Business

د. توفيق زبادي يكتب: التربية القرآنية للشخصية المسلمة.. التربية بالصيام

القرآن هو كتاب الأمة الإسلامية الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور؛ فأنشأها النشأة التي أرادها الله منها؛ فبدلها من بعد خوفها أمنًا، ومكَّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئًا، وهي بدون هدي القرآن ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء.

ومن تدبر في آيات الصيام في سورة البقرة؛ وجد أن هذه الآيات جاءت مناسبة لمهمة الأمة التي يعدها الله لتسلم مهمة الخلافة التي نزعت من بني إسرائيل بسبب فسادها، وسفكها للدماء، وتلكؤها في تنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى.

ولما كان مقصد سورة البقرة ومحورها الرئيسي (إعداد الأمة للاستخلاف وعمارة الأرض)؛ كان الصوم من سبل إعداد الأمة لهذه المهمة، وسبيل من سبل تربيتها على التقوى، حيث أن أهل التقوى هم المؤهلون لحمل أمانة الاستخلاف وعمارة الأرض، والمتدبر في آيات الصيام؛ يجد أنها افتتحت بالتقوى بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:183]، وختمت بالتقوى بقوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون}[البقرة:187]، وبين البداية والخاتمة ذكر الله عبادات تربي المؤمن المؤهل لحمل أمانة الخلافة على بلوغ مرتبة التقوى؛ التي وعد الله أهلها بالعاقبة الحسنة وهي النصر والتمكين في الدنيا، وبالنعيم المقيم في الآخرة، بقوله تعالى على لسان موسى u: {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}[الأعراف:128]، وقوله سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه:132]، وقوله سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}[القصص:83]، ومن هذه  العبادات  الصوم.

 

الصوم في اللغة

العرب تسمي كل ممسك صائمًا، ومنه الصوم في الكلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلن أكلم اليوم إنسيًّا} [مريم:26] أي سكوتًا في الكلام ([1]).

والصوم في الشرع: الإمساك عن الطعام والشراب والوِقَاع بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة ([2]).

فالصيام: حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها؛ وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردًا فردًا إذْ منها يتكون المجتمع ([3]).

 

من الأساليب التربوية في آيات الصيام

أولًا: النداء بوصف الإيمان

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183].

 النداءَ بوصف الإيمان دليلٌ على أن تنفيذ هذا الحكم- وهو الصيام-  من مقتضيات الإيمان؛ فهذا فيه إلهابٌ لعزائم المؤمنين، واستثارةٌ لهممهم.

ويستفيد المربي من هذا النداء: التوجه بالخطاب المحبب لنفوس طلابه؛ لشحذ عزائمهم، واستثارة هممهم، فمثلًا يخاطب المتميز في العلم: يا عالم المستقبل، والمتميز في الشجاعة: يا فارس، وهكذا، يختار من الصفات ما يلهب العزائم.

ثانيًا: الاعتبار بقصص العابدين الصالحين

قال تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183].

وفي ذكر قصص السابقين من العابدين الصالحين فوائد

منها: أن في التشبيه بالسابقين؛ تهوينًا على المكلفين بهذه العبادة؛ فإن في الاقتداء بغيره أسوة في تحمل المصاعب.

ومنها: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة؛ ليأخذوها بقوة تفوق ما أدت به الأمم السابقة.

ويستفيد المربي من ذلك بذكر قصص من السابقين على حسب المهمة التي يريد من طلابه القيام بها، تحفيزًا لهم.

ثالثًا: بيان مدة التكليف (الصوم):

قوله تعالى (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)، بَيَّنَ مقدار الصوم؛ لئلا يشق على النفوس؛ فتضعف عن حمله وأدائه ([4]).

ويستفيد المربي من ذلك إذا أراد تكليف طلابه بعمل يستغرق أيامًا أن يحدد لهم زمن تطبيق التكليف؛ حتى لا يضعفوا عن القيام به.

رابعًا: بيان الغرض من التكليف(الصوم)

قال تعالى مبينًا الغرض من التكليف: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183].

ويكمن السرُّ في كون الصيام سبيلًا لتحقيق التقوى أنه:

  1. يحبس النفس عن الشهوات، ويفطمها عن المألوفات، ويعدل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية.
  2. يكسر الجوع والظمأ من حدتها وسَوْرَتِهَا، ويُذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.
  3. الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فقد ثبت: (أن الجسم في حاجة إلى شهر سنويًا للتخلص من الفضلات المتراكمة فيه؛ لينعم صاحبه بالصحة والعافية).

ومن هذا التكليف يتبين لنا أن: الدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات؛ إنما يقودهم بالتقوى. فعليكم أيها المربون تربية طلابكم على تقوى الله؛ لأنهم إذا أحسنوا العبادة؛ أحسنوا القيادة.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

المصادر:


[1] البحر المحيط في التفسير: 2/ 172.

[2] تفسير ابن كثير: 1/ 497.

[3] انظر: التحرير والتنوير: 2/ 154.

[4] انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 497.

 

شاهد أيضًا في نفس السلسة:

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم