين بها.

وكان تعيين المعيدين يتم من ناظر الوقف، فقد يرتب الناظر في هذا الموقف شخصًا من الفقهاء الحنفية تكون فيه أهلية الاشتغال بمذهبه، ويرتب معه من الفقهاء الحنفية ثلاثة معيدين، وكان يستعين بمشورة المدرس لأنه لم يكن له علاقة بالطلبة وبمستواهم العلمي.

ويتضح لنا أن نظام المعيدين إسلامي أصيل، أخذت به نظم التعليم المعاصرة، وذلك بتعيين كل من تظهر عليه مخايل الذكاء والنباهة في هذه الوظيفة؛ وذلك لتمرينهم على ممارسة مهنة التعليم، وتشجيعهم على الاستمرار في البحث والدراسة والاستزادة من العلوم للتعمق في الدروس والاطلاع، والإنتاج في التأليف والتصنيف، وإظهار البحوث العلمية والأدبية حتى يكونوا كوادر علمية تسهم في جودة العملية التعليمية داخل نظم التعليم العالي المعاصرة.

  • نظام المدن الجامعية (المساكن الطلابية):

نظام المدن الجامعية المتبع في نظم التعليم المعاصرة لإيواء وسكنى الطلاب، قد سبقت التربية الإسلامية فيه التربية الحديثة وذلك بعدة قرون، فهو موجود عند المسلمين في دور العلم منذ عهد مبكر، فمنذ أن شيد الأزهر الشريف، استقبل هذا المعهد العلمي أفواجًا من الطلاب من بلدان القطر المصري ومن بلدان العالم الإسلامي كله، وكان كثير من هؤلاء يلازمون الإقامة فيه، فأصبح يوجد لكل طائفة رواق يعرف بهم، وتحمل إليهم الأطعمة والخبز والحلوى بانتظام.

ومن نظام المدن الجامعية المتبع في الجامع الأزهر، انتقل إلى سائر البلدان، فأصبح في العراق الطلاب يقيمون في المدرسة وتصرف عليهم جميع متطلباتهم ومستلزماتهم من مأكل ومشرب وملبس وأدوات الكتابة والدرس، كما يتقاضى الطالب مرتبًا شهريًا لتغطية بعض نفقات الطالب الخاصة، وقد أخذ السلاطين والأمراء في بناء مدارسهم على نمط النظامية ونظامها التعليمي والمعاشي للطلاب، فأصبح للمدرسة بناء يحتوي على غرف للدراسة، ومكتبة ومساكن للطلاب، ومطبخ وحمام وأوقاف توقف عليها، وفناء. فالمدرسة النورية التي أنشأها نور الدين محمود زنكي سنة 563 هـ، وتقع في حي الخياطين بدمشق في الوقت الحاضر، تحتوي على صحن مربع وإيوان كبير، وفي المدرسة مسجد للطلاب، وحجر لسكناهم، وحجرتان لاستراحة المدرسين وباقي مرافق المدرسة.

وظل هذا النظام معمولًا به في كل العصور، ففي العصر الأيوبي يذكر أن صلاح الدين بني المدرسة الناصرية وجعلها مشتملة على مساكن للطلبة والمدرسين، وكذلك العصر المملوكي أصبح هذا النظام مفخرةً من مفاخر التعليم، فقد أعتنى الأمراء والسلاطين بتوفير المساكن اللازمة للطلبة والمدرسين.

 

التربية الخلقية

تعتبر التربية الخلقية من أهم المبادئ التربوية التي أرست دعائمها هذه المدارس. ويقصد بها تهذيب أخلاق الناشئة وتربية أرواحهم، وبث الفضيلة فيهم، وتعويدهم الآداب الإسلامية السامية، بحيث يكون محصلتها في النهاية تربية الضمير لدى كل فرد في المجتمع.

وتربية الضمير القائم على مراقبة الله سبحانه وتعالى في كل عمل من الأعمال هو أعظم مكسب في التربية الإسلامية بوجه عام، لأن ذلك يجعل الفرد يلتزم بسلوك الخير ويسعى لتحقيق الخير للناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، كما يلتزم بتجنب سلوك الشر، ويعمل ليحول دون وقوعه من أحد.

ولما كان المعلم هو الذي يقوم بتحقيق هذه المهمة، فقد اشترطوا فيه: أن يكون من أهل الصلاح والعفة والأمانة، حافظًا لكتاب الله العزيز، مشتهرًا بالدين والخير؛ حتى يكون قدوة لطلابه، لأن من واجباته، غرس القيم الأخلاقية في نفوس طلابه، مثل طاعة الوالدين، وطرح السلام عليهما، وتقبيل أيديهما عند الدخول عليهما.

ولكن المدرس في المدارس الإسلامية، كان دوره كبير كقدوة للمتعلمين في تحقيق الأهداف الأخلاقية فبالإضافة إلى محافظته على شعائر الإسلام وملازمته تلاوة القرآن، كان عليه معاملة الناس، بمكارم الأخلاق، من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكظم الغيظ وكف الأذى عن الناس، واحتماله منهم، والإيثار، والإنصاف، وشكر التفضل، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات، والتلطف بالفقراء، والتحبب إلى الجيران والأقرباء، والرفق بالطلبة وإعانتهم وبرهم وأن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الرديئة ويعمرهما بالأخلاق المُرضية. فمن الأخلاق الرديئة: الغل والحسد، والبغي، والغضب لغير الله تعالى، والغش والكبر والرياء والعجب والسمعة والبخل والخبث والبطر والطمع والمداهنة وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب النفس، والاشتغال بعيوب الخلق، والحمية والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغير الله، والغيبة والنميمة واحتقار الناس ولو كانوا دونه.

وبهذه الصفات الأخلاقية التي هدفت المدارس الإسلامية إلى ترسيخ قواعدها، قد جعلتها مبدأ تربويًا هامًا لا بد من تحقيقه، فكان نتائج هذه التربية الأخلاقية تخريج جيل كان مفخرة الأجيال في البحث والدرس والتأليف والمثابرة على الاستزادة من العلم تم على يديه إحياء التراث الإسلامي الذي دمر في كارثة بغداد؛ فكانوا علماء بحق، لهم مكانة ممتازة لجرأتهم في الحق وتمسكهم بالقيم الفاضلة، حيث كانت تقام لهم الاستقبالات الشعبية الرائعة، يشترك فيها السلطان أحيانًا كالاستقبال العظيم الذي أقيم لقاضي القضاة جلال الدين البلقيني، الذي شارك فيه السلطان المؤيد بنفسه.

 

مثالب وعيوب المدارس الإسلامية في العصور الوسطى

أولًا: الإكثار من علوم القواعد كالنحو والصرف والبلاغة

وكذلك الإكثار من العلوم الدينية وحدها، مع الإعراض عن سائر العلوم الطبيعية والعقلية والتاريخية.

والقرآن يحث على النظر في عجائب ملكوت السماوات والأرض، ويثني على المتفكرين وأولي الألباب. وقد عبر ابن خلدون عن ذلك بقوله: «اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات والطبيعيات والإلهيات والعقليات. وعلوم غير مقصودة بالذات ولكنها وسيلة لتلك العلوم كالعربية والبلاغة مثلًا، فإنها وسيلة إلى أوضاع اللغة فقط.

أما العلوم التي هي مقاصدٌ فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار، فإن ذلك يزيد الطالب تمكنًا في ملكته وإيضاحًا لمعانيها المقصودة. أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن يُنظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مُخرِج لها عن المقصود، فكلما خرجت عن المقصود، صار الاشتغال بها لغوًا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها، وربما يكون ذلك عائقًا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات، والعمر يقصر عن تحصيل الجميع.

ثانيًا: إكثار الكتب في علم واحد

بحيث يُرى طالب يدرس نحو عشرة كتب في الفقه وحده أو في النحو مثلًا، ويقول ابن خلدون في ذلك: «إن كثرة الكتب في العلوم عائقة من التحصيل، ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط كان التعليم سهلًا ومأخذه قريبًا».

ثالثًا: الإصرار على دراسة الكتب الصعبة العويصة واعتبار ذلك جوهر العلم:

والاعتقاد بأن لا سبيل إلى الحقائق العلمية إلا بقراءة هذه الكتب، وهل الكتب إلا وسيلة للأخذ بناصية العلوم وتقييدًا للشوارد في الذاكرة حرصًا عليها من الهروب، وذلك لأن الكتابةُ قيدٌ للعلم، والعلم هو ما لقيته في أي مكان، ومن أي كتاب درسته، فليس حتمًا فرض كتاب معين، وإن كان ينبغي الإطلاع على جميع الكتب خصوصًا الكتب القديمة على سبيل المراجعة والمذاكرة لا على سبيل الدراسة. فالكتب العويصة الوعرة المسالك المترامية الأطراف، عقبة كؤود تعترض طريق الطالب دون النجاح وتعرقله عن بلوغ المرام.

رابعًا: الجمود:

نرى أن عيب التربية والتعليم في المدارس الإسلامية كان الجمود، وهو البقاء على حالة واحدة وفكرة واحدة وأسلوب واحد في التعليم، وقلة الابتكار والتجدد والتطور. ولا شك في أن الجمود قد عاق سير التربية عند العرب في هذه المدارس. فإذا أخذنا الغزالي مثلًا وهو من أشهر المربين عند العرب وجدنا بعض آرائه تحث على عدم البحث والابتكار وهذا يتضح في قوله: «السلامة في الاتباع، والخطر في البحث عن الأشياء».

خامسًا: كثرة الحفظ والاعتماد على الذاكرة أكثر منه على القوة العاقلة:

فمن المعروف أنه كان ولم يزل للذاكرة شأن كبير عند العرب. وطبيعة الحال تقضي بهذا، لأن العلوم اللسانية والنقلية معظم تعلمها يتوقف على الحفظ. حفظ الطلاب القرآن الكريم برمته، وحفظوا الألفيات والأراجيز والقصائد الطويلة، وحفظوا القواعد الصرفية والنحوية وحفظوا الأمثال. وبعضهم يحفظ عن ظهر قلبه قواعد الحساب والعلوم الطبيعية، وكثرة الاعتماد على الذاكرة يرجع إلى عدم توافر الوسائط التي توجد الآن بين أيدينا، وهي تريحنا من عناء الذاكرة والاستظهار مثل القواميس والجداول التاريخية والخرائط والصور وغيرها. كانت كتب المراجع قليلة عندهم، ولهذا اضطروا إلى الالتجاء إلى ذاكرتهم. تعودوا أن يتكلوا على الذاكرة وهذا بحكم الطبع وَلَّد ضعفًا في قوة التفكير.

سادسًا: نظام التعليم في المدارس الإسلامية أدى إلى إماتة الاعتماد على النفس عند الناس وجعلهم اتكاليين

وذلك لأن معظم مدارس العرب قامت على مبدأ الإحسان، فالذين أنشأوا المدارس كانوا أفرادًا من سلاطين أو ملوك أو أمراء محسنين لم ينشئ الناس مدارسهم لأولادهم، بل أنشأها لهم المحسنون. وهذا مما يصغر النفوس ويميت احترام الناس لأنفسهم، وتشبه هذه العقلية عقلية العرب في أمور السياسة، إذ تولى أمورهم خليفة أو سلطان أو أمير، ولم تشترك الجماعات في تدبير الشئون السياسية ولم يشاركوا في تأسيس المدارس التي يديرونها بأنفسهم، بل اعتمدوا على من يؤسسها لهم، وكثيرًا ما أقفلت المدارس وغُيِّرت أسماؤها وأحيلت أوقافها، عند انتقال السلطة من يد سلطان أو أمير إلى آخر. هذا لأن بعض الملوك أرادوا أن تنسب المدارس إليهم. فأدت أنانيتهم واستئثارهم بالشهرة وبخسهم حق أسلافهم، إلى هدم ما كان هؤلاء قد شيدوه، وهذا عاد بخسارة على المدارس الإسلامية.

سابعًا: كثرة الأوقاف المحبوسة على العلم:

فالبرغم مما هيأته هذه الأوقاف لطلاب العلم من مساعدات مادية جعلتهم يقضون جُل أوقاتهم في تحصيل العلم، وجعلتهم أيضًا متفرغي البال للحصول عليه ومذاكرته، فهي في الوقت نفسه كان لها جانب سلبي على التعليم داخل هذه المدارس، فجعل التعليم مجانًا بهذه الصورة شجع عددًا ليس بقليل على الالتجاء إلى المدارس، لا لطلب العلم، بل للتعيش والارتزاق، فجعلت الأوقاف المدارس، ملاجئ لصغيري النفوس والصعاليك. أي أنه ذهب بعضهم لأجل الجراية- أي الجاري من الرواتب- لا لأجل العلم. ومعروف أن بعض الطلاب، إذا تأصلوا في بعض المعاهد، لا يتركونها لما فيها من الجراية وراحة البدن من الدأب والعمل. ومما زاد الطين بلة استخدام بعض الرؤساء، مثل نظام الملك وغيره الطلبةَ، والعلماءَ لبث الدعوة له ولإرادته.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم