Business

تجديد المعرفة التربوية

تحتاج النظم الاجتماعية إلى التغير والتجديد إذ هي عادة، توجد لمواجهة مطالب واحتياجات معينة، لكن هذه الاحتياجات وتلك المطالب لا تثبت على حال، بل تجرى وتتبدل وتتحول بتبدل الزمان وتحول الأيام، فيجئ وقت تصبح فيه هذه النظم غير ملائمة، ومن ثم يتحتم أن يهرع الإنسان إلى تغييرها إلى ما يتسق وما استجد من أحوال، وما تبدل من أمور.

وفى دراسة بعنوان: «تجديد المعرفة التربوية»، للدكتور دكتور سعيد إسماعيل، يذهب إلى القول بأن التجديد ضرورة، بل يمكن أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فنقول أنه «فريضة»، ولعل أبرز ما يمكن الاستشهاد به، هذا الحديث المعروف لرسول الله ﷺ المؤكد أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها.

 

أولًا: مسالك التجديد

وإذا كان التجديد ضرورة، لكنه يختلف في المفهوم والأساليب والمناهج لدى البعض من الباحثين والكتاب والمعنيين بقضايا الإصلاح والتجديد. وإذا مثلنا هنا بما يمكن أن يجرى في ساحتنا العلمية من معرفة تربوية، فإننا نجد المسالك التالية:

أولًا: فقد يعمد رافع لواء التجديد على التخلص من كل ما يتصل بما قاله ورآه الأسلاف من عملاء التربية والفلاسفة والمفكرين وعلماء الدين، مستندًا إلى مقولة أنهم رجال ونحن رجال، وأن الزمن الخاص بهم ما دام قد ولى وراح، فيجب أن تذهب معه آراؤهم وأفكارهم، ويقتصر التعامل معها باعتبارها «تاريخًا» مضى وانقضى، قد ندرسه ونفكر فيه، وكأننا نزور متحفًا للآثار والمخلفات التي تركها لنا السابقون، لكن من غير دافع الاستفادة به في التعامل مع الواقع التربوي المعاصر. ومن ثم تنفتح الساحة لما تسفر عنه خبرة الحاضر، وما تشير إليه متطلبات المستقبل.

لكن هذا الفريق نفسه يمكن أن ينقسم إلى فرق أخرى فرعية، بناء على تحديد المقصود بالسلف، إذ قد يرى البعض أن السلف المقصود هنا هم أهل القرون الماضية، والتي بعدت عنا طويلًا، وبالتالي فقد لا يرى مانعًا من الاستناد إلى مفكري عصر النهضة الحديثة وعلمائها من أمثال على مبارك ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد. وقد يرى فريق آخر العكس، معتبرًا أن مفكري عصر النهضة هم نسخة أخرى مما رآه الغربيون، ومن ثم فيمكن أن ندير لهم ظهورنا.

ثانيًا: وقد يرى فريق آخر أن التخلف الذي أصابنا في الحقبة الأخيرة والمستمر حتى الآن، إنما نتج عن تخيلنا عما سبق أن أرساه علماء الإسلام في صدر الإسلام، وأن ما جاءوا به، وفكروا فيه من أسس وتوجيهات وتعاليم وأفكار وأساليب، كان يتسم بالطهر والنقاء، وأن كل الهجوم والنقد الذي يصدر ضد الماضي إنما يتعلق بعصور تالية في التاريخ الإسلامي، وبالتالي، فإن العودة إلى الجذور الأولى إنما هو السبيل الحقيقي، النهج الأولى بالاعتبار من أجل النهوض من كبوتنا الحاضرة.

ثالثًا: وقد يرى آخر أننا جزء من أمة متأخرة، تعيش تخلفًا واضحًا في كثير من المجالات والميادين، نعتمد كلية على ما نستورده من الغرب المتقدم على كافة الصعد والمستويات، ولا سبيل إلى التغلب على حال التخلف، واللحاق بركب التقدم إلا بأن نفعل مثل ما يفعلون ونفكر وفقًا لما يفكرون، وبالتالي يكون التجديد هنا بأن نتبنى آراء وأفكار المربين الغربيين المحدثين والمعاصرين، ونقتبس هذه المستجدات التربوية، في النظم والتقنيات والأساليب والمذاهب.

وفي داخل هذا الفريق نفسه، تتعدد السبل والمسالك، من توجه إلى المدرسة الفرنسية أو الإنجليزية، أو الألمانية أو الأمريكية.

ولأن الغرب ليس واحدًا، فهناك بداخله مذاهب وفلسفات، فقد يرتمى هذا في أحضان النقدية، وذلك في أحضان الظاهراتية، وذلك يميل إلى البنيوية، وقد يظل البعض الآخر متجهًا بعواطفه وتفكيره إلى بقايا الاشتراكية.

رابعًا: وغالبًا ما يكون هناك فريق آخر ينزع إلى (التوفيق)، والاستناد إلى صيغة يحاول من خلالها أن يستند إلى أفضل ما في التوجهات الثلاثة السابقة، وهو الأمر الذي يرفضه أصحاب التوجهات السابقة، ويرمون التوجه الرابع بأنه نزعة إلى (التلفيق) وليس إلى (التوفيق)، اعتمادًا على أن كل اتجاه إنما يستند إلى (نسق فكري) مترابط، كالبنيان الواحد، يشد بعضه أزر بعض، فهو ليس مثل تلك الأشياء المادية التي يمكن أن نختار منها ونأخذ، ولكنه في حقيقة الأمر سلسلة من الترابط المنطقي، إذا أخذت بجزء فلا بد من التسلسل لتأخذ بباقي الأجزاء.

ونرى أن هذا التوجه يعتبر عملية (انتقائية تكاملية)، وهو ما نؤكد على استمرارنا في القول به حتى الآن، وسوف نسعى إلى التذكير بصور تطبيقية لهذا النهج من خلال ما سوف نتناوله من نقاط تتصل بمظاهر أزمة المعرفة التربوية، وسبل التجديد المطلوبة.

 

ثانيًا: مظاهر أزمة المعرفة التربوية

لأننا نعيش– بصفة شخصية– ما يقرب من نصف قرن من الزمان حركة التفكير التربوي وإنتاج المعرفة التربوية، يمكن أن نبيح لأنفسنا الحكم بداية بأن المعرفة التربوية في مصر، بل وفي العالم العربي كله تعيش حال «أزمة». وعلى الرغم من أن وجود أزمة في جسم التعليم مما يوجع ويحزن حقًا، لكن الأكثر إيلامًا وإيجاعًا فعلًا هو أن نجد أن صاحب الجسم، أو المسئولين عنه لا يشعرون بهذه الأزمة، ووجه الخطورة والمأساة هنا أن افتقاد الوعي بأوجه الأزمة والخلل يعني بالضرورة استمرارها، ومن ثم تفاقمها، بحيث يصبح ما كان ممكنًا حله، عسيرًا في مواجهته، وبالتالي فإن أكثر خدمة يمكن أن نؤديها هي المكاشفة والمصارحة بعيدًا بقدر الإمكان عن أية صورة من صور التلفيق أو التهوين أو التهويل.

أما أبرز مظاهر هذه الأزمة، فهو ما يمكن أن نلخصه في النقاط التالية:

1- تيه الهوية:

فكما أن من المعروف أن الإنسان عندما يتحرك ويعمل يكون ذلك في الغالب والأعم، بناء على ما «يراه» بعقله، مع التسليم بإمكان أن يتلون هذا التفكير الناتج عن استخدام العقل بالهوى الشخصي والتحيز القائم على عوامل شتى، كالجنس والنوع والحزبية والعقيدة والمصلحة، وغير هذا وذاك من عوامل، لكن، ومع ذلك، فالتفكير هو «المايسترو» الذي يضبط الإيقاع ويوجه حركة العزف على آلات النشاط المختلفة، وهو الأمر المماثل على المستوى المجتمعي.

ويتجلى هذا فيما لا بد أن يتوافر في المجتمع من «مرجعية فكرية»، قد تكون عقيدة دينية أو مذهبًا فلسفيًا، تمثل إلى حد كبير عمل العقل بالنسبة للإنسان فردًا، وهذه المرجعية الفكرية هي التي تكون ضابطة لحركة الفعل والتفكير التربوي.

إن البعض ربما يخطئ خطأ فاحشًا عندما يخلط بين «التنوع» المفروض في النشاط الفكري والثقافي بحيث يثرى حركة الفكر والثقافة، وبين «التعدد». إن التنوع هو في حقيقة أمره اختلافات في الفروع، أما التعدد المقصود هنا فهو اختلاف في الجذور.

وعلى سبيل المثال، فهناك استقطاب واضح في مصر منذ سنوات بين العلمانيين والدينيين، وإذا كان كل مجتمع في الدنيا يشهد علمانيين ودينيين، إلا أن الأمر في مصر– لأسباب معروفة– وصل إلى حد أن العلمانيين هم المسيطرون في الغالب والأعم على مواقع القيادة الكلية في مجالات السياسة والإعلام والثقافة، وإلى حد كبير، التعليم، بحيث لا يسفر التباين والاختلاف عن مناقشات واجتهادات وحوارات تثري الثقافة والمجتمع، وإنما تصل إلى حل الحرب والإقصاء والتشويه من كلا الطرفين تجاه الآخر، وفي ظل هذه الأجواء تشيع عبارات التخوين والتكفير بين الطرفين.

هنا نجد بعض المواقع الأكاديمية بعض المواقع الأكاديمية التربوية، على سبيل المثال، لا تشجع على بحوث التربية الإسلامية وتحاصرها، وفي المقابل نجد مواقع أخرى تخاصم مستحدثات الفكر الغربي، وثالثة تستمر أسيرة العقل الغربي تتبعه حذو النعل بالنعل، مع الاعتذار لهذا التشبيه، ورابعة تنغلق على حاضرها المحلي: عيناها لا تكاد تبرح موقع أقدام صاحبها.

وعلى المستوى الرسمي، تجد انحسارا مستمرًا لتعليم الدين في مؤسسات التعليم المدني، وخاصة من حيث بعض القضايا (انظر على سبيل المثال إلى حذف كل ما يتعلق بما جاء في القرآن الكريم من كشف لسيئات بني إسرائيل، ولكلمات الجهاد)، بينما تجد على المستوى الشعبي العام إقبالًا على تعلم القرآن والدين، بجهد شخصي، وشيوعًا كاسحًا للتدين، وحتى وإن اقتصر على جانب العبادات.

وكان لهذا أثره لفعل النظرية الخاصة بالفراغ، حيث تنفر الطبيعة من وجود فراغ، مما يدفع قوة أخرى إلى ملئه، وهو ما تبدى هنا بتقدم صور من التعليم المغاير في الهوية، المباين في الفلسفة والمقصد، وهو التعليم الأجنبي، وبالتالي يفرض ألوانًا وأشكالًا من التفكير المناسب، والمعرفة التربوية المتسقة، وربما الناقدة.

 

2- الاستغراق في «الفنيات»:

لعل ما يحدث الآن على الساحة الرسمية في التعليم المصري لأكبر شاهد على ذلك، فالتذبذب في المرجعية الفكرية، دفع البعض إلى ألا يجعل هذه القضية هي محور التفكير والعمل، فإذا بأعلى قيادات التعليم، لا تشغلها فكرة التصور الاستراتيجي العام، بل ربما تنظر إليها شذرًا باعتبارها «فلسفة»، والفلسفة عند هؤلاء القوم ترادف الكلام الغامض أو غير المفهوم أو «الفاضي»، ويهمها بالدرجة الأولى التفتيش على الحضور والانصراف، والالتزام بعدد ساعات العمل، بل ويصل الأمر إلى التفتيش على «الموائد» للبحث عن نظافتها وتتبع آثار ما كان يؤكل عليها، وكذلك ما يمكن حذفه من هذا الكتاب أو ذاك من الكتب المدرسية، بل وإثارة معارك تشغل الرأي العام كله حول ما يسمى بالكتب الخارجية، ولا حديث هناك عن المواجهات الفكرية الكلية لكل هذا وذلك.

إننا لا نستطيع أن ننكر بأي حال من الأحوال أن التعليم، في جانب أساسي منه، له أبعاد فنية، مثل طرق التعليم وما ينبغي أن يتوافر من شروط لوضع هذا المنهج أو ذاك، وتقسيم الدراسة إلى مراحل تعليمية، وتنظيم اليوم المدرسي، وكيفية الإدارة المدرسية.. وهكذا، مما هو جوهري وأساسي، لا صلاح للتعليم بغير مراعاته، لكن الواقف عند هذا الحد هو ممن يمكن إطلاق الوصف الشهير عليه بالشخص الذي يرى الشجرة ولا يرى الغابة.. يقف عند التفاصيل، وتغيب عنه الرؤية الكلية.

ولو فتشنا في الكثيرة الغالبة الدوريات العلمية التربوية العلمية بنشر البحوث التربوية والنفسية، فسوف نجد أن التوجه الغالب عليها هو العناية بجوانب العملية التعليمية الفنية، ونؤكد مرة ثانية وثالثة ورابعة، أن الجوانب الفنية التفصيلية هي مما هو أساسي وضروري، لكن الانشغال بها وحدها هو الذي لا نراه.

وإن أخطر ما يمكن الإشارة إليه هو أن المسألة ليست مجرد غلبة النظر الفني، بل يتعداه إلى هجوم واستخفاف من جانب قطاعات عريضة من التربويين تجاه النظر الفكري، واعتباره «كلامًا في كلام» لا يثمر ولا يغني من جوع! ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن عضو هيئة التدريس المتقدم إلى الترقية، إذا قدم بحثًا يقوم على التنظير وحده، ربما اعتبره القوم «غير بحث»، تحت زعم أن البحث العلمي هو الذي يقوم على دراسة ميدانية تستخدم أدوات البحث الميداني المعروفة، وإن تعطف الفاحص على الباحث المتقدم للترقية، أعطاه الحد الأدنى للنجاح!

لكن، والحق يقال، أن هناك من الباحثين من لا يحسنون أصلًا التناول الفكري، فيجئ هشا بغير معنى أو بغير إضافة وتجديد، تغلب عليه اللفظية والنقل والتكرار، ولو حذفناه من البحث، لا نجده قد اهتز، ما يعطى الفرصة لناقدي التنظير أن يهاجموه ويعتبروه وكأنه «زائدة دودية» فقد وظيفتها.

 

3- غياب النقد التربوي:

من يتأمل الحركة الأدبية والفنية بصفة خاصة يمكن له أن يلحظ نشاطًا لا بأس به في حركة النقد، وإن لم يكن بالقوة التي كان عليها منذ العشرينيات وحتى الستينيات من القرن العشرين، لكنه على أية حال يصبح حافزًا جيدًا يتيح الفرصة لوجهات نظر مختلفة في العمل الواحد أن تبدى رأيها، ويتيح الفرصة لصاحب العمل أن يرى صدى ما رأى وعمل على المتخصصين، فيعرف: فيما أصاب؟ وفيما أخطأ؟، فيسعى إلى تعزيز هذا والتقليل من ذلك، أو ربما يزداد تمسكًا بما رأى وعمل، فيدفعه هذا إلى مزيد من الإنتاج على الطريق نفسه، وتكون النتيجة العامة أن تشهد الساحة الأدبية والساحة الفنية نشاطًا وثراء ونموًا.

شيء مثل هذا كنا نود أن نراه في عالم المعرفة التربوية ...

ولعل بعضنا يذكر المعارك الضخمة الواسعة التي دارت بين طه حسين وإسماعيل القباني، فيما عرف تاريخيًا بمعركة الكم والكيف في التعليم، وكيف أدت هذه المعركة إلى أن تثرى المعرفة التربوية بالكثير من آراء طه حسين في العدل التربوي، وفي الدور الثقافي للمعرفة التربوية، وفي إعداد المعلم، وكيف أدت هذه المعركة إلى أن يعمق إسماعيل القباني وجهة نظره بالمزيد من الأفكار، والكثير من الأدلة والبراهين، ويجر تلاميذه إلى المساهمة في المعركة، وكذلك طه حسين، فإذا بالساحة التربوية طوال الأربعينيات، وبعضًا من أوائل الخمسينيات تموج بكثير من الآراء والأفكار وتباين واختلاف زوايا الرؤية، فكأن قارئ المعرفة التربوية أمام مائدة ضخمة عليها ألوان شتى من الطعام يستطيع أن يختار منها ما يميل إليه ويحبه، فيأكله فيزداد صحة وعافية.

المؤلم حقًا أن عدد لعلماء التربية وأستاذتها في هذه الفترة المشار إليها سابقًا كانوا يعدون على أصابع اليدين، وربما يزيدون عن ذلك قليلًا، بينما هم الآن لا نقول مئات، بل أصبحوا آلافًا، إذا وضعنا في الاعتبار كثيرين حصلوا على الدكتوراة، لكنهم لم يصبحوا أعضاء في هيئة التدريس بكليات التربية أو مراكز البحث التربوي، ومع ذلك، فلا أثر هناك لما ننادي به من نقد تربوي.

والغريب أيضًا أن الساحة الآن مزدحمة بقنوات إنتاج المعرفة التربوية، من دوريات، وبحوث، ورسائل ماجستير ودكتوراة، ومؤتمرات، وجمعيات علمية، وهي بهذا تثري بالفعل المعرفة التربوية، لكن هذا الذي نشير إليه من حيث «النقد التربوي»، يظل هذه القنوات، وإن كان يعوض هذا أن وسائل النشر العام الثقافية كانت تفتح أبوبها للقضايا التربوية، وهو الأمر الذي لا تشجع عليه في الوقت الحالي قنوات البث الثقافي، وإن كنا لا نستطيع أن نلقي عليها وحدها اللوم، فلربما لا تتلقى هي كتابات من أساتذة التربية وعلمائها.

 

4- التقوقع التربوي:

ونقصد بالتقوقع هنا هو تركيز الاهتمام على ما يتصل بنظام التعليم نفسه، كما يتبدى في مراحله وسياساته ومناهجه وطرق تدريسه ومشكلاته، والمقارنة بينه وبين غيره من النظم وهكذا.

ونحن نتوقع من القارئ أو السامع أو كليهما معًا أن يبادرًا بالتأكيد بأن هذا هو المفروض، وهو أمر طبيعي، ونحن أيضًا نؤكد على هذا، ووجه الفرق أننا لا نريد أن نكتفي بذلك، فليس هناك تربوي إلا ويعلم جيدًا ما اصطلح على تسميته بالتعليم غير النظامي، وليس هناك تربوي إلا وهو يعلم علم اليقين أن هناك معنى عام لا بد من التذكير به للتربية بأنها تعني التنمية الشاملة المتكاملة للشخصية الإنسانية، وهي بهذا المعنى تتسع ساحتها لتضم إلى قضاياها ومشكلاتها، ما يتصل بالثقافة والإعلام والدعوة.

ونحن لا ننكر وجود بحوث ودراسات تناولت بعضًا من هذه المجالات، بل لقد أشرفنا نحن على دراسات وبحوث تتعلق بهذه المجالات، لكننا في الوقت نفسه نؤكد أن ما تم ويتم، لا يحتل الوزن المناسب له ضمن المعرفة المجتمعية على وجه العموم، ولعلنا يمكن أن نشير إلى مجالات قلمًا تحظى بما تستحق من دراسات وبحوث.

الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، بحيث نجد دراسات وبحوث عن مشكلات وقضايا ملايين الفلاحين، من زوايا تتصل بالساحة التربوية، مثل الاتجاهات والأساليب التربوية الشعبية الشائعة بينهم، وبالمثل بالنسبة للعمال، وكذلك بالشرائح البورجوازية والأرستقراطية، والمقارنة بين هذه الطبقات والشرائح فيما يتصل بالخدمة التربوية المتاحة لأبنائهم، وأثرها في تحديد ما يحصلون عليه من نتائج، وما يتاح لهم من فرص عمل، فضلًا عن الفرص التعليمية المتاحة لكل شريحة وطبقة وأثر هذا الوضع الطبقي على حال التكافؤ التربوي أو كما نعبر نحن «العدل التربوي».

وهناك قطاعات في الساحة الأدبية بحاجة إلى كثير من البحوث والدراسات، ولعل أبرز ما يمكن أن نسوقه هنا هو ما يتصل بما هو معروف بالأدب الشعبي، والفن الشعبي، سواء الأمثال الشعبية، أو الأغاني الشعبية، فهي أكثر شيوعًا بين الناس، وبالتالي أقوى تأثيرًا على التفكير والعواطف، بما تحمله من قيم ومفاهيم، وما يحكمها من اتجاهات. وهناك الساحة الشعرية، والساحة القصصية، فكلًا منهما ليسا مجرد خيالات أديب، فالأديب نفسه جزء من ثقافة وعضو من مجتمع، وبالتالي فهو، من حيث لا يدرى يستبطن ما يتشربه من هذه الثقافة ويتأثر بذلك المجتمع، ومن ثم تحتاج أعمال الأدباء إلى دراسات تحليلية لاستنباط ما تحمله من قيم وتتضمنه من اتجاهات يمكن أن تؤثر في التكوين الشخصي، بل وهناك من الأعمال الأدبية ما يحمل جوانب تعليمية، وقد قمنا نحن بالفعل ببعض الدراسات لرواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي وثلاثية نجيب محفوظ، وكذلك مقال لم ينشر بعد عن التعليم في رواية شيكاغو لعلاء الأسواني .. وهكذا.

أم الساحة الفنية، فحدث فيها ولا حرج، حيث قلما يخلو من تأثيرها مواطن، سواء بالنسبة للأفلام السينمائية أو المسرحيات أو الأعمال التلفزيونية أو الأغاني، فملايين الشباب يعشون دائما وساعات طويلة من نهارهم وليلهم يستمعون إلى أعمال تنسب إلى الفن، لكنها تمثل فنا رديئًا هابطًا، فتساعد على التسطيح والتسيب والفقر الوجداني وجدب الأخيلة والتصورات العقلية.

إن كل هذه القطاعات هي مما يمكن أن نسميه «بالتربية المجتمعية العامة» أو «التربية الثقافية»، المختلفة كثيرًا عما يجرى في مؤسسات التعليم النظامية، ومن أسف أنها ربما تكون أكثر تأثيرًا وأكثر جذبًا، لو اقتحمها التربويون فسوف نشعر بأن الدنيا التربوية قد تغيرت وأثرت بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

 

5- كلٌ في فلك يسبحون:

فإذا كان «التقوقع» المشار إليه في البند السابق خاصًا «بالموضوع» و «القضية» و «المجال» فإننا هنا نقصد صورة أخرى من التشرذم على مستوى الأشخاص أنفسهم.. علماء التربية وأساتذتها.

فوفقًا لاتجاهات تطور المعرفة على وجه العموم، كان من الطبيعي أن تعرف المعرفة التربوية طريقها إلى التفريع المعرفي، فتظهر تخصصات لم تكن موجودة، وتنفصل تخصصات كانت مدمجة مع أخرى، وبالتالي تظهر جمعيات علمية ودوريات تتمحور حول التخصص أو ذاك.

بطبيعة الحال، فتلك سنة محمودة، وذلك تطور حتمي..

لكن، إزاء هذا التشرذم المعرفي والتشظي التربوي، هناك دعوة أخرى بدأت منذ فترة غير قليلة تنبه على ما يعرف باسم «وحدة المعرفة»، دون أن يكون هناك تناقض بين الأمرين.. التشظي والتفريع المعرفي، والتوحد والتكامل، فالشجرة تنمو وتكبر، وتتعدد فروعها وأغصانها، لكنها، مهمًا علت وتفرعت، تظل مرتبطة بجذر واحد.

هكذا المعرفة التربوية، مثلها في ذلك مثل المعرفة القانونية والمعرفة الأدبية، وهلم جرًّا، تتعدد وتتنوع وتتشظى وتتفرع، لكنها تظل مرتبطة بمصب واحد، ألا وهو الإنسان.. شخصيته.. سلوكه.. تفكيره.. خياله.. جسده، وهكذا.

ومؤدى هذا بالنسبة لنا هنا، هو، إذا كانت هناك معرفة متخصصة، تتصل– مثلًا– بتدريس العلوم الاجتماعية، بل وبكل من فروع هذه العلوم، كل على حدة، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للتربية العلمية، والتربية اللغوية.. وهكذا بالنسبة للتخصصات التربوية، إلا أن هناك قضايا كلية عامة لا تنحبس في تخصص بعينه، مثل: الكتاب المدرسي.. الامتحانات.. علاقة التعليم بالحياة.. علاقة التعليم بالعمل.. التعليم والسلطة.. الخ، أي جمعية من الجمعيات التربوية القائمة بأي منها؟

هناك مراكز بحثية، ربما تخرج عن دائرة التخصص التربوي الضيق، مثل المركز القومي للبحوث التربوية والتنمية، أو ما يشبهه قد يرى البعض أنها يمكن أن تتصدى لمثل هذه القضايا، لكن تساؤلنا الذي كررناه في أكثر من مناسبة، ولن نمل من تكراره، طالما لم يجد أذنًا مصغية، هو: لماذا لا تشكل الجمعيات بينها ما يمكن أن نسميه اتحادًا تربويًا عامًا؟، تكون مهمته التصدي لقضايا التعليم الكلية العامة، وكذلك ما يتصل بما أشرنا إليه من مجالات تتصل بالدعوة، والثقافة، والإعلام؟

ونأسف إذا قلنا أن الأمر قد تحول في بعض الأحيان إلى ما يشبه التعصب القبلي الذي حكم المجتمع العربي في عصور قديمة، ومما زالت ذيوله قائمة في بعض الجيوب، فإذا بهذا يظهر، حتى في هذا المجال المهني الأكاديمي، عندما طلب المجلس الأعلى للجامعات أن يكون هنا تقييم للدوريات التربوية التي تنشر البحوث التي يتقدم بها المدرسون والأساتذة المساعدون إلى الترقية، فإذا بالمعايير الموضوعية تغيب، لتفسح المجال للتسلط والنفوذ والعلاقات الشخصية، فتكون شكاوى وعرائض شكوى، وتفقد الساحة التربوية بعضًا من التقدير والاحترام، سواء بين بعض فصائلها، أو بينها وبين تخصصات أخرى لها وجودها القوي في المجلس الأعلى للجامعات.

وتظهر لنا آفة أخرى، ليست في حد ذاتها أيضًا من صنع المجتمع التربوي بقدر ما هي من آفات الثقافة المجتمعية، ألا وهي ظاهرة «الشَّاكِلِيَّة» وهي الظاهرة التي قد تكون مفهومة ومعتبرة في المجال السياسي، مثلًا، وكذلك الاقتصادي، باعتبار ما يحكمهما من فلسفة المصلحة الشخصية بصورة من الصور، أما أن تكون «عادة» كذلك في مجتمع أكاديمي فهو الأمر غير المفهوم حقًا، ونتائجه مؤسفة إلى أقصى ما يمكن تصوره من أسف.

فهذه فئة– مثلًا– ذات توجه كذا من التوجهات المذهبية، نجدها عندما يكون أحدها مسئولًا أو قائمًا بأمر أو رئيسًا لفريق بحثي، لا يدعو إلا من هم على شاكلته، وربما يكون على قدر من الذكاء بحيث يحرص على وجود طرف مغاير بحيث يكون ذلك ذرًا العيون، مع الحرص على أن يكون هذا الطرف المغاير من غير المقاتلين المذهبيين.

إن آفة ذلك أنه يحرم المعرفة التربوية من التغاير والتنوع، ويجعلها مما يسير في طريق ذي اتجاه واحد، بينما إتاحة الفرص للتفاعل والحوار بين الأطراف المتغيرة من شأنه أن يثري المعرفة أكثر، حتى لو انتهى الأمر بأن يبقى كل طرف على رأيه، فهناك مكسب مهم وهو أن يكون كل طرف على دراية بما يراه الآخر، حيث أن الأمر كثيرًا ما يشير إلى أن المتغايرين لا يقرأ بعضهم لبعض، ولا يسمع بعضهم إلا إلى بعضهم.

 

6- الجسور التي تهدمت:

وهي الجسور التي من المفروض أن تكون بين الدول العربية. والحق أن القارئ لو قرأ نصوص الاتفاقيات والمعاهدات الثقافية التي عقدت بين الدول العربية منذ قيام جامعة الدول العربية عام 1945، سوف يهوله قدر التراجع المخزي حقًا، المؤسف فعلًا.

في فتر البداية هذه كانت الدول الأوروبية تنهي آخر حرب بينها وبين بعض، بعد عدة قرون من التقاتل وإزهاق أرواح الملايين من مواطنيها، وتدمير المدن والمنشآت وهدم الجسور، لكنها تعلمت الدرس، وأيقنت أن التعاون والعمل المشترك والسعي إلى الوحدة، فيه مصلحة للجميع، مهما تغايرت اللغات والمصالح والثقافات، فإذا بها كل يوم تخطو خطوة إلى تحقيق حلم الوحدة.

هذا في الوقت الذي لا يمضي فيه زمن الآن إلا ويتراجع حلم الوحدة بين مجموعة الدول العربية التي لم تتقاتل إلا نادرًا، وتجمعه لغة واحدة وتاريخ واحد، ومعظمها ينتمي إلى دين واحد... بل وأصبح الحديث عن الوحدة وكأنه حديث عن أساطير الأولين.

نحن لا نقصد حديثًا في السياسة، وإن كانت هي التي فرقت ومزقت، ولكننا نقصد الآثار التي انعكست على المعرفة التربوية.

وفى كل اللقاءات التي أتيحت لي منذ أول مؤتمر حضرته للتربويين العرب في بغداد عام 1975، وما تلاه من عشرات اللقاءات، كنت ألمس عن قرب كيف تتلاقى العقول التربوية وتتفاعل الثقافات الإقليمية، وتمتد جسور لتؤلف وتجمع، فيستفيد هذا من ذاك، ويكفي أن أقول أنني على سبيل المثال، كنت من المغرقين في التوجه المحلى «المصرية»، فإذا بتحول فكري كبير يحدث لي ولاهتماماتي التربوية المختلفة منذ هذا المؤتمر الأول الذي حضرته ببغداد عام1975، وتلاقيت لأول مرة مع علماء تربية وأساتذة من السعودية والعراق واليمن ولبنان وفلسطين وسوريا، لألمس التنوع، كأقوى ما يكون، وأشهد الثراء المترتب على ذلك.

وكان ما كان مشروعات تربوية بلغت غاية الروعة في التماسك المنطقي، والعمق الفكري، والصدق العلمي، والتوجه المجتمعي، لكن، تبرز هنا مقولة الشيخ محمد عبده: لعن الله السياسة، وكل ما يتصل بها.. شكلت الخلافات والمصالح الضيقة للبعض، والانخراط في تبعيات خارجية مؤسفة وحرص على مواقع سلطة، فإذا بها تنتهي إلى أن يتجه كل بلد عربي إلى التقوقع حول ذاتها، يمكن أن تنفتح أبوابه على مصراعيها لما يأتي من البلدان الأجنبية، لكن الخوف والشك والقلق يسيطران على الموقف لو كان الهواء القادم، جاء من دولة عربية أخرى!

وها نحن في أيامنا الحالية، نشهد جهودًا تبذل لتوثيق العلاقات بيننا وبين من نهبوا واحتلوا أرض الأقصى، وقتلوا عشرات الآلاف من أبنائنا- ولا يزالون-، في الوقت الذي تبذل فيه جهود حثيثة لتأجيج الخلافات المذهبية بين المسلمين، ليزدادوا فرقة وتبعثرًا!

صحيح أن هناك المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم العربية ما زالت قائمة، وتخرج لنا مشروعات واستراتيجيات وخططًا، لكنها في الغالب والأعم، وكأنها «تسديد خانة»، لا أثر لها حقيقي في حركة الواقع التعليمي، وبالتالي، فقد نرى معرفة تربوية تجمع بين عقول عربية متعددة، لكنها لا تستمر في العيش حية فعالة، بل سرعان ما توضع في «الثلاجة»، أو في المتحف لتفيد الأمين العام عندما يكتب تقريره السنوي عن إنجازات الجامعة، ليقدمه إلى الملوك والرؤساء.

 

7- تشوهات التكوين:

إذا كان «المصنع» الذي يقوم بإنتاج السلعة تشوبه نواقص وتحيط به أخطار، وغير مكتمل العناصر الأساسية، فلا ينتظر منه أن ينتج لنا السلعة المطلوبة بالمواصفات المنشودة، وهو الأمر الذي يتخذ وضعًا أخطر بالنسبة للباحث التربوي الذي يناط به أن ينتج لنا المعرفة التربوية.

فقد درجت العادة منذ عدة سنوات أن يتم اختيار المعيدين وفقًا لنظام التكليف، الذي يحتكم إلى مجموع الدرجات، ووجه السلب في هذا في كليات التربية، أن المكلف يدرس أربع سنوات، منها ما يساوى ثلاث سنوات مقررات في علوم التخصص، من لغات وفيزياء ورياضيات.. وهكذا، وما يساوى سنة دراسية علومًا تربوية ونفسية، وبالتالي فقد تكون درجاته في مواد التخصص مرتفعة جدًا، بينما لا يكون كذلك في العلوم التربوية والنفسية، ومع ذلك يتم تكليفه معيدًا في قسم تربوي، وتلك أولى الأسس الهشة التي يرتفع فوقها البناء البحثي.

ومن ناحية أخرى، فقد كان يشترط من قبل، للحصول على الماجستير في العلوم التربوية أن يكون الباحث قد مارس مهنة التدريس مدة عامين على الأقل، والتي هي هنا مثل تدريب دارسي الطب في المستشفيات، وتم إلغاء هذا اكتفاء بما يتلقاه الطالب من تربية عملية أثناء الدراسة، وجميعنا يعرف أن هناك فرقًا شاسعًا بين الخبرة المتحصلة من التربية العملية، والخبرة المتحصلة من أن يكون الإنسان قائمًا بمهمة التدريس كمدرس بالفعل في المدرسة، وبذلك يختل أساس آخر من أسس التكوين القائم على الممارسة الميدانية التي هي النبع الأساسي لقضايا التعليم ومشكلاته.

وهناك الكثير مما يمكن أن يشار إليه من حيث ممارسات البحث العلمي في الدراسات العليا التربوية، ومما تتسم به من شكلية وسطحية، بحيث يتم التسجيل على غير أساس راسخ من التدريب على البحث العلمي الحقيقي.

ومعروف الآن أن الإقبال على القراءة بين الشباب قد تضاءل إلى حد كبير، بحيث يتم التسجيل للباحث وهو على هذا الحال، فإذا به ينحصر في القراءة فيما يتصل ببحثه المسجل فقط، بينما المعرفة التربوية، بحكم طبيعتها، لها مسالك ودروب وجسور مع مجمل المجالات الثقافية والمعرفية الأخرى، وخاصة بالنسبة لمجالات مثل أصول التربية، والتربية المقارنة، بل ونكاد أن نؤكد هذا أيضا بالنسبة لبعض فروع علم النفس، وخاصة علم النفس الاجتماعي.

ونظرًا للتقارب الشديد بين الكثير من العلوم التربوية، فإن هذا يتيح أمرًا مؤسفًا، حيث تتميع الحدود بين التخصصات في الإشراف، فإذا بمن لا شأن له– مثلًا– بالتربية الإسلامية يشرف على رسائل فيها، وإذا بمن لا شأن له بالتخطيط التربوي، يفعل الشيء نفسه، فإذا تذكرنا القاعدة المعروفة أن فاقد الشيء لا يعطيه، أدركنا مدى الفقر العلمي الذي يمكن أن يعيش الباحث تحت ظلاله.

وفضلًا عن ذلك، فهناك بعضًا من أعضاء هيئة التدريس من يتكالبون على الإشراف، فإذا جاءت مرحلة القراءة والتقييم «دوَخ» الباحث وراءه شهورًا طويلة، صارخًا شاكيًا من ضيق الوقت وكثرة المشاغل، ولا يستطيع أحد أن يسأله: ما دمت مشغولًا إلى هذه الدرجة فلم التكالب؟!

وهناك بعض آخر لا يبذل الكثير من الجهد في فحص الرسالة والجلوس مع الباحث لتوجيهه وتصويب خطأه.

وأخيرًا نجيء إلى الطامة الكبرى التي أصبحت تسيطر على مناخ «الترقيات»، فحدث فيها ولا حرج، وأبسط ما يمكن أن يقال هو ما أصبح حتمًا حدوثه من إجراء حركة اتصالات بالمحكين للتوصية على هذا أو ذك، حتى إن البعض من ذوي الضمير العلمي الذي ما زال حيًا أصبح يمارس– اضطرارًا– هذا، لأن السلوك العام أصبح هكذا، وبالتالي يمكن لباحث ألا يوفق، لا لشيء إلا لأنه لم يجد فرصًا للتوصية عليه، في الوقت الذي يمكن أن يترقى هذا أو ذاك لأن المُوَصُّون من ذوي الثقل الكبير، موقعًا أو علمًا.

 

8- الانقطاع المعرفي عن الينابيع:

فللمعرفة التربوية ينابيع تتفجر منها مياها لتجري بين الناس، من ثم يصبح انقطاع السبل بين هذه الينابيع الأساسية خطرًا يهدد نوعية المعرفة المنتجة.

فمن المعروف أننا ما زلنا حتى الآن مستهلكي حضارة، غير مساهمين في حركة إنتاجها، مما يفرض أن تكون جهة الإنتاج مصدرًا أساسيًا في التزود بالقدر الضروري من الأساسيات، وكذلك المستجدات، لكن السياسة العامة للدولة مع الأسف الشديد، قد ضيقت إلى أضيق حدود ممكن تصورها من فرص الابتعاث إلى الخارج، مما حرم كثيرين من فرص تجويد التكوين.

وربما يعوض من هذا توافر مصادر المعرفة الخارجية على الشبكة العنكبوتية، وهو الأمر الذي لا بد أن يحظى بالتقدير، لكن هناك ما يمكن تسميته «بالمناخ» والحياة العامة، حيث ممارسات أساليب التفكير والتعامل والتفاعل ومواجهة القضايا والمشكلات، مما يصعب تحصيله من خلال الاكتفاء بالاطلاع على ما استجد من معارف على الشبكة العنكبوتية فقط.

وإذا كانت المعرفة الأجنبية متوافرة الآن وبكثرة، إلا أن الأمراض الثقافية والاجتماعية الشائعة تقلل من فائدة هذا، فهناك من يلجؤون إلى مكاتب متخصصة للترجمة، والتي قد لا يتوافر فيها مترجمون محترفون يكونون على دراية بأساسيات التخصص، فتجنح الترجمة إلى الجوانب اللغوية وحدها والتي يمكن ألا تؤدي المعنى الحقيقي، بل ربما تنحرف به في اتجاه آخر لا يوصل إلى المنشود.

وهناك البعض ممن يلجؤون إلى تكليف طلاب الدراسات العليا بترجمة بعض الكتب أو الأبحاث التي هم– من أعضاء هيئة التدريس– بحاجة إلى الاطلاع عليها، ويقيمون هذا ضمن أعمال السنة، فيرصع الباحث العضو دراساته بالمراجع الأجنبية، دون أن يكون له فضل في ذلك.

وإذا كان هذا يشكل انقطاعًا عن مصادر المعرفة الأجنبية المستحدثة، فمن العجيب– وقد لا يكون عجيبًا في ظل المتغيرات المعاصرة– حقًا أن يكون هناك انقطاع آخر عن ينابيع المعرفة الماضية.

إننا لسنا في حاجة إلى البرهنة على ما هو معروف من أن الطريق العلمي هو بطبيعته «تراكمي»، يبني اللاحق على ما توصل إليه السابق، مما يوجب الوعي بما فعله السابق، لكن هذا مفتقد المعرفة التربوية، وإن كنا لا ننكر أن هناك فئة تعاني من الوجه الآخر للمرض، فإذا بها تغرق إلى أذنيها في الماضي تستمع به، دون محاولة إلى تنفس ما جَدَّ من هواء وما استُحدِث من أساليب ومناهج وأفكار.

ولن نذهب بعيدًا في التاريخ التربوي، فننعى ما هو قائم من جهل به، وخاصة عصور الازدهار الحضاري العربي الإسلامي، ولكنا نقصد الماضي القريب، حيث كان الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده وساطع الحصري والقباني ولطفي السيد وطه حسين، إلى غير هذا وذاك من رواد النهضة العربية في العصر الحديث، حيث تعاني المعرفة التربوية من جهل بجملة جهد هؤلاء في المعرفة التربوية، إلا إذا استثنينا بعض رسائل ماجستير ودكتوراة قد أنجزت عن فكر هؤلاء، إذ لم يؤد هذا إلى تنشيط الذاكرة التربوية الوطنية العامة الكلية، ولا أدى إلى محاولة البناء على ما سبق.

 

قبسات نور

لا مشكلة بغير حل، ولا عقبة، دون أن يكون هناك ما يزيحها ويفتتها، لكن المشكلة تكمن دائمًا في: توافر إرادة التغيير! حتى مع التسليم بأن كثيرًا مما أشرنا إليه يتعلق بقوى كبرى في المجتمع، مما لا سبيل للتربويين أن يفعلوا شيئًا إزاءها، لكننا نؤكد مرة ثانية وثالثة إيماننا الراسخ بأن البداية لا بد وأن تكون من أصحاب الشأن أنفسهم، ذلك أن الله لن يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وتغيير النفس لا يحدث إلا إذا توافرت معه إرادة قوية.

لكننا نستدرك هنا بالتأكيد على الوجه الآخر المكمل للقمر، ألا وهو أن الإرادة المقصودة هنا هي «الإرادة الجماعية».. الإرادة الفردية هي البداية، وهي الأساس، لكن: «ما استعصى على قوم منال، إذا الإقدام كان لهم ركابًا»؛ كما أرشدنا إلى ذلك شاعرنا العظيم أحمد شوقي، ومن قبل جاء في الحكمة الإسلامية أن «الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية منها»، وهو الأمر العسير في الثقافة العربية على وجه العموم، وفي الثقافة المصرية على وجه الخصوص، فقد عرفنا بالسلبية حتى شاع مثال للتنديد بحالنا في هذا، الذي يتواجد حتى في الحب، فيغنى المصري: «يا مين يجيب لي حبيبي..» فيرد عميد الاحتلال البريطاني (كرومر) في أوائل القرن العشرين ساخرًا، ومعقبًا بتساؤل: «فلماذا لا يهرع هذا المحب الولهان فيتحرك بنفسه بحثًا عن حبيبه والوصول إليه؟».

ومن هنا يمكن أن نشير إلى الخطوات الآتية، سعيًا على طريق التغلب على ما أشرنا إليه من مظاهر تأزم، ومن ثم تنشيط العمل المعرفي التربوي وإثرائه وتجويده:

  • إذا كان تحديد الهوية والإطار المرجعي أمرًا جوهريًا بالنسبة لتنشيط التفكير التربوي وإثرائه، فليس هناك مع الأسف الشديد ما يمكن أن نوصى به في هذا الشأن، لأنه شأن مجتمعي يتعلق بالقيادة السياسية. ولو تذكرنا ما كان يرجى على الأرض المصرية أيام الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فسوف يتأكد لنا أن تبنى القيادة السياسية، بقوة وحزم، لمشروع حضاري قومي أو وطني، يشكل مهمازًا لحركة الشرائح والفئات المختلفة لكي يثرى كل طرف، من زاوية اهتماماته وتخصصه، هذه الرؤية الحضارية، ويشعر الجميع في نهاية الأمر بأنهم مثل أعضاء فريق موسيقى، تحكمهم «نوتة موسيقية» واحدة، وإن تعدد العازفون، وتنوعت الآلات الموسيقية.
  • لا بد أن يتنادى التربويون لتكوين ما يمكن تسميته باتحاد الجمعيات التربوية المصرية حيث يختص بالقواسم المشتركة بين الجمعيات العلمية المختلفة، من قضايا ومشكلات تربوية، والتي أشرنا إلى أمثلة لها في الصفحات السابقة. وميزة مثل هذا الاتحاد أنه يحافظ على النزعة الغالبة لدى كثيرين بأن يكون هذا وذاك رئيسًا لمجلس إدارة جميعه، ومن ثم فهذا الاتحاد هو أشبه بما يسمى في عالم السياسة بالاتحاد الكونفدرالي الذي يحفظ لكل دولة رئاستها ودستورها، والكثير من مظاهر التفرد والاستقلال وحرية الحركة، ونقترح أن يتم اختيار الرئيس للاتحاد دوريًا من بين رؤساء الجمعيات، وإن كان الأفضل هو الانتخابات، لكن تجربتنا في هذا الشأن مريرة مع الأسف.
  • تحتاج لجنة الترقيات إلى التحديث والتجديد في المضمون، لا في مجرد التكوين والإجراءات كما يحدث عادة، ومن سبل التجديد المطلوبة أن تدخل الأعمال المترجمة في معايير التقييم، إذ من شأن هذا أن يشجع حركة الترجمة التربوية التي تكاد أن تكون متوقفة، على أن يوضع لمثل هذه الترجمات مجموعة من المواصفات التي هي لزوم المترجم– مثلًا– بالتعقيب والمناقشة والمقارنات في الهوامش، أو في آخر كل فصل من فصول الكتاب، بحيث لا يقف دور المترجم على مجرد النقل من لغة إلى أخرى، ولا بد من أن يدخل ضمن معايير تقييم المجلات التربوية، أن تكون المجلة حاوية لمقال أو رؤية، في كل عدد لواحد أو أكثر من كبار الأساتذة حتى لا تقتصر المجلة على بحوث الترقيات، المعروفة بالتزام الشروط الفنية، دون حرص على تعميق رؤى فكرية أساسية. وكذلك نرى أن يكون من معايير التقويم للمجلة أن تضم زاوية تقوم على النقد، ويحبذ أن يكون كاتبها من كبار الأساتذة حتى يكون متحررًا من أي شكل من أشكال الحرج التي قد يستشعرها عضو هيئة التدريس، وخاصة الذين ما زالوا ينتظرون الترقية.
  • العودة إلى نظام الإعلان في اختيار المعيدين، وبحيث اشتراط الحصول على الدبلوم الخاصة، وأن يكون المعيار الأساسي خلال سن دراسة المتقدم كلها هو درجاته في المواد التربوية، لا مجرد المجموع العام.
  • أن يلزم كل قسم أعضاءه بتسكين كل منهم في تخصص بعينه، مع وجود بدائل، لكن حيث يكون اختيارًا أول، ثم أقرب تخصص له اختيارًا ثانيًا، ويراعى الالتزام بهذا في الاختيار عند الإشراف وعند المناقشة.
  • العودة إلى اشتراط يقضي بأن من يُعَيَّن في أية كلية للتربية أن يكون قد مارس مهنة التدريس مدة عامين على الأقل قبل الحصول على درجة الدكتوراة، حيث يساعد على هذا الآن شيوع نظام العمل بعود في وزارة التربية، إذ أن هذا ضروري لضمان توافر الخبرة العملية في الممارسة التعليمية، ومن ثم عدم الاكتفاء بما يسمى بالتربية العلمية.
  • بل إننا لنتمنى بأن يكون الانشغال بالإشراف على التربية العملية شأنًا إجباريًا لكل أعضاء هيئة التدريس، أيًا كان تخصصهم، تحت إشراف وتنظيم قسم المناهج، فالتربية العملية لا ينبغي أن تنحصر في عملية التدريس، فهناك جوانب إدارية، وهناك حياة اجتماعية وثقافية، وهناك أهداف للتعليم، وهناك تفاعلات اجتماعية ونفسية في المجتمع المدرسي، ذلك أن انخراط الجميع في أمر مثل هذا يعقد الصلة بين ما يتحدث فيه المربي الباحث ويكتب وبين حركة الواقع وعالم الممارسة العملية، ولا يقتصر أمره على مجدر البحث، حتى ولو كان ميدانيًا.
  • وإذا كان حرص شخص ما على اشتراط اجتياز اختبارات متعمقة في اللغة الإنجليزية بالنسبة لكل من يريد مواصلة الدراسات العليا والبحث العلمي التربوي، فإننا نأمل أن نرى جهدًا موازيًا لهذا من حيث إتقان اللغة العربية، التي تراجع مستوى الباحثين فيها تراجعًا مخيفًا، بحيث أصبحت عباراتهم ركيكة في بعض الأحيان، فضلًا عما أدى إليه هذا من انقطاع الأجيال الحديثة عن قراءة أعمال كبار الأدباء والمفكرين والفلاسفة العرب والمسلمين، لا في عصور الازدهار الحضاري العربي الإسلامي فقط، بل امتد هذا إلى عصر النهضة العربية الحديثة.

وبعد.. إنها بعض قبسات لا تقول كل شيء، فالكلمة النهائية الجامعة لم تُقَل بعد، ولا يقدر على قولها فرد واحد، مهما عظمت قدراته، ولكن يستطيعها أولو العزم من الجمع من المفكرين والعلماء والباحثين.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم