لقد خَلَّفَ المسلمون في القرون الستة الأولى تراثًا تربويًا فكريًا متميزًا، وتعد معرفة هذا التراث ومحاولة الاستفادة منه من ضرورات هذا العصر الذي نعيشه، وذلك من أجل تحديد هويتنا لأن من لا ماضي له لا هوية له. فالتربية مجال واسع يشمل كل كيان الإنسان، وكل جوانب حياته، ولا ينحصر في بعض المواعظ أو الدعوات إلى سلوكيات معينه للتحلي بمكارم الأخلاق، وإن كان هذا يشكل أساسًا مهمًا في العملية التربوية.
وفى دراسة بعنوان: «التربية عند الراغب الأصفهاني»، للأستاذ الدكتور صلاح الدين محمد توفيق، أستاذ أصول التربية، كلية التربية- جامعة بنها، هدف إلى التعرف على الفكر التربوي عند الراغب الأصفهاني، وإبراز مجالات التربية وأهدافها والتي جاءت في كتاباته وذلك من أجل محاولة الاستفادة من فكره في عصرنا الحاضر.
الرجل وعصره
لم يحظ الراغب باهتمام كبير من أصحاب التراجم والسير لذلك ورد التناقض ابتداءً من اسمه فقد اشتهر الراغب الأصفهاني بلقبه، فكثر الاختلاف في اسمه، والأشهر أن اسمه الحسين، ولكن أغلب المصادر التي ترجمت له اتفقت أنه: أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني المعروف بالراغب.
لم تذكر كتب الطبقات والتراجم شيئًا ذا بال عن مولده ولم يذكر بعضهم عنه شيئًا على الإطلاق، ولكن بعض المراجع تذكر «أنه عاش ببغداد وأن أصله من أصفهان»، ونلحظ من خلال الترجمات التي عَرَّفت بالراغب الأصفهاني أن حياته ومراحلها اكتنفها غموض كبير، وكثير من الذين ترجموا له اعترفوا بهذا. ولكن بعض العلماء قد فسر سر الغموض الذي اكتنف حياته بأن كُتَّاب طبقاتِ مذهبه الفقهي هم الذين لم يترجموا له، وهو يعزوا هذا إلى عدم لجوئه إلى سلطان أو رجال الدعاية في عصره، وغاية ما وصل من أخباره أنه كان صاحب حديث ولغة وشعر وأدب وأخلاق وحكمة، وأنه عارف بعلوم الأوائل وغير ذلك، وأنه كان مقبولًا عند العامة والخاصة، ومن أئمة السنة، وحكيم وأديب واسع الاطلاع، حَسَن التصنيف تمتاز كتبه بالجمع الواسع البارع وحسن الاختيار والذوق، مع دقة الملاحظة.
كما اختلف في اسم الراغب، وعقيدته ومذهبه الفقهي وعصره، كذلك اختلف في تاريخ وفاته:
فالسيوطي ذكر أنها أوائل المائة الخامسة، والذهبي ذكره في الطبقة الثانية والأربعين وهذه الطبقة تبدأ وفياتها سنة 440 هـ وتنتهي في حدود سنة 470ه، والزركلي في الألآم ذكر أنها في سنة 502 هـ.
ورغم هذه الاختلافات فإن بعض الباحثين المحدثين توصلوا إلى أن الراغب قد عاش فى القرن الرابع الهجري واستندوا فى ذلك إلى العديد من الآراء والشواهد التي تعضد هذا الرأي وهذا ما وضحه السارسي قائلا: «وبذلك نكون قد التقينا بعد البحث والتحري مع ما خطَّ قلم القارئ المجهول على إحدى مخطوطات الراغب فى استانبول من أن الراغب قد توفى عام 406هجرية».
لقد عاش الراغب الأصفهاني في عصر مليء بالتناقضات والنزاعات السياسية في كل أرجاء البلاد التي مزقت وحدته وفرقت شمله، وقسمت الدولة الإسلامية المترامية الأطراف إلى مجموعة من الدويلات الضعيفة المتنازعة فيما بينها، وهكذا تحول الحكم في الدول الإسلامية من حكم له قواعده وأصوله المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ إلى سلطان يقوم على البطش وقوة السلاح فالأمير يظل أميرًا ما استطاع أن يُرضى الجند ويزهق المؤامرات التي تحاك ضده
وقد أثرت هذه الحياة السياسية على الأوضاع الاجتماعية فعم الفساد وانتشرت الفوضى والمجون وأصبح الإقطاع هو القانون القائم، وفسدت الحياة الاقتصادية وعم الفقر في معظم البلاد. ولعب العامل الاقتصادي دورًا كبيرًا في تشكيل البناء الاجتماعي للمجتمع العراقي إبان العصر البويهي؛ فحيازة الثروة كانت ركنًا أساسيًا في صياغة الهرم الطبقي.
لكن رغم ذلك فقد كان العصر مليئًا بالأدباء والشعراء والمفكرين ليبينوا للناس الطريق إلى الحق والمعرفة؛ فرغم فساد الأوضاع السياسية والاقتصادية؛ إلا أن الأوضاع العلمية كانت مزدهرة، وما رأيناه من اضطراب الأوضاع في القرن الرابع الهجري سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا لم ينتج عنه بالضرورة تخلفٌ فكريٌ عكس ما كان متوقعًا في مثل هذه الظروف، ولذلك نجد الحركة الفكرية ازدهرت ازدهارًا حسنًا في هذا القرن، وبلغت العلوم والثقافة الإسلامية درجة كبيرة من التقدم والرقي؛ فلقد كانت العراق من عهد المتوكل إلى آخر الدولة البويهيه لم تزل لها الصدارة في العلم والأدب والفلسفة.
كل هذه الأوضاع أثرت بالطبع في الراغب وفي آرائه المختلفة وبخاصة آراؤه التربوية، فقد انعكست هذه الظروف على فكره التربوي، فهو يتحدث في كتاباته عن العلم والمعرفة والأخلاق وأهميتهم في مواجهة متغيرات العصر الذي يعيشه الإنسان ونراه بيَّن مكارم الشريعة الإسلامية وكيفية وصول الإنسان إلى السعادتين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
مجالات وأهداف التربية عند الراغب الأصفهاني
(1) التربية الجسمية:
هناك عدة مقومات للتربية الجسمية ظهرت في كتابات الراغب الاصفهاني تتمثل فيما يلي:
يبرز الأصفهاني أهمية الصحة الجسمية والحفاظ عليها فيقول: «صحة الجسم قلة الطعام، وصحة الروح اجتناب الآثام»؛
ويحذر الراغب من كثرة الطعام وضرره على جسم الإنسان وأن جسم الإنسان لن تكتمل له الصحة ما لم يعتدل في تناول الطعام ويتبع ما أمر به الرسول ﷺ الكريم في الاعتدال وعدم الإسراف فيقول: «إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة، والبطنة تُذهِب الفِطنة؛ وقيل لا تسكن الحكمة بطنًا ملئ طعامًا، وقال يحي بن معاذ: من أكل حتى شبع عوقب بثلاث: يلقى الغطاء على قلبه، والنعاس على عينيه، والكسل على جسمه».
ويوضح أن في كثرة الطعام ضررًا صحيًا وآخر نفسيًا ودينيًا، فكثرة الطعام تجلب المرض، وهي تنسي الإنسان غيره من الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلون، وهذا من مقاصد الشريعة الإسلامية في الصوم أن يشعر الغني بمعاناة الفقير الجائع: «شر الدواء إدخال الطعام على الطعام، وقيل ليوسف عليه السلام: لِمَ تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع».
- المحافظة على الصحة والنظافة
يرى الراغب ضرورة التخلص من نجاسة الجسم والروح فهو ينظر إلى الإنسان على أنه جسد وروح، وذلك لأن لهذين الجزأين طهارة يجب أن يحرص الإنسان عليها؛ فلن يحصل على جسد سليم إذا كانت الروح تهيم في عالم الباطل، وهذا يتطلب جسدًا صحيحًا قادرًا على العبادة والسعي والعمل، لذا يحرص الإنسان على طهارة الجسم وطهارة الروح: «للنفس نجاسه كما أن للبدن نجاسة، لكن نجاسة الجسم تدرك بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة».
(2) التربية العقلية:
للتربية العقلية عند الراغب عدة جوانب نفصلها فيما يلي:
هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن العقائد النبوية التي بينها الرسول ﷺ في دور العقل والتنمية الفكرية للأفراد تُعَدُّ وسيلة السمو الروحي وليست هي غاية في حد ذاتها؛ فللعقل عند الراغب أهمية كبرى فقد أورده في مواضع كثيرة واعتنى بذكر صفاته وأنواعه وأسمائه وقد أكد على هذه الأهمية ودعا إلى استخدام العقل فيما خلقه الله له وهو التفكير والمعرفة فيقول: «الحمق يسلب السلامة ويورث الندامة، والعقل وزير رشيد، وظهير سعيد، من أطاعه أنجاه، ومن عصاه أرداه»، والراغب يرى أن العقل هو النور الهادي للإنسان في هذه الحياة، والعقل المقصود هو المرتبط بالأدب والشرف فيقول: «العقل بلا أدب فقر، والأدب بغير عقل حتف».
ويبين الراغب قيمة العقل المتأدب وأفضليته على عقل بلا أدب: «عاقل بلا أدب كشجاع بلا سلاح، العقل والأدب كالروح، والجسد، وقيل العقل بلا أدب كأرض طيبة جدبة»، «ولقد نزل الدين هاديًا للعقل في جميع الأمور التي لو تُرك العقل وشأنه فيها لضل السبيل وعجز عن الوصول إلى الحقيقة»، فالعقل هو الوسيلة التي يتمكن بها الإنسان من معرفة طرق الخير، والشر في الحياة، وهذا ما ميزه عن غيره من المخلوقات فالإنسان لم يصر إنسانًا إلا بالفكر، والعقل الذي يميز به بين الخير والشر، والجميل، والقبيح.
ويمثل الراغب العقل: «مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه، وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقًا وفرسه مُرَوَّضًا، وكلبه مُعَلَّمًا، فهو قادر على إدراك حاجته من الصيد»، وهذا المشهد الرائع الذي ينم عن فكر الراغب الواعي وحسن استخدامه للأمثلة والتشبيهات لتقريب الصورة من ذهن القارئ.
- العقل طريق إلى معرفة الشرع
أوضح الراغب أن العقل هو السبيل والطريق إلى الشرع وإلى معرفة الحكمة من وجود الإنسان، وطرق الخير، وطرق الشر فيقول الراغب: «العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لا يتبين إلا بالعقل».
وبالعقل يستطيع الإنسان أن يصل إلى معرفة الكليات، والأمور العامة، والوصول إلى ما وراء هذه الأشياء ومسبباتها وهو لن يصل لذلك إلا بالشرع: «اعلم أن العقل بنفسه قليل الفناء، لا يكاد يتوصل إلى معرفة كليات الأشياء دون جزئياتها؛ نحو أن يعلم حسن اعتقاد الحق وقول الصدق»، فالعقل لا يُعَرِّفُنا مثلًا أن لحم الخنزير والدم والخمر محرم، فلا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالشرع، فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة من عَدَلَ عنه فقد ضل سواء السبيل.
إن الراغب يؤكد على ما أمر الله به ورسوله الكريم ﷺ فنهى عن كل ما يغيب العقل، ويحول بين الإنسان وبين ما خلق من أجله، وذلك لأن شرب الخمر يذهب عقله، ويُضَيِّعُ لُبَّه، ويبعده عن طريق الصواب، والخير إلى طريق الغَيِّ، والضلال فيذكر الراغب أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «ما من ذنب أعظم من السكر وذلك أن العبد يذنب فيتصور له ذنبه، ويعلم أن الله ربه، واذا سكر نسي ذنبه، ولم يعرف ربه، وشر الذنوب ما مزق بين العبد وبين معرفة ربه»، وهذا التحذير يبين خطورة الحالة التي يكون عليها الإنسان إذا ذهب عقله وضاع لبه فيكثر من المعاصي ويتوغل في الذنوب فينسى الله، وأكبر الذنوب والمعاصي هي تلك التي تقطع الصلة بين العبد وربه.
(3) التربية الإيمانية:
تتضمن جوانب التربية الإيمانية عند الراغب الأصفهاني ما يلي:
إن الإيمان رحلة عقلية وتأصيلية في الحياة والوجود يتجاوز المرء خلالها أسراب الأوهام، ويفتح بصيرته في هذا الملكوت الواسع، ويدرك من خلال تفكيره الصائب بأن عليه أن ينهي رحلته بالثبات واليقين؛ فالمسلم يؤمن بالله تعالى بمعنى أنه يصدق بوجود الرب تبارك وتعالى وأنه عز وجل فاطر السماوات والأرض، لذا أكد الراغب أن المسلم يبدأ إيمانه ويترسخ بمعرفته لربه فيقول: «أما معرفة الله تعالى المكتسبة بمعرفة توحيده وصفاته وما يجب أن يُثبت له من الصفات، وما يجب أن يُنفي عنه، هذه المعرفة هي التي دعا الأنبياء عليهم السلام لها وحثوا عليها، ولهذا قالوا كلهم: قولوا لا إله إلا الله».
والراغب يوضح أن هذه المعرفة لها مستويات ودرجات كل على حسب قربه من ربه ومنزلته عنده ويقسمها الراغب إلى ثلاث درجات: «وهذه المعرفة على ثلاث أحزاب: حزب لا يكاد يدركه إلا نبي أو صديق أو شهيد ومن داناهم، وذلك معرفته بالنور الإلهي من حيث لا يعتري فيه شك بوجه كما قال تعالى: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، وحزبٌ يدرك بغلبة الظن، وحزب يدرك بخيالات ومثل وتقليدات».
ومعرفة الإنسان لربه تبدأ بمعرفته لذاته ولنفسه فيقول: «معرفة الله ليست تحصل إلا بأن تعرف النفس لأنك إذا عرفتها على الحقيقة فقد عرفت العالم، وإذا عرفت العالم فقد عرفت أنه مُحدَث وأنه لا بد له من مُحدِث لا يشبه المحدَث بوجه وذلك هو غاية معرفة الله تعالى»، ويقول أيضًا: «استرشد الله يرشدك، واستهده يهدك، واستمده يمددك، واشكر آلاءه يزدك» هذه هي غاية الإنسان في معرفته لربه، وحين يعتقد المسلم أن الله عز وجل يعلم السر وأخفى، وأن الله يراه ويراقبه في كل أحواله يقلع عن المعاصي لأن المعاصي تدل على ضعف الضمير عند كل من يرتكبها.
دعا الراغب الإنسان إلى أن يعرف ما هي حقيقة الإيمان؟ وهل هو مؤمن حقًا؟ وهل الإيمان متأصل في ذاته؟ فيقول: «سئل الجنيد عن حقيقة الإيمان فقال: ما أوجب الأمان. وأتى رجل إلى الحسن فقال: أومؤمن أنت؟ فقال له: إن كنت تريد قوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا} فنَعَم به نتناكح، وبه نتناسل، وبه حَقَنَّا دماءنا، وإن كنت تريد قوله: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فما أدرى أنا منهم أم لا»، إذا فحقيقة الإيمان التي يذكرها الراغب هي عمل بالجوارح وتصديق بالقلب الذي يخشع بذكر الله، فالإيمان شيئان: اعتقاد وأعمال؛ وقال: «ليس الإيمان بالتحلي ولا التمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال».
- الرضا بما كتبه الله للإنسان
يؤمن المسلم بقضاء الله وقدره وحكمته ومشيئته، وأنه لا يقع شيء في الوجود حتى أفعال العباد الاختيارية إلا بعد علم الله به وتقديره. والإنسان على علمه، ويقينه بقدر الله وإيمانه بأن الله هو المتصرف في أموره عليه أن يُعمل عقله وينظر في الأمور وعواقبها فيذكر الراغب أنه جاء في كتاب كليلة ودمنة: «لا يمنع العاقل يقينه بالقدر من توقي المخوف، بل يجمع تصديقًا بالقدر وأخذًا بالحزم»، فالإنسان يصدق ويؤمن بقدر الله لأن الإيمان بالقضاء والقدر جزء لا يتجزأ من عقيدة المسلم، فالمسلم المكلف يؤمن بأنه سبحانه وتعالى عالم بجميع أفعال العباد ما يتعلق بالمخلوقات عامة وما سيحدث في المستقبل.
والراغب يدعو إلى التسليم بقضاء الله والرضا بما قسمه الله للإنسان ولكنه يحذر من التواكل والغفلة والكسل عن طلب الرزق وإرجاع ذلك إلى قدر الله فيقول: «احذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان فيمثل لك التواني في التواكل، ويورثك الهوينات إحالتك على القدر، فإن الله أمرنا بالتوكل عند انقطاع الحيل والتسليم للقضاء بعد الأعذار فقال النبي ﷺ: اعقلها وتوكل».
حسن الظن بالله من مقتضيات التوحيد لأنه مبني على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وحسن التوكل عليه، فإذا تم العلم بذلك أثمر حسن الظن. وقد ذم الله في كتابه طائفة من الناس أساءت الظن به سبحانه، وجعل سوء ظنهم من أبرز علامات نفاقهم وسوء طويتهم، فقال عن المنافقين حين تركوا النبي ﷺ وأصحابه في غزو أحد: {وطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ}.
والراغب يدعو إلى إحسان الظن بالله وأيضًا مع الناس، ويرى أن حسن الظن يخفف على المسلم ابتلاءه ومصابه في الدنيا فيقول: «قيل أعظم المصائب انقطاع الرجاء، وقيل: ما الذي يشدد البلاء على الناس؟ فقال: القنوط، وقيل فما الذي يهون عليهم؟ قال: الرجاء وحسن الظن».
من أهداف التربية الإيمانية عند الراغب أن يدرك المسلم أن الإيمان درجات ومنازل عليه أن يسلكها ويترقى فيها إلى أن يصل إلى أعلى منازله ودرجاته، ويصل بها إلى ربه ويدخل بها جنته فيقول: «إنما يكون الإنسان مؤمنًا إذا استوعب منازله كلها، فتعرى من جميع الشرور وتخصص بجميع الخيرات على قدر طاقة البشر».
ويضع الراغب تقسيمًا للإيمان ومراتبه على أساس أن الإيمان اعتقاد وعمل، فالاعتقاد على ثلاث منازل:
- يقينيٌّ لا يعتريه شك ولا شبه: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، وهو أعلى وأعظم درجات الإيمان وهو القائم على اليقين والاقتناع والذي يدفع صاحبه إلى طاعة الله في كل وقت وعلى أية حال، وهي الدرجة التي وصل إليها الأنبياء والمرسلين.
- ظنيٌّ، وذلك ما كان عن أمارة قوية: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ}، وهذه الدرجة التي ينالها عباد الله الصالحون والذين قد تيقنوا أن الله سوف يحاسبهم على أفعالهم.
- تقليديٌّ، وذلك ما يعتقد من رأي أهل البصائر كما وصفه تعالى بقوله: {ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
ولا تقتصر التربية الإيماني على هذه الجوانب سالفة الذكر وإنما تتعدى لجوانب عملية تتضح فيما يلي:
1- ممارسة العبادات
العبادات في فكر الراغب لها أثرها الطيب في تهذيب النفوس المؤمنة، وعلى ذلك يؤكد الراغب أن من قام بالعبادة خير القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفعها فقد انسلخ من الإنسانية فصار حيوانًا أو دون الحيوان ويقول تعالى في وصف الكفار: {إنْ هُمْ إلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}.
2- الدعاء
يرى الراغب أن الإنسان عليه أن يطهر نفسه من الذنوب، فإذا فعل يكون قد ترشح ليزيل الله عنه باقي السيئات كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، ولهذا أمرنا تعالى أن نتدبر الدعاء بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
(4) التربية الأخلاقية:
تتضح جوانب التربية الأخلاقية عند الراغب الاصفهاني في النقاط التالية:
- حصول الخلق المحمود بطهارة النفس
إن الله سبحانه وتعالى هو خالق النفس وملهمها التقوى والفجور فمن اختار طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله ﷺ عما سواهما فقد زكى نفسه وطهرها من الأخلاق الدينية والرذائل ومن زكى نفسه فقد أفلح في الدنيا والآخرة، فتكون نفسه راضية في الدنيا ومطمئنة عند الموت ومرضية في الآخرة فقد قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وادْخُلِي جَنَّتِي}.
فطهارة النفس عند الراغب تقوم على فهمه للنفس وتقسيمه لها إلى فكر وشهوة وحمية، وكل ركن من أركان هذه النفس يتطلب مجموعة من الأفعال، فالفكر يصلح بالعلم، والشهوة تصلح بالعفة، والحمية تصلح بتعويدها وتدريبها على الفعل الحسن؛ حتى يحصل الحلم ويذكر الله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}، وقال النبي في تفسير ذلك هو أن: «تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك»، فالعفو عن ظلمك نهاية الحلم والشجاعة، وإعطاء من حرمك نهاية الجوع، ووصل من قطعك نهاية الإحسان.
- سبب اختلاف الناس في أخلاقهم
يرى الراغب أن الأخلاق فطرية وموروثة واكتسابية والأخيرة تحصل بالتربية، وإن كانت الفطرة الإلهية خيرًا محضًا ولكن اختلاف الأخلاق الفطرية في الإنسان ناشئ عن تفاوت الدرجات، فكلها خير ما يحسب الدرجات هي بين حسن وأحسن، كما أن لجميع النوع الإنساني إدراكًا واستعدادًا، ولكن يتفاوت الإدراك والاستعداد والقابلية فيما بين النوع الإنساني، وهذا واضح للأسباب التالية:
السبب الأول: اختلاف الأمزجة، وتفاوت الطينة، واختلاف الخلقة كما أشير إليه فيما روى أن الله تعالى لما أراد خلق آدم أمر أن تؤخذ قبضة من كل الأرض، فجاء بنو آدم على قدر طينها الأحمر والأبيض والأسود والسهل والحزن والطيب والخبيث.
السبب الثاني: اختلاف أحوال الوالدين في الصلاح والفساد، فالراغب يرى أن الإنسان يرث من أبويه ما هما عليه من الأخلاق الحسنة أو القبيحة، مثلما يرث منهما الصورة الأخلاقية، ولهذا قال تعالى: {وكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، وهذا تنبيهًا على أن الخير والشر الذي يكتسبه الإنسان يبقى أثره مدة طويلة.
السبب الثالث: اختلاف ما تكون منه النطفة التي يكون منها الولد ودم الطمث الذي يتربى به الولد، فذلك له تأثيره.
السبب الرابع: اختلاف ما يأخذه الولد من الرضاع ومن طيب المطعم الذي يربى به، ولتأثير الرضاع كقول العرب لمن تصفه بالفضل: لله دَرُّه.
السبب الخامس: اختلاف أحوالهم في تأديبهم وتلقينهم وتعويدهم العادات الحسنة والعادات القبيحة، وهنا نرى الراغب التربوي الذي أيقن ما في التنشئة السليمة والتربية.
السبب السادس: اختلاف من يتخصص به ويخالطه فيأخذ طريقه فيما يذهب به وقد قيل: «عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه»، وهذا من أساس اختلاف الأخلاق بين الناس، بل هو سبب في تكوين الأخلاق الحسنة أو السيئة؛ إذ أن الأصحاب من أهم عوامل تكوين الأخلاق.
السبب السابع: اختلاف اجتهاده في نفسه بالعلم والعمل حين استقلاله.
- وجوب اكتساب الفضيلة المحمودة
يدعو الراغب كل مسلم إلى أن يكون حريصًا على التمسك بالفضائل الحسنة الجميلة: «نَسَقُ الإنسانِ في كل فضيلة أن يكتسبها خلقًا، ويجعل نفسه ذات هيئة مستعدة لذلك، وذلك بأن يكون على هيئة الأسخياء والشجعان والحكماء والعدول».
.