الحوار من الحاجات الحيوية التي لا غنى عنها لأي فكر أو مشروع اجتماعي إسلامي يؤمن بالتنوع، ويدرك ضرورة التفاهم والتأليف، وأهمية بناء العلاقات الصحية بين مختلف الأطراف الإسلامية، بخاصة في إطار المجتمعات المسلمة التي تعيش بالفعل ظاهرة التنوع والتعدد على الأصعدة الكلامية والمذهبية والفقهية.
والحوار مباشرا كان أو غير مباشر، لا بد له من مقومات تربوية من شأنها أن تقوي الإيمان بحرية الاختلاف، وتعزز الوعي بجدوى الحوار سبيلا للفهم المتبادل، وتمهيدا لعملية بناء الوحدة.
وفى دراسة للدكتور على القريشى -1998-، بعنوان: (التربية الحوارية: دراسة في إشكاليات الاختلاف والوحدة في الإطار الإسلامي)، عُني فيها بتقصي الشروط التربوية التي تمثلها القيم والأفكار والاتجاهات والمفاهيم التي تؤسس مضامينها أساسيات الوعي الوحدوي وسلوكياته النفسية والفكرية، ثم توضيح الشروط المنهجية التي من شأنها أن تكون النظرة الصحيحة نحو المسلم الذي يحمل اجتهادًا آخر كمنطلق للتفاهم والقبول المتبادل.
ومن الضروري في ظل حقيقة الاختلاف وحدوده المشروعة أن نتابع شروط الحوار ومقوماته التربوية فيما بين ذوي الرأي والاجتهاد المتعدد الذين يجدون أنفسهم على مائدة البحث، أو المقارنة أو الجدل أو غير ذلك من الاتصالات الفكرية أو السلوكية، وذلك في ضوء ما يمكن بلورته من أسس ومبادئ وأخلاقيات وضوابط علمية من شأنها تيسير المقارنة والتقريب وتحقيق الأخوة والتوحيد والعيش المشترك.
المقومات التربوية لمرحلة ما قبل الحوار
قبل أن يبدأ الحوار ثمة مقومات تربوية أساسية أهمها:
أولا، تكوين الوعي الوَحدَوِي:
من أجل إيجاد أرضية سليمة للعلاقات الحوارية بين مختلف الأطراف الإسلامية، لا بد من قيام التربية بمهمات تكوين الوعي الوحدوي وتعليم ممارساته، ومن ضمن المهمات والممارسات:
1- ترسيخ احترام التنوع في إطار الوحدة بعناصر التوعية التالية:
- أن الاجتهاد وما يتبعه من حرية الإتباع ليس إلا تعبيرًا عن ظاهرة الاختلاف ومشروعيتها التي لا يصح مصادرتها طالما تتم في إطار (الظنيات) لا (القطعيات) و(المتغيرات) لا (الثوابت)؛ لذا لا بد أن يتعلم المتلقون أن الاجتهاد الواحد ليس (دينًا) يطلب إلزام الآخرين به، كما أن لا ضير أن يتجاوز أكثر من اجتهاد في آنٍ واحد. كما أنه لا بد أن يتعلم المتلقون أيضًا أن الاختلاف المشروع مشروط بالتزام العقائد والأحكام والقيم الثابتة التي تشكل إطارًا لوحدة الجميع.
- أن جميع المذاهب والاجتهادات الصحيحة لا تخرج عن دائرة الإسلام الكبرى، ولا يمكن حرمان أصحابها ومقلديها من الانضواء تحت مظلة الأمة الواحدة، إلا من خرج فعلًا عن أصل من أصول الدين المجمع عليها، أو أنكر معلومًا منه بالضرورة، وشريطة أن يكون ذلك الخروج أو الإنكار بطريقة التصريح لا بطريقة الإلزام التي اعتاد الجدليون من أهل الكلام ترتيبها، كأن يقول المتجادل للآخر: إذا قلت كذا يلزمك كذا، كقول الأشعري للمعتزلي في موضوع الصفات: إذا قلت: إنها ذاتية يلزمك التعطيل، وقول المعتزلي للأشعري: إذا قلت إنها غير ذاتية يلزمك التعدد.
- أن التنوع والتعددية في إطار الوحدة العامة أمر لا ضرر منه، بل يمثل في بعض الحالات إثراء للفكر والتفكير ونمط الحياة، كما قد يعبر عن حركية الإسلام ومرونته وتكيف أحكامه واتساع آفاقه وأبعاده الحضارية.
- أن الآراء والاجتهادات المخالفة لا بد أن تظل- أيًا كان الموقف منها– محل تقدير أدبي، كما في التعود على التنويه بالأدلة والمسوغات التي تستند إليها تلكم الآراء والاجتهادات، بل لا بأس من الإشارة إلى أوجه معقوليتها أو حتى ضرورتها كما بدا ذلك واضحًا، حتى في الحالة التي يبقى فيها الموقف الشخصي ملتزمًا بالرأي أو الاجتهاد المخالف.
2- تعليم أن الفرقة إثم وأن الوحدة واجب:
لابد للتربية الوَحدَوِيّة أن تشدد على الموقف الشرعي من الفقرة بصفتها إثمًا منكورًا له أخطاره وأضراره، ولكيلا يقترف المسلم هذا الإثم لا بد من التأكد على أن الاختلاف أو التنوع أو التعددية أو المجادلة يجب ألا يؤدي أيٌّ منها إلى تنازع أو تصارع أو قتال، فذلك كله ممنوع ومحرم من الناحيتين الشرعية والاجتماعية. كما أنه لا بد من التحريض على نبذ الاتجاهات التي تقسم المسلمين اجتماعيًا أو سياسيًا بحسب فرقهم ومذاهبهم، والحيلولة دون تحول التباينات المذهبية أو الاجتهادية إلى (وحدات) اجتماعية مغلقة، أو (كانتونات) سياسية متنافرة تفكك التماسك العام وتقسم أبناء الدين الواحد.
3- إيجاد المواقف الفكرية والعلمية النابذة للآراء والكتابات التفريقية القائمة على التعصب أو الجهل أو اللاموضوعية أو الإثارة:
والتي سيقت بلغة عدوانية أو تناحرية أو إقصائية من لدن بعض العلماء أو الكتاب القدامى أو المحدثين، وضرورة تحذير العقل المسلم من الركون إليها أو الاستسلام لمنازعها، مع تشجيع الحس النقدي لمناهجها غير المقبولة، أيًا كان أولئك العلماء أو الكتاب، مع ضرورة إحلال اتجاهات مضادة لهذه الآراء والكتابات تستلهم فكر الوحدة وتستعين بوسائله التقريبية.
4- الاستفادة تربويًا من معطيات البحوث والدراسات المقارنة والتقريبية:
والاستفادة كذلك من نتائج ومعطيات الحوارات المضيئة والصحية في تكوين التيار الوحدوي وتقوية اتجاهاته وتدعيم تقاليده وامتداداته المتنوعة.
ثانيًا، تكوين النظرة الصحيحة نحو المسلم الذي يحمل اجتهادًا آخر
من أجل تكوين نظرة سليمة عند المسلم نحو المسلم الآخر فكرًا وشخصًا، لاد من إرساء القواعد التربوية التالية:
1- التفرقة بين الثوابت والمتغيرات في الشريعة:
لقد ميز الفكر الإسلامي بين قسمين من أقسام الشريعة هما: الأصول والقواعد والأحكام التشريعية الثابتة بنص من الكتاب أو السنة، مضافًا إليها الأحكام التفصيلية: العقيدية أو التعبدية أو الأخلاقية أو الاجتماعية الثابتة وغير المختلف على أصلها، وبين المتغيرات الشرعية ومناطق (الفراغ التشريعي) ومساحات الإباحة والحرية التي تشغلها التفاصيل الفكرية على المستوى العَقَدِيّ والاجتهادات المتصلة بفروع الأحكام الفقهية وجزئياتها، مضافًا إليها القضايا والإشكالات والنوازل المستجدة التي لم يرد بشأنها نص في كتاب أو سنة، ويخضع الحكم فيها إلى الاجتهاد الفقهي أو الفكري أو العملي أو التجريبي.
إن التنبيه إلى هذا التمييز وتعليمه والتثقيف به هو أحد مهمات التربية الإسلامية التي من شأنها أن تعد الأرضية الصالحة لاستنبات المنهج الإسلامي في تكوين النظرة السليمة نحو المسلم المختلف أو الذي يطرح رأيًا جديدًا.
ومن شروط العمل التربوي لإرساء هذا المنهج ما يلي:
- تنقية ذهنية المسلم واتجاهاته من هيمنة المنهج المعرفي الذي يساوي بين الاجتهاد والدين، والرأي والعقيدة، والظني والقطعي، والمتغير والثابت، الأمر الذي لا بد عه من التخلص من عبودية الرأي الواحد الذي يزعم أنه الممثل الوحيد للدين، أو الذي لا يؤمن إلا باجتهاد وحيد، وبالتالي يرفض بجواره أي رأي آخر.
ويتصل بالنقطة أعلاه ضرورة التفرقة بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل، وإدراك أن خطأ الرأي لا يعني فساد العقيدة ولا فساد الضمير، ومن ثم فإن صاحب الرأي المخالف أو المعارض ليس بالضرورة ضال العقيدة أو فاسد الضمير.
- التخلص من أسلوب التعليم التقليدي الذي يقول في ثقة: حكم الله كذا في هذه القضية، ورأي الدين كذا في ذلك الموضوع، حتى يظن السامع بأن ما يسمعه هو حكم الله ورسوله، بينما ينبغي أن لا يذكر حكمٌ بهذا الجزم إلا ما قُطع به، وأما الاجتهادات المذهبية فيحسن أن يقول المفتي أو القائل: أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا؛ لكي يترك مجالًا للرأي الآخر فلا يحرمه من الانتماء للإسلام.
2- الفهم الصحيح لحديث الفرقة الناجية والفرق الهالكة:
كثيرًا ما يساء فهم الحديث النبوي الذي ينبئ بافتراق الأمة إلى فرق متعددة، ويبشر بنجاة واحد وهلاك الأخريات، حتى أن غرور البعض قد أدى بهم إلى الادعاء بأن مذهبه أو فرقته هي المعنية تحديدًا ببشارة النجاة.
وانطلاقًا من مسئولية التربية في بناء التفكير الإسلامي السليم لا بد من الاهتمام بتجنيب الذهن المسلم من الفهم المتسرع لفكرة الحديث المذكور، وبخاصة دلالاته بشأن الفرق الهالكة وضرورة عدم إسقاطها على الفرق والمذاهب المسلمة الملتزمة بالأصول والثوابت، أو على الآراء الاجتهادية أو الفكرية المخالفة، مع مراعاة التفسير الذي لا يتيح إطلاق الأحكام بدون روية، ولا تساعد على الذهنية التفكيرية والنفسية الإقصائية التي من الممكن أن تجنح إلى الإفتاء بإهدار أرواح وأموال من يشهد الشهادتين ويقر بأصول الدين وأركانه وما هو معروف منه بالضرورة، دون وجة حق ولا حجة كافية.
3- إعلاء مبدأ الأخوة وتجنيب سوء الظن:
من أسس تشكيل العلاقات بين المسلمين مبدأ الأخوة الذي قرره القرآن الكريم بقوله تعالى: {إِنّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) وأكدته السنة نظريًا وعمليًا، وحيث أن الاختلاف في الرأي أو الاجتهاد أو الممارسات لا يلغي هذا المبدأ، فإن مسئولية التربية الإسلامية أن تعمل على غرسه كقيمة مطلقة ومنهجًا في السلوك والتعامل، مع ضرورة تعليم مبادئ الحقوق والواجبات المقررة شرعًا لجميع المسلمين والتي لا يسقطها عن أي منهم أي لون من ألوان الاختلاف المشروع أوالمقبول أو الممكن أو المباح، مع ضرورة تربية المشاعر وتقوية القيم والاتجاهات الفرعية التي تترتب على ذلك المبدأ وتندرج ضمن الحقوق والواجبات المقررة: كالحب، والرحمة، والتعاون، والمسالمة، والنصرة، والحسنى، والثقة، والغيرة، والإيثار، ونحوها من القيم والمشاعر والاتجاهات الأخوية والإنسانية التي لا يستثنى منها المسلم المخالف.
ومن أبرز ما يمكن أن تتحمله التربية الإسلامية على هذا المستوى تنقية المشاعر والأخيلة من سوء الظن إزاء الآخر، وحمله على المحمل الحسن كلما أمكن ذلك، ونبذ المواقف التشكيكية المستندة إلى نزعة المغايرة أو الدعاية المغرضة التي تؤدي أكثر الأحيان إلى الظنون السيئة المنكورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12).
فغرس ميول حسن الظن أدعى من تأجيج سوئه ما إن وجد مورد للبراءة، ولو بنسبة ضئيلة عند الأخ الآخر (وعليك أن تحمل أخاك على المحمل الحسن) ذلك (أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علًام الغيوب، فليس لأحد أن يعتقد في حق غيره سوءًا إذا انكشف له بعيان لا يقبل التأويل، إذ حينئذ لا يمكنه ألا يعتقد ما شاهده وعلمه، وأما ما لم يشاهده ولم يعلمه ولم يسمعه وإنما وقع في قلبه، فالشيطان ألقاه إليه...).
4- الإقلاع عن ذهنية القطع بالصحة والصواب فيما كان رأيًا أو اجتهادًا:
من مقومات تكوين النظرة الصحيحة نحو المسلم المختلف التعامل معه من منطلق الشعور بقصور الذات واتهام الرأي الشخصي، والإقرار بمحدودية القرارات الخاصة، كيلا يقع المرء– وهو يختلف أو يحاور– بوهم العجب، فينساق إلى الادعاء بأنه قد قبض على الحقيقة كاملة، وأن الحق معه غير منقوص، وما كان عند الآخرين ليس إلا باطلًا أو سرابًا.
هنا لا بد أن تضطلع التربية الإسلامية بمسئولية تشكيل الذهنية التي تحمي أي طرف مسلم من شطط الجزم بأن أفكاره الكلامية واجتهاداته الفقهية وتقويماته التاريخية لا تخرج عن اليقين الديني، وأن آراء أو اجتهادات أو تقويمات غيره هي الباطل بعينه، انطلاقًا من التوعية بأن الحق والصواب المطلقين المؤكدين هما من شأن الأصول والثوابت الربانية وما دونها فيخضع للنظر والأخذ والرد والتخطئة والتصويب. ومن هنا تبرز ضرورة التنشئة على تقبل فكرة أن الحقيقة والحق ليسا بالضرورة ملك لمذهب أو فكر معين، طالما أن تكوين الآراء والاجتهادات مسألة تخضع بطبيعتها الظنية إلى احتمالية الصواب والخطأ، وأن صاحب الرأي والاجتهاد لا يملك يقينًا بصحة ما هو عليه.
ومن المناسب في هذا المقام ترسيخ مقولة الإمام الشافعي: «مذهبي صواب يحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب»، كما أنه من الضروري التنبيه إلى أنه من الغرور أن يصف البعض أنفسهم بأنهم وحدهم أهل الحق والسنة، وأن مخالفيهم أهل الأهواء والبدع والضلال، وما أجمل التذكير يقول أبي حنيفة: «قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا».
5- الانفتاح على المختلف ومحاولة تعقله:
من أجل تكوين نظرة صحيحة ومعقولة نحو المختلف لا بد من العناية بتكوين الاتجاهات النابذة للانغلاق الطائفي أو المذهبي أو التكلس الفئوي أو الانحصار الفكري؛ لأن انغلاقًا أو تكلسًا أو انحصارًا من هذا النوع لا يمكن أن يساعد على فهم الآخر أو استيعابه، فيقلل ذلك من إمكانية التحاور واللقاء.
والشروط التربوية لتكوين هذه النظرة هي:
- تشجيع الانفتاح على المختلف، والدفع إلى محاولات تعقله، والابتعاد عن اصطناع الفروقات التي تميز الأطراف بالوعي الخاص والذاكرة المميزة والتي لا مبرر موضوعي أو عصري لها.
- التعويد على ممارسة المرونة عند التعاطي مع الاختلافات التفصيلية لما ينتج عنها من تفاوت بعض المعتقدات الجزئية أو بعض السلوكيات التطبيقية، وذلك انطلاقًا من فكرتين أساسيتين هما:
1- أن وحدة الدين والهوية ينبغي ألا يخلخلهما عدم التطابق أو التماثل التفصيلي غير المقرر نصًا.
2- أن من حيوية الحياة ورحمة الدين القبول بتعدد الآراء والأحكام ووجهات النظر طالما لا يخل ذلك بالأصول والثوابت، ولا يعرض مقتضيات الأخوة والنظام العام في المجتمع الإسلامي للخطر.
- التخلص أولًا وآخرًا من المعوق الشعوري أو اللاشعوري الذي يجعل أي تعقل أو قبول لما هو خارج الدائرة الخاصة شيئًا غريبًا أو مستهجنًا. والتربية معنية بمعالجة هذه الحالة التي تشكلها كثافة الاستغراق بالنسق الفكري أو الهوية الفرعية، حيث الضغوط الأسرية أو البيئية أو التاريخية أو المعرفية تخلق حالة من الجمود تخنق أية محاولة للتنفس خارج الدائرة الخاصة المحدودة، وهذه ظاهرة نفسية وتربوية أكثر مما هي ظاهرة عقلية وفكرية.
6- فهم الآخر من داخل نسقه الاجتهادي وبحسب النوايا التي يصدر عنها:
إن اقتناع المسلم بمدرسة كلامية أو فقهية لا ينبغي أن يمنعه من أن يرى آراء ومواقف الآخرين من داخل مدارسهم، ووفقًا لطبيعة النوايا التي تشكل أو تحرك تلك الآراء أو المواقف، وذلك على النحو الذي يجنبه الإجحاف أو المبالغة أو التطرف حين يصدر أحكامه بحقهم.
وهذه مسألة تربوية في الأساس قوامها التخلص من القراءات السطحية أو المتسرعة لآراء واقتناعات الآخرين، والأخذ بالجدية في استيعاب مقولاتهم واجتهاداتهم والنظر في أدلتها؛ إذ لا يمكننا أن نقول عن الآخرين بموضوعية وإنصاف إلا إذا اعتدنا أن نفهمهم من داخل نسقهم الاجتهادي. وهذه العادة ستخفف كثيرًا من المشاعر والأحكام السلبية المضادة.
فمثلًا الخلاف حول الحسن والقبح العقليين وصلتها بأفعال الله هل هي مقيدة أو مطلقة، قال البعض: إنها مقيدة، وقال آخرون: مطلقة، والرأي في مثل هذه الأمور إذا كان من الممكن فحصه وتقديره ونقده بصفته رأيًا، فإنه على مستوى تقويم عقائد أصحابه لا بد أن ندخل في اعتبارنا (النية) و (الهدف) الذي ينطوي عليه ذلك الرأي، وهنا– أي في مسألة تقييد أو إطلاق أفعال المولى تعالى- يمكن القول: إن كلَا من الطرفين مؤمن ولا شك، إذ أنهما وصفا الله تعالى بأوصاف الكمال والجلال، ولم يقل أي منهما: إن العقل والشرع قد اختلفا في شىء ما من جهة أنه حسن أو قبيح، وإنما كان اختلافهما حول الفعل المطلق هل يجوز على الله أو لا يجوز، فالطرف الذي جوَز أراد أن يَفِرَّ من (تقيد) الله باعتبار أن التقييد ناف للألوهية، وكونه يفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه، وأما من قيد فقد أراد أن يَفِرَّ من وصفه جل شأنه بأنه يمكن أن يفعل شيئًا يراه العقل قبيحًا.
وعلى هذا النحو يمكن أن نعطي فهمًا مرنًا، وفيه من حسن الظن وعدم تحمل آراء الآخرين بما لا ينسجم مع مجمل تفكيرهم.
لنأخذ مثالًا آخر في مجال الفقهيات، فقد يشمئز بعضنا وهو يقرأ الآراء الفقهية لإمام من أئمة المذاهب الإسلامية الأخرى والتي تبدو شديدة الغرابة، كالرأي القائل بإباحة زواج البنت من الزنا، أو الرأي القائل بإلحاق ولد المشرقية بالذي في المغرب وإن لم تلحق به، أو نحو ذلك من الآراء غير المألوفة أو المستساغة.
إن من حق أى مسلم مجتهد أو غير مجتهد أن يرفض أو يعارض مثل هذه الآراء، إلا أنه من الضروري في إطار الجدل أو النقد أن تدرك هذه الآراء- على غرابتها- ضمن أدلتها وحيثياتها التعليلية. وهذا منحى من شأنه أن يخفف كثيرًا من النظرة السلبية المحتقنة ويحول الاشمئزاز إلى مجرد رفض لهذا الرأي أو ذاك، وبالتالي لا ينظر إليه أكثر من أنه خطأ مع حسن النية.
واستطرادًا لما تقدم، لا بد من التحلى بخصلة منح الآخرين الأعذار فيما هم فيه معنا مختلفون، أيًا كان تقويمنا لآرائهم واقتناعهم، وهذه مسألة تحتاج أساسًا إلى غرس النزعات السوية تجاه الناس بشكل عام، وإيجاد التوازن النفسي والفكري الذي لا يسمح لمشاعر التعصب وحب السيطرة أن يحكما علاقات طرف بآخر.
إن الخوارج كَفَّروا عليَّا فوق المنابر وحاربوه وحاربهم، ولكن حين استأذنه قضاه البصرة أن يقبل شهادة أهلها منهم أمر بقبولها إدراكًا منه أن هذه الفئة قد حاربته على التأويل، ولم يدفعه اقتناعه بخطأ تأويلهم إلى التخلي عن المرونة، أو رد شهادتهم أو إقصائهم عن دائرة المسلمين.
من هنا لا بد أن نعمق بأن إسلامًا نرضى عن بعض تفاصيله أفضل من كفر لا نلتقي معه في أي شيء، وأنه ليس من الواقعي- ولابد من الإخلاص للإسلام- أن يتحدث اليوم بعض الناس بأن الكفر أقرب إلينا من إسلام مخلوط ببعض الشرك أو ببعض الانحراف، فكلام كهذا ما هو إلا تعصب يريد أن يدمر خصمه حتى ولو كان في ذلك تدمير نفسه.
المقومات التربوية لمرحلة الحوار
إن الإقرار بحرية التنوع في الاجتهادات والآراء في إطار الالتزام بالوحدة لا يعني القبول السلبي لما تذهب إليه الأطراف الأخرى من اجتهاد أو تصور أو رأي مخالف، بل إن من حق العلماء والمختصين والمطلعين أن يمارسوا حق الرفض أو الرد أو النقاش، كما يمكن لهم أن يديروا الحوار فيما بينهم بما هم فيه مختلفون شريطة الالتزام بأسس ومبادئ وأخلاقيات من شأنها تزكية الحوار وترقية المتحاورين. ويمكن بلورة الأسس والمبادئ والأخلاقيات التربوية الإسلامية على هذا الصعيد على النحو التالي:
أولا، القيمة المطلقة للحقيقة والحق:
(الحقيقة) هي العناصر والمضامين والأبعاد والألوان التي ينطوي عليها- فعلًا- شيء أو فكرة أو شخص أو موضوع ما. و(الحق) هو الاستحقاق المقدر لشيء أو فكرة أو شخص أو موضوع ما، سواء كان المقدر هو الله تعالى أو العقل أو الواقع الفعلي المشروع.
ويثار الوقف من (الحقيقة والحق) في الحالة التي يظهر فيها اختلاف بين طرفين أو أكثر، قد ينجح أحدهما في تشويه الحقيقة أو الحق أو المغالطة بشأنهما أو إنكارهما، أو تجاوزهما كليًأ أو جزئيًا بشكل أو بآخر، وهذه الإشكالية قديمة وشائعة بين بني الإنسان، ويمكن أن يقع فيها المسلمون حتى فيما بينهم حين يختلفون.
ولما كان الإسلام دينًا من مبادئه الاعتراف بالحقيقة وعدم الاعتداء على الحق، فإن من مقومات التربية الحوارية الإسلامية تعمق التشبع الضميري بالاعتراف بالحقيقة والحق كقيمتين مطلقتين، سواء تأسيس إطلاقهما بحكم من الشرع أو العقل الفعلي المشروع.
ولا بد من تعميق التفاعل معها، وفي تقبلها، وتوفير التهيئة النفسية للانحياز لهما، وقولهما، والرضا بهما، وعدم إنكارهما، أو تجاوزهما، كلما وجد المرء نفسه في موقف يتطلب منه الإقرار بعناصر الحقيقة أو العمل على إحقاق الحق أو الوقوف إلى جانبهما. وهذا أمر يسري في المقياس الإسلامي حتى حين يؤدي الإقرار أو الوقوف المذكور إلى تصادم مع المصلحة الفردية أو الخاصة (قل الحق ولو على نفسك). ناهيك عن أن مبدأ الاعتراف أو الإقرار مطلوب شرعًا حتى إذا تبين أن الحقيقة أو الحق في جهة من تختلف معه.
والتربية الحوارية الإسلامية معنية بغرس مسلمة أن ما يحصله أو يعقله الواحد منا لا يكسبه صفة الحقيقة أو الحق بشكل قطعي بالضرورة، إذا ما كان التحصيل أو التعقل ينتمي إلى دائرة الظنيات والمتغيرات الدينية. كما أن هذه التربية معينة أيضًا ببث المبدأ القائل: (إن اعتبار ما تظنه راجحًا وما يظنه غيرك مرجوحًا لا يمنع من أن يكون ما ظنه غيرك هو الراجح وما طننته أنت هو المرجوح).
لذلك لا يصح اعتياد الجزم بأن الباطل أو الخطأ هو دائمًا في جهة الطرف الآخر ما لم يكن ذلك الجزم مستندًا إلى الدليل القاطع أو الرجوع القوي الباعث على الطمأنينة التامة نفسيًا وذهنيًا وموضوعيًا، أو على الأقل مستأنسًا بإجماع تاريخي مستفيض، ومشروط بأن لا يكون استئناسًا تشكله الضغوط الشعورية واللاشعورية التي يصنعها الرأي المحصن بالتواصل التاريخي أو بكثافة الاستغراق الأسري أو البيئي.
ثانيًا، أخلاقيات الحوار
الأخلاق عنصر أساسي في السلوك الذي يكتنف الحوار ويحدد علاقاته وأساليبه ونتائجه بين الأطراف المختلفة. والتربية الحوارية في الإسلام معنية بإكساب القيم والمبادئ الأخلاقية التي تنأى بالمحاور عن الطبائع والسلوكيات الذميمة، وتحرره من سوء الخلق وما يشين لغة الحوار وسلوكيات التخاطب والتعامل مع الآخرين. ومن الطبائع والسلوكيات الذميمة في هذا الخصوص:
1- لغة الشتم والجرح والسب واللعن والقدح والطعن والتطاول والهجاء والألفاظ الجارحة، والبذاءة والخرق والمساس بمشاعر الغير والتعرض القبيح لما يحترمه الآخرون من أو أشخاص أو رموز. قال صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا باللَّعَّانِ، ولا بالفاحشِ ولا بالبذيءِ»، وقال: «سِباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ».
2- السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11).
3- الذم وتتبع العورات: قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة: 1) والهماز كثير الطعن على غيره بغير الحق، واللماز المتتبع للمعايب والعورات، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِينَ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ».
4- الجهر بالسوء: قال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النساء: 148).
5- الكبر والغرور وعدم التواضع: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان :17)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ». وفي الحديث الضعيف: «التواضعُ لا يزيدُ العبدَ إلا رفعةً فتواضعُوا يرفعُكم اللهُ، والعفوُ لا يزيدُ العبدَ إلا عِزًّا فاعفوا يُعِزَّكُمُ اللهُ، والصدقةُ لا تزيدُ المالَ إلا كثرةً فتصدَّقوا يرحمُكُمُ اللهُ».
6- الإعجاب بالرأي وتزكية النفس: وفي الحديث الضعيف عن أبي ثعلبة الخشني: في قوله- تعالى -: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، فقال: أما والله؛ لقد سألت عنها رسول الله– صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا بد لك منه؛ فعليك نفسك، ودع أمر العوام؛ فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن؛ كان كمن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله، قال: يا رسول الله: خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم».
7- الغلظة والفظاظة وفقدان الرفق ولين الجانب: قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير».
من هنا تبدو أهمية التركيز التربوي على الرفق واللين والحُسنى في أي خطاب أو تحاور، وقيمة التأكيد على نبذ القول الخبيث والسيء حتى مع غير المسلمين. قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125)، وقال: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (الإسراء: 53)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه».
8- المهاترات ومقابلة السلوك السيئ بمثله: قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 96).
ويعد اللغو وفضل القول من السلوكيات الواجب تجنبها، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان:63)، وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص: 55). كما يعد رفع الصوت من السلوكيات السيئة في الحوار، قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان 19).
9- الخصومة والحقد والعدوانية والشقاق: قال تعالى: {...رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر:10). إن المؤمن ليس حقودًا ولا يميل للعدوان، ويتجنب ما يدعو إلى الشقاق ويؤثر سلام الحوار لا المواجهة أو الصدام الجارح الذي لا فائدة منه ولا جدوى من وراءه.
ثالثًا، الموضوعية في الحوار
الموضوعية تعني عدم تغليب دوافع الذات وعواطفها ومصالحها وانحيازاتها الفكرية أو الاجتماعية على العناصر الحقيقية أو الطبيعية أو الواقعية للموضوع أو الموقف محل الاختلاف، بحيث لا يتحدد الرأي أو التقويم أو السلوك إزاءه بشكل تعسفي؛ وعلى غير ما يجب أن يكون عليه من صدق ودقة وأمانة وإخلاص وتوازن وإنصاف وعدم جنوح أو مغالاه أو تطرف.
إن الموضوعية تنعدم بالتأكيد في أي حوار تكتنفه الحالات السلبية التالية، التي من مسئولية التربية الإسلامية النهي عنها وتجنب الأفراد والجماعات الوقوع فيها:
1- استخدام الكذب والافتراء والبهتان والتزوير سواء مع المحاور أو مع مادة الحوار أو في أهداف التحاور، فالذي يواجه غيره بما يظنه جرمًا فيه ولا يكون ذلك جرمًا بل مجرد اتهام أو ادعاء كاذب، فإن ذلك ستنشأ عنه حالة إيذاء قاسية: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا} (الأحزاب: 58).
2- الديماغوجية في الحوار ولغة التضليل التي تستخدم التحريف أو الإيحاءات الموهمة أو التحويرات المفسدة أو حجب الحقائق أو التضخيم أو التصغير أو التعتيم، ونحو ذلك من الأساليب التي تضيع الحقيقة أو تبدد معالمها أو تشوهها.
3- اللجوء إلى الشائعات التي لا أساس لها من الصحة، أو افتعال القضايا الوهمية وإدخال الطرف الآخر أو جره إليها تعسفًا، وفي الحديث الضعيف: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ كَلِمَةً، وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ؛ لِيُشِينَهُ بِهَا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعَذِّبَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ».
4-إهمال المحاور لأدلة المخالفين وأسانيدهم، والاكتفاء بالثانوي أو الاستعانة في النقد والتقويم بما يكتبه أو يقوله خصوم أو أعداء الطرف الآخر، أو نقل رأي ذلك الطرف على لسان من لا يمكن اعتباره ممثلًا شرعيًا أو معبرًا بدقة عن موقفه الحقيقي.
5- التسرع في إصدار الأحكام قبل الوقوف العلمي على الحيثيات والادلة، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36).
ولهذا فإن التحلى بخصلتي (الأناة) و (التوقف) مطلوب في حوار المسلم قبل أن يبلغ مرحلة التقويم النهائي أو إصدار الأحكام. والأناة تعني الاحتياط في الأمور والنظر فيها بعمق وتأني في اتباعها، أما التوقف فهو من السكون قبل الدخول في الأمور حتى يستبين رشدها. والتأني سكون وطمأنينة بعد الدخول في الأمور حتى يؤدي كل جزء حقه.
والتحلي بهذه الطبائع لا يتوافر ما لم تكن التربية قد رسخت شرط الشرعية في غاية الحوار، أما إذا سيطرت روح الغلبة بغض النظر عن بلوغ الحق أوعدم بلوغه فلا يكون بالمقدور اكتساب صفة التحلي بالأناة والتروي في أي جدل أو حوار.
6- عدم إنصاف الطرف الآخر: فالموضوعية تعني أيضًا الابتعاد عن ظلم الآخرين وضرورة الالتزام بإنصافهم. فالموضوعية تعني العدالة يحكم بها المسلم لخصمه أو محاوره أو مخالفه، ولو كان ذلك الحكم سيؤدي إلى تسجيل نقاط تصير لصالح ذلك الطرف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (النساء: 135).
إن خلق الموضوعية بصفته سلوكًا علميًا لا يتأتى في الغالب دون تربية فكرية وأخلاقية وروحية عميقة يغرس في ظلها حب الحق والحقيقة وما يترتب عليها من التزام بالأمانة والدقة والتجرد وبث التفاعل والصدق والوضوح والإنصاف والشجاعة الأدبية.
رابعًا، المسئولية في الحوار
إن الحوار الإسلامي ليس حفلًا صراعيًا، ولا هو سباق تجتهد فيه الأطراف لتكون النتيجة في مضماره موزعة بين غالب ومغلوب، بل هو لقاء حساس يتوقف عليه بناء العلاقات الإسلامية، وامتحان لمبدأ التأليف والوحدة الذي يتصل بكيان الجماعة أو الأمة.
ومن هنا لا بد أن يخضع الحوار إلى هيمنة المسئولية كقيمة وسلوك تتحدد بموجبها علاقات المسلم وحواراته مع المسلمين الآخرين على النحو الذي ينسج مع ما تقتضيه المصلحة العامة وضرورات الائتلاف وواجب الوحدة.
إن الشعور بالمسئولية والالتزام بها كأصل من أصول التربية الحوارية مشروط بما يلي:
1- تلمس الأعذار للمخالف:
من الضروري في إطار العلاقات الحوارية أن يحمل المسلم روح التسامح وتلمس الأعذار العلمية أو الواقعية أو الموضوعية للمختلفين المخلصين انطلاقًا من إدراك المسائل التالية:
- أن الأطراف الأخرى المسلمة هي في الغالب تستند في موضوعاتها ومسائلها إلى المصادر الشرعية ذاتها التي يستند إليها المحاور.
- أن الغالبية الساحقة من أطراف الخلاف مقلدة لغيرها من العلماء أو الآباء، وبالتالي ليس لها دورٌ أساسي في تكوين الرأي أو الحكم المستنبط أو تشكيل الموقف أو النظرة التقويمية المختلف بشأنها حول موضوع ما. فالذي اختار الرأي أو الحكم أو الموقف أو النظرة التقويمية عن دراسة وعمق واقتناع ذاتي أصيل هم القلة القليلة.
- لكل إنسان إطار تربوي واجتماعي وتاريخي وإعلامي يحسن بالملاحظ أن يتقمصه، ثم النظر للطرف الآخر من خلاله لا من خلال ذات المخاطب ووعيه أو إطاره الخاص. وإذا كان هذا لا يعني تصويب الخاطئ من الآراء والمواقف والسلوكيات، إلا أن الأخذ به في الحسبان يتيح قدرًا من التسامح والابتعاد عن الحكم الباتر والنهائي.
- كل أعمال الإنسان الفكرية والعلمية تقوم في ضوء نياتها لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
وعلى هذا الأساس يجب أن يعتاد المسلم في ميدان الاختلاف على التفرقة بين الأعمال الصادرة عن حسن نية والأعمال الصادرة عن سوء نية، دون أن يعني ذلك أن الخطأ الصادر عن حسن نية يمكن القبول به، بل يعني أنه من الأفضل التعامل مع صاحبه من منطلق (ليس من أراد الحق فأخطأه كمن أراد الباطل فأصابه). واكتساب هذه الخصال والتربية عليها من شأنه أن يوجد جوًا مفعمًا بالثقة البعيدة عن الأحكام النهائية المسبقة، خاليًا من الشحناء والتوتر، وبالتالي، مناسبًا للتخاطب والحوار.
2- الصبر على المخالف:
لابد من التعود على الصبر مع المخالفين: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (النحل: 127)، فإذا كان هذا مطلوبًا مع غير المسلم، فإنه مع المسلم مطلوب من باب أولى، فالتطبع على سعة الصدر محبذ على النحو الذي يجب أن تهيمن المرونة والإيجابية على التعامل فلا يضيع طرف برأي مهما بدا ذلك الرأي غريبًا أو شاذًا.
ومن أهم نتائج التطبع على سعة الصدر القدرة على منح الآخر فرصة التعبير عن رأيه أو مواقفه بكل حرية، كذلك كفالة حق الرد له بعيدًا عن أية ممارسة قهرية أو مصادرة استبدادية لا تمت إلى الحزم الإسلامي بصلة.
واكتساب هذه النفسية مشروط بداية بنزع دعاوى احتكار الحقيقة والحق، تلك الدعاوى التي إذا ما هيمنت على ذهنية أحد دفعته إلى رفض إمكانية أن يشارك الآخرون في امتلاك الحقيقة أو الحق أو بعض أطرافهما.
3- الإقلاع عن استراتيجية إفحام الخصوم:
يفقد الحوار أو المناظرة قيمتهما الإيجابية حين يخطط لهما بشكل مبيت لإحراج الطرف الآخر أو (تعريته) أو دمغه، وبالتالي، إقصاؤه من الدائرة.
ضمن هذه الاستراتيجية لا يكون همً المحاور الحرص على استكشاف الصواب أو إظهار الحق، أو محاولة كسب الآخر أو حتى السعي للوصول معه إلى حل ما، بل مجرد إشباع شهوة التغلب وتحقيق الانتصار.
والحوار حين يبنى على هذه الاستراتيجية وضمن هذه الأهداف ينطوي ولا شك على نزعة ذاتية قوامها الأنانية وحب الإساءة أو الحقد، والافتقار إلى روح الهداية ومسئولية الإنقاذ؛ لهذا ففي ظل هذا اللون من الحوار يحق لنا أن نتوقع لجوء الأطراف إلى اتباع مختلف الأساليب والوسائل الجدالية المحقة والباطلة، النظيفة وغير النظيفة للوصول إلى الأهداف المقصودة.
كما لا يمكن في ظل اتباع أساليب ووسائل كهذه أن يكون ثمة معنى للتفكير في المصلحة العامة أو بحساسية الموقف؛ ذلك أن رغبة الجدل وروح المراء والمباهاة المرضية تظل تهيمن على من يلجأ إلى ذلك فلا يراعي مقتضيات الائتلاف، ولا يرعوي عن فتنة السقوط في مضيق الخلاف، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ».
وقال الإمام جعفر الصادق: اترك المراء وإن كنت محقًا وأنصف الناس من نفسك؛ فالمراء واللجاجة وما يتخللهما من جدل عقيم ولغة تناحرية من شأنها أن تعمق الفجوة وتزيد من رقعة التباعد.
إن المسلم المتحاور يمكن أن يترك المندوب أو المباح متجنبًا الوقوع في الخلافات الضارة، بل الأكثر من ذلك كما يقول الإمام الشاطبي: إنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم: فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص.
ولبلوغ هذه الروحية أو الذهنية في إدارة الحوارات والجدل لا بد من الإقلاع عن استراتيجية إفحام الخصوم التي لا تنطوي على نية البحث المخلص عن الحقيقة أو الحق، ولا الصدق في بلوغهما أبدًا، إنما هي نوازع النفس وشرور الهوى الذاتي تتسلل عبر النقاش والمجادلة ليس إلا.
إن هدف التربية الحوارية في الإسلام أن يكون غرض الجدل تلاقح الأفكار والتعاون على إظهار الحق وبلوغ الحقيقة وإعلاء مقاصد التبيان والهدى للدرجة التي يجب أن يستمرئ فيها المحاور المؤمن التنازل عن رأيه إن وجد الصواب مع الطرف المقابل، وأن يمتلك شجاعة الإقرار بذلك، بل التنازل عن حقائق أو أمور أو آراء كان يتبناها عند اكتشافه مجانبتها الحق أو الصواب.
كما تؤكد التربية الحوارية في الإسلام على لون آخر هو التنازل عن المستوى السلبي، أي حين يجد المحاور أن ثمة حقائق أو أمورًا واقعية أو عقلية يمكن الاحتجاج بها، إلا أن الاحتجاج بها بالأسلوب الواقعي أو العقلي قد لا يجدي مع الطرف الآخر، فيلجأ هنا إلى محاولة إقناعه والتأثير فيه بأساليب نفسية أو إنسانية قد تساعد على تحقيق هدف الهداية والإنقاذ بشكل أكثر فعالية، شرط أن يظل المنطق العقلي والموضوعي متصلًا على نحو ما بمنهجية الإقناع المذكور.
4 – الاهتمام بنقاط الالتقاء:
إن الشعور بالمسئولية لا بد أن يجعل المسلم وهو يتحاور مع المسلم كثير العناية بنقاط التلاقي وشديد التركيز على أوجه التطابق ومهتمًا بتجميع النقاط المتقاربة أو المشتركة، وهو يضع في اعتباره أساسًا واجب الوحدة ونبذ الفرقة وضرورة محاصرتها، وإن أمكن القضاء عليها.
ومن شروط ذلك: الاحتفاظ بنقاط الالتقاط والعزوف عن عادة التركيز على نقاط الخلاف أو تضخيمها، مع ضرورة السعي الحثيث لجدل خيوط التقارب، وتقريب المتشابه، وإيصال ما انقطع مما هو قابل للإيصال، ومن هنا يجب ألا يتم التعامل مع المعتقدات أو الاجتهادات أو الآراء التاريخية المخالفة عند المسلمين الآخرين كما لو كانت حقائق (عضوية) غير قابلة للتجديد أو التأويل أو التغير، فإذا ما حدث بالفعل تجديد أو تأويل أو تغير يقارب بين الآراء أو المواقف، فلا أوجب من تدعيمه بالتوافق والتلاقي وحسن القبول، لا بغض النظر عنه أو إقفال الأبواب دونه، كما يفعل مرضى الخلاف.
5. مراقبة الله تعالى دائمًا:
إن مراقبة الله تعالى وتعميق خوفه وابتغاء مرضاته هو الأساس الأقوى في أي حوار إسلامي. ومن مهمات التربية الحوارية في الإسلام جدل العلاقة بين التقوى والحوار، وتحسيس كل متحاور بخطر الفكر التفريقي والكلمة المدمرة، وضرورة مقاومة ما يعتري الذات من نزعات اللجاجة والمراء وروح الغلبة والمباهاة والعزة بالإثم ودوافع الانتصار الذاتي المشئوم وبالتالي إحكام الرقابة الإلهية على حركة المتحاورين سواء في حالات الخلاف أو في حالات الوفاق واستحضارها عند كل تبادل للكلمات، قال تعالى: «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (ق: 18).
6. التعود على ترك الأمور إلى الله تعالى عند بلوغ الحوار الباب المسدود:
في الحالات التي ينتهي فيها الحوار بين الأطراف الإسلامية إلى طريق أو باب مسدود ينبغي امتلاك النفس، والتعود في مثل هذه اللحظة على إنهاء الجدل العقيم، وقطع التجاذب اللامُجْدِي بشكل سلمي، بعيدًا عن إثارة الضجيج أو زرع الحزازات أو روح الانتقام، ثم الالتجاء إلى الله تعالى لهداية الجميع، وترك الحكم إليه: {قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} (الإسراء: 84).
خاتمة الدراسة
من كل ما تقدم يتبين لنا أن ضبط ظاهرة الاختلاف في إطار التأكيد على الحرية والتعدد ضمن الالتزام بالوحدة والأخذ بالشروط المنهجية السليمة في تكوين صورة عن المسلم الذي يحمل اجتهادًا آخر، ثم تحديد أخلاقيات الحوار وآدابه، وبالتالي الإيمان بالوحدة والعمل من أجلها والالتزام بمقتضياتها، كل تلك العناصر لا تُؤسس ابتداء إلا عن طريق التربية سواء في بعدها النفسي أو العقلي.
وفي ضوء ما قدمناه يمكننا أن نؤكد أن التربية الحوارية لا يمكن أن تؤتي ثمارها المرجوة ما لم يسندها مرتكزان أسياسيان هما: الايمان الديني النقى من الشوائب والذي يلفه منطق التواضع والتسامح وحب الخير وروح الإنقاذ من جهة، والوعي بمقتضيات المصالح العامة للمجتمع والأمة من جهة أخرى، وهذا يعني أنه لا بد من توافر الروحية التي تستكثر ادعاء احتكار الحقيقة وتتعشق الحق وتنصت إلى هديه، ولا تتبع إلا أحسن ما يقال. قال الله تعالى: {...فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} (الزمر: 17-18).
.