Business

للمربين.. الاتصال الصامت وأثره العميق في الآخرين في ضوء القرآن والسنة

 

يعد الاتصال نشاطًا أساسيًا في حياة الإنسان، لأن معظم ما نقوم به في حياتنا اليومية، إنما هو مهارات متنوعة لعملية الاتصال، سواء كنا نقوم بذلك بطريقة مقصودة أو غير مقصودة. ثم إن معظم معالم الشخصية الإنسانية تتحدد من خلال ممارستها الاتصالية، ذلك أن عملية الاتصال بين الإنسان وأخيه الإنسان تكشف عن طبيعة هذه الشخصية وخصائصها، الأمر الذي ينعكس على معرفة الإنسان وشعوره، ومن ثم على آرائه واتجاهاته ومعتقداته، لأن هذا الاتصال لا بد وأن يترك أثره في نفوس الآخرين سلبًا أو إيجابًا.

وليس شرطا أن يكون هناك كلام حتى تحدث عملية الاتصال، بل إن الاتصال قد يتم من خلال الصمت، أو ما يطلق عليه (لغة الجسم). فإن في عيون الإنسان، وتعابير وجهه، بطبعه إلى مخالطة الناس والتعامل معهم، وهو بحاجة إلى ذلك بحكم المصالح المشتركة، وحاجة كل إنسان لأخيه الإنسان، فلا يمكن له الاستغناء عن الآخرين في تحقيق مصالحه.

هذه هي الحقيقة التي جاء بها القرآن الكريم وبين أبعادها، تنبه إليها ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، وما تزال الأيام تثبت لنا صدقها، ودقه وصفها للسلوك الإنساني، فقد بين لنا القرآن الكريم أن الناس مهما تعددت أجناسهم وألوانهم فإن آباهم جميعًا هو آدم عليه السلام، فالقرآن يؤكد وحدة أصل الناس وصلة القربى بينهم، باعتبارهم أخوة ينحدرون من أصل واحد.

وفى دراسة للأستاذ الدكتور عودة عيد عودة، بعنوان: (الاتصال الصامت وعمقه التأثيري في الآخرين في ضوء القرآن والسنة) -2004-، يرى أن هذا التوحّد في الأصل والمنشأ، حرىَ به أن يقود الناس إلى التعاون والتفاهم والالتقاء على الخير والمحبة. فإن الاتصال ينقل الخبرات الحياتية في شتى المجالات، ويؤثر في العلاقات القائمة بين الناس، فهو بمثابة القلب للجسم، وبدونه يصير الجسم أشبه بالميت الذى لا حراك فيه.

 

البعد الديني للاتصال الإنساني

خيوط الاتصال الإنساني ممتدة في نسيج تاريخنا الإسلامي، وهو عملية قائمة نتخذ بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك أن الإنسان هو موضوع هذا الدين، والاتصال به يعبر عن الوظيفة الجوهرية للدين. ومن هنا فقد كان الاتصال بالناس هو المهمة الأولى لكل نبي ورسول وخاصة نبي هذه الأمة، وذلك استجابة لأمر الله تعالى في تبليغ رسالاته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: من الآية 67). فهو الأمر الحاسم للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملًا، وألا يجعل لأيّ اعتبار من الاعتبارات حسابًا وهو يصدع بكلمة الحق. ولكن القوة والحسم في تبليغ كلمة الحق، لا تعني الخشونة والفظاظة والبعد عن أدب الكلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس ثمة تعارض بين التوجيهين، فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه. والناظر في أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في التبليغ يجد أنه كان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة، ولكن طريقته في ذلك كانت هي الحكمة والموعظة الحسنة.

وقال سبحانه في موضع آخر مبينًا ضرورة قيام الرسول بتوصيل رسالته للآخرين: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: من الآية 44).

ولما كان كفار قريش يخشون اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس؛ حتى لا ينقل إليهم المبادئ التي أُوحيت إليه، فقد حاولوا جهدهم منع هذا الاتصال والتشويش عليه، فضربوا حوله الحصار، ومنعوه حرية الاتصال، وكان سبيلهم إلى ذلك أحد أمرين:

1- الحصار المادي:

وذلك بمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الاختلاط بالآخرين والتواصل معهم. ومن صور هذا الحصار ما كان من التضييق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاصرته هو وأتباعه، بل وحتى مع أقاربه في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنين دون أن يُسمح لهم بمجالسة الآخرين أو التعامل معهم بالبيع والشراء، وحرموا عليهم كل أنواع الاتصال والتعامل الأخرى.

ومن صور هذا الحصار المادي كذلك: منع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قراءة القرآن الكريم في المسجد الحرام والأماكن العامة، خشية أن يصل كلام الله إلى عامة الناس فيؤثر فيهم.

 

2-  الحصار المعنوي:

والذي تمثل في التشويش على عمليه الاتصال إن تمت، وذلك باتهام الرسول بأنه ساحر أو شاعر أو مجنون.

فقد روي أن نفرًا من المشركين كانوا يجلسون في طرقات مكة وفِجاجها، يقولون لمن سلكها: «لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة، فإنه مجنون». وربما قالوا: ساحر، وربما قالوا: شاعر.

وعلى الرغم من كل هذه المحاولات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استمر في اتصاله بالناس، ولم تَكِل عزيمته، ولم يمنعه شيء من هذه المحاولات.

 

أشكال الاتصال الإنساني

 للاتصال والتأثير في الآخرين أشكال متعددة، وكلما أجاد الإنسان هذه الأشكال كلما كان أكثر نجاحًا في بناء العلاقات الإنسانية. وبشكل عام فإنه يمكن الحديث عن شكلين من أشكال الاتصال، هما:

أولًا: الاتصال الناطق:

ويمكن القول بأن النطق هو من أكثر وسائل الاتصال والتأثير شيوعًا، وكلما نجح الإنسان في إجادة فن الكلام وامتلاك زمام الفصاحة والبلاغة، كلما كان أقدر على التأثير في الآخرين وتوجههم الوجهة التي يريدها. وهل كانت معجزة القرآن الكريم التي خضعت لها رقاب العرب إلا في بلاغته وفصاحته؟

وإذا كان للكلام أهمية وتأثير في كل عصر، فإن تأثيره في عصرنا هذا فاق كل حدود التصور، فالتواصل بين الناس بلغ أقصى مدًى له، فالذي لا يقرأ الصحف والمجلات والكتب، لن يهرب من تأثير أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية التي تدخل الكلمة المنطوقة والمصورة في كل بيت، والتي أصبحت قادرة الآن، ليس فقط على التأثير في أفكار الناس ومشاعرهم وسلوكياتهم، بل وعلى صُنعها أيضًا.

 

ثانيًا: الاتصال الصامت:

قد يتصور بعض الناس أن الاتصال الإنساني إنما يتم فقط بالكلام المنطوق، والحقيقة أن الناس يستعينون في تفاهمهم وتواصلهم بالوسائل السمعية والبصرية والإشارات والمحاكاة للآخرين. فالاتصال في الأساس هو عملية اجتماعية، ونحن لا نحقق الاتصال فقط بالكلام المنطوق أو المكتوب، وإنما أيضًا من خلال مجموعة من الأفعال المتعددة، كأن يتم التفاهم بالابتسامة، أو التجهم أو العبوس، أو عن طريق الإشارات أو بحركة الرأس، أو المصافحة باليد، أو هز المنكبين، أو المعانقة، أو بواسطة الدفع واللكم. إضافة إلى ذلك، فإن الاتصال يتحقق بأساليب أخرى مثل نوع اللباس والمظهر العام للإنسان؛ فهذه الأفعال في كثير من الأحيان تحقق الاتصال بين الناس كالنطق تمامًا، وهي قد تستقل عن الكلام المنطوق لتؤدي غرضها منفردة، وقد تكون مصاحبة للكلام في كثير من الأحيان.

ويمكن توضيح العلاقة القائمة بين الاتصالين الناطق والصامت من خلال الأمور التالية:

1-  الإعادة والتكرار: حيث يقوم الاتصال الصامت بإعادة القول المنطوق. ومثاله: قولك لشخص ما: تعال هنا، ثم تشير إليه.

2- التناقض: فيمكن للسلوك الصامت أن يناقض السلوك الناطق. ومثاله: أن يطلب المدير من موظفه أن يحضر له أوراقًا معينة أمام زبون، ثم يعطيه إشارة من عينه ألا يحضرها. فالموظف في هذه الحالة تلقى رسالتين: الأولى ناطقة، والثانية صامته؛ والثانية أكثر صدقًا بالنسبة للموظف.

3- البديل: فيمكن للاتصال الصامت أن يكون بديلًا عن الاتصال الناطق. فتعبيرات الوجه أحيانًا تغني عن الكلام. وقد قال العرب قديمًا: «رب إشارة أبلغ من عبارة».

4- التكميل: يمكن للاتصال الصامت أن يكون مكملًا أو معدلًا للرسائل اللفظية. مثل الابتسامة بعد طلب شيء من شخص، أو ضرب المنضدة بعد التفوه بعبارة معينة.

5-  التأكيد: كأن يقوم شخص بالتركيز على كلمات معينة أثناء حديثه ليؤكد أهميتها، وقد يصاحب ذلك تعبيرات الوجه الدالة على التأكيد.

6-  التنظيم: يمكن للاتصال الصامت أن يقوم بتنظيم وربط التدفق الاتصالي بين المشاركين. ومثاله: حركة الرأس أو العينين، أو تغيير المكان إلى مكان آخر، أو إعطاء إشارة للشخص ليكمل الحديث أو يتوقف عنه، فهذه تعد وظائف تنظيمية يقوم بها الاتصال الصامت.

والحقيقة أن الاتصال الصامت له مجموعة من المزايا، والتي يمكن الإشارة إليها في النقاط التالية:

1- أنه يعبر عن معلومات وجدانية في مقابل تعبير الاتصال الناطق عن معلومات تتصل بالمضمون. وتكوّن نماذج للاتصال الصامت قادرة على إيصال الحب والكرة والبغض والاهتمام والثقة والرغبة والدهشة والموافقة. وكذلك التعبير عن فئة عريضة من الوجدانيات الإنسانية التي يعبر عنها بطريقة لفظية.

2-  أن الاتصال الصامت ينطوي أيضًا على معلومات متصلة بمضمون الرسالة اللفظية، فهو يمدنا بأدوات لتفسير الكلمات التي نسمعها، وينطبق ذلك على نبرة الصوت مثلًا. فضلًا عن أنه يوفر المعلومات التي تفيد في فهم طبيعة العلاقة بين الأطراف المشتركة في عملية الاتصال.

3- أن الرسائل الصامتة تميز بصدقها. ويحتاج الإنسان عادة إلى نماذج كثيرة من صور الاتصال الصامت التى يصدرها الآخرون حتى يثق فيهم، إذ يتعذر في بعض الأحيان الحكم على الشخص من خلال نموذج واحد.

ولا بد من التنويه هنا بأهمية الاتصال الصامت وصدقه، ومما يدل على ذلك أن الشرع أخذ الصمت بعين الاعتبار وبنى عليه أحكامًا فقهية. ففي عقد الزواج– مثلًا– عدّ الشرعُ صمت البكر علامة على قبولها، وهذا يعني أن الصمت في مثل هذه الحالة أدى رسالة معينة لها مدلولها، ولا شك أنها رسالة تتسم بالمصداقية.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن كثيرًا من الناس يعدون الصمت مؤشر ضعف في كثير من المواقف الاجتماعية، وليس أدل على ذلك من أن الأعضاء الصامتين في جماعة ما يُنظر إليهم عادة باعتبارهم أقل فعالية وتأثيرًا. لكن هذا الاتجاه الشائع نحو الصمت أو نحو غياب الصوت الكلامي هو في حقيقته سوء فهم لطبيعة الاتصال ذاته. فالإنسان لا يستطيع إلا أن يتصل، ثم إن نماذج الصمت هي في حقيقة أمرها تعبيرات منظمة تشير إلى مجموعة معانٍ يستخدمها الإنسان أو يقصدها في احتكاكاته بالآخرين. ولذلك فإن الاتصال الفعال بين الأشخاص يعتمد إلى حد بعيد على الصمت؛ لأن الناس لا يتحدثون بصفة غير منقطعة، بل يتخلل حديثهم وقفات يفكرون خلالها فيما سوف يقولون، كما يقومون فيها بصياغة عباراتهم واختيار ألفاظهم.

ونورد فيما يلي بعض الحالات التي يحدث فيها الصمت، وبعض المعاني المتعلقة بها:

1-  صمت الإنسان عندما يكون غاضبًا أو مصابًا بحالة من الإحباط، ولا يريد أن يعبر بكلمة واحدة عن حالته هذه.

2-  الصمت أثناء الاستماع إلى حديث أو نشرة أنباء أو محاضرة أو رواية.

3- صمت الملل: والذي يعبر عن الانسحاب من موقف أو تقييم سلبي لما يجري، وعادة ما ينطوي على نزعة إلى التعالي الموجه إلى الطرف الآخر.

4- الصمت الذي يحدث عندما لا يستطيع الشخص أن يفكر في شيء يقوله.

5- صمت الشخص الذي يفكر في نقاط أثارها متحدث معين وهو يخالفه فيها.

6- الصمت عندما لا يفهم الشخص ما قاله المتحدث، إلى درجة أنه لا يستطيع أن يوجه سؤالًا استفساريًا.

7-  قد يكون الصمت علامة وقار وتبجيل أو تأمل.

8- الصمت الذي يعقب توجيه عبارة بطريقة قاطعة، وكأن صاحبه يقول: هذا هو كل ما يمكن أن يقال، ولا شيء أكثر من ذلك.

9-  صمت الأصدقاء أو المحبين عندما يلتقون ولا يحتاجون إلى أن يقولوا شيئًا لكي يعبروا عن مشاعرهم وعواطفهم، ويكتفون بالابتسامة أو التسليم باليد. وهذا النموذج من نماذج الصمت يعكس أعمق مستوًى للعلاقات الإنسانية؛ لأن الأشخاص الذين يعرف كل منهم الآخر بصورة جيدة لا يحتاجون إلى الكلام من أجل أن يكون اتصالهم وثيقًا، بل يكتفون بلمحة أو نظرة أو ابتسامة مفهومة.

10-  صمت البَليّة: وهو صمت مهيب، قد يلجأ إليه الإنسان في حالة إحساسه بالأسى والحزن العظيم، أو قد يضطر إلى اللجوء إليه عند مشاطرته لإنسان آخر في أحزانه.

11-  صمت التحدي: وهو الذي يحدث مثلا عندما يعاقَب الطفل ولا يعبر عن ألمه، أو يسأل سؤالًا ولا يجيب عليه أحيانًا.

والواقع أن رد الفعل تجاه كل نموذج من هذه النماذج ينبغي أن يكون مختلفًا، لأن كل نموذج منها يعبر عن شيء مختلف تمامًا عما يعبر عنه الآخر.

 

الصمت ودوره في عملية الاتصال والتأثير

الناظر في المنهج الإسلامي فيما يتعلق بقضية النطق والصمت، يجد أن الإسلام كثيرًا ما كان يحث على الصمت ويدعو إليه. ونظرًا لما قد يجره الكلام على الإنسان من مصائب وويلات، فقد عدَ الإسلام الصمت فضيلة ينبغي على المسلم الحرص عليها، وبين لنا أن الصمت في كثير من الحالات قد يكون خيرًا من الكلام.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا». وقال: «من سره أن يسلم فليلزم الصمت».

وقال: «ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن: الصمت وحسن الخلق».

ومن نصائح الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري: «عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دينك».

ونقل عن أبي الدرداء أنه قال: أنصف أذنيك من فِيّك، فإنما جعل لك أذنان وفم واحد، فاسمع أكثر مما تقول.

ويبين الإمام أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين أن هذا الفضل العظيم للصمت إنما يرجع سببه إلى كثرة آفات اللسان من الخطأ، والكذب، والغيبة، والنميمة، والرياء، والنفاق، والفحش، والمراء، وتزكية النفس، والخوض في الباطل، والخصومة، والفضول، والتحريف، والزيادة، والنقصان، وإيذاء الخلق، وهتك العورات. فهذه آفات كثير ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يجب ويكفه عما لا يجب، ففي الخوض خطر، وفي الصمت سلامة؛ فلذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول القول في الدنيا، ومن حسابه في الآخر. فقد قال الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)

وعلى الرغم من هذا التوجه الواضح نحو الحث على الصمت والدعوة إليه والترغيب فيه إلا أن هذا الصمت الذي يوجه نحوه الشرع، ليس هو الصمت السلبي، الذي يلجأ ليه صاحبه بدافع الانعزال عن الناس والترفع عنهم، أو الصمت الذي تسبح خلاله النفس في بحر من الوسواس والهواجس. بل هو الصمت الذي ينطلق خلاله الذهن يفكر في ملكوت السماوات والأرض.

فصمت التأمل والتفكير والاعتبار عبادة، لأن اللسان يمتنع خلاله عن النطق بما يشين، ويسبغ على القلب والنفس نعمة الخشوع لله عز وجل. فلا ينبغي للصمت أن يكون سلبيًا، فالصمت لا يعنى شرود الذهن وعدم الفاعلية، بل لا بد مع الصمت من حضور الذهن المتمثل في حسن الاستماع. لذا نجد أن القرآن الكريم قد ربط بين الصمت وحسن الاستماع في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204). فلا يكفي مجرد الصمت إذا قرئ القرآن، بل لا بد مع ذلك من حسن الاستماع؛ أي السماع للقرآن بتدبر ووعي.

وحسن الاستماع أدب لا بد من مراعاته، ولا يمكن لأحد أن يتقن فن الكلام ما لم يتقن فن الاستمتاع. وقديمًا قال أحد الحكماء لابنه: «يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث».

وقد نبه القرآن الكريم إلى ضرورة حسن الاستماع. قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 18). قال ابن عباس: «هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به».

فالإصغاء وحسن الاستماع مهارة لا بد من إتقانها، لما لها من أهمية كبرى في بناء العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات، وهي وسيلة مجدية في إيجاد الفهم المتبادل بين الناس، ومساعدتهم في حل مشكلاتهم، والتخفيف من آلامهم، وما يحسون به من ضيق وحزن.

جاء في كتاب (فن التفاوض) لوليام أروي ما نصه: «إن الإنصات عظيم الفائدة، فهو يفتح لك نافذة لترى ما يدور في عقل الطرف الآخر، كما يجعل الطرف الآخر على استعداد للإنصات إليك. فلو أن الطرف الآخر كان غاضبًا أو قلقًا، فلماذا لا تحاول أن تستمع إلى شكواه. لا تقاطعه حتى لو شعرت أنه مخطئ، أو أنه يهينك. ويمكنك أن تُشعره بإصغائك إليه عن طريق تركيز نظرك عليه، أو هزَ رأسك من آن لآخر، أو ترديد عبارات مثل: «نعم نعم» أو «أنا أفهم ما تقصده» وعندما ينتهي من حديثه، اسأله بهدوء إن كان لديه شيء آخر يريد أن يضيفه، وشجعه على أن يُفضي إليك بكل ما يضايقه، بأن تقول له مثلًا: «من فضلك استمر في حديثك» أو «ماذا حدث بعد ذلك؟». وبمجرد أن تنصت لما يريد الطرف الآخر أن يقوله، فغالبًا ما سيؤدي ذلك إلى تهدئته، ليصبح أكثر تعقلًا وأكثر استجابة بشأن حل المشكلة، واستصدار القرار المطلوب، فليس من قبيل الصدفة أنَ أفضل المحاورين غالبًا ما يسمعون أكثر مما يتكلمون.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنَ براعة الإنصات تكون بالأذن، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وعدم الانشغال بتحضير الردً قبل إتمام الفهم. فإن كثيرًا من الناس يخفقون في ترك أثر طيب في نفوس من يقابلونهم لأول مرة، لأنهم لا يصغون إليهم باهتمام، إنهم يستمعون بنصف أذن، ويحصرون همهم فيما سيقولونه لمستمعهم، فإذا تكلم المستمع لم يلقوا له بالًا، علمًا بأن أكثر الناس يفضلون المنصت الجيد على المتكلم الجيد.

 

في كتابه القيم (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس) يقول دايل كارنيعي: «إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك، ويسخروا منك عنما توليهم ظهرك، فهناك وصفة: لا تعط أحدًا فرصة للحديث.. تكلم بغير انقطاع وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه، فهو ليس ذكيًا مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث، واعترض كلامه».

وبالنظر في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نجد أنه كان نموذجًا رائعًا في الإصغاء وحسن الاستمتاع، فكان إذا حدثه أحد يتجه إليه بكليته، رجلًا كان أو امرأة أو صبيًا أو خادمًا. وبهذا السلوك القويم استطاع أن يجعل لنفسه مكانة عظيمة وجليلة بين أصحابه. بل إنه صلى الله وعليه وسلم كان يمتاز بأدب الإصغاء والاستمتاع حتى مع أعدائه، وللتدليل على ذلك نذكر هذه الحادثة:

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْفَرِدٌ نَاحِيَةً: أُرِيدُ أَنْ أَقُومَ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا لِيَكُفَّ عَنْ أَمْرِهِ هَذَا فَأَيُّهَا شَاءَ أَعْطَيْنَاهُ إِذَا رَجَعَ لَنَا عَنْ هَذَا، فَقَالُوا لَهُ: شَأْنُكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، وَكَانَ عُتْبَةُ سَيِّدًا حَلِيمًا فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: يَابْنَ أَخِي، إِنَّكَ مِنَّا بِحَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السُّلْطَةِ فِي النَّسَبِ وَالْمَكَانِ مِنَ الْعَشِيرَةِ، وَإِنَّكَ قَدْ آتَيْتَ قَوْمَكَ بِمَا لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ قَوْمَهُ بِمِثْلِهِ: سَفَّهْتَ أَحْلامَنَا، وَكَفَّرْتَ آبَاءَنَا، وَعِبْتَ آلِهَتَنَا، وَفَرَّقْتَ كَلِمَتَنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا لِمَالٍ تَبْغِيهِ جَمَعْنَا لَكَ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أَيْسَرَنَا، وَإِنْ كُنْتَ تَمِيلُ إِلَى الرِّئَاسَةِ رَأَّسْنَاكَ عَلَيْنَا وَلَمْ نَقْطَعْ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ لِرَئِيٍّ مِنَ الْجِنِّ يَعْتَادُكَ أَعْذَرْنَا فِي الْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنْكَ، فَإِنَّ الرَّئِيَّ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى مَا لا يَصِلُ مَعَهُ إِلَى تَرْكِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ يَسْمَعُ، فَلَمَّا سَكَتَ عُتْبَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمَعْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا أَقُولُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. {حم {1} تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3} بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (فصلت آية 1-4)، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ فِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَعُتْبَةُ مُصِغٍ يَسْتَمِعُ، وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَلَمَّا قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ، قَالَ لَهُ: «يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَدْ سَمِعْتَ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ فَأَنْتَ وَذَاكَ»، فَانْصَرَفَ عُتْبَةُ إِلَى قُرَيْشٍ فِي نَادِيهَا، فَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي مَضَى بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، ثُمَّ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ كَلامًا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلا السِّحْرِ وَلا الْكَهَانَةِ، فَأَطِيعُونِي فِي هَذِهِ، وَأَنْزِلُوهَا بِي وَخَلُّوا مُحَمَدًّا وَشَأْنَهُ وَاعْتَزِلُوهُ فَواللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِمَا سَمِعْتُ مِنْ قَوْلِهِ نَبَأٌ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ الْعَرَبُ كَفَيْتُمُوهُ بِأَيْدِي غَيْرِكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ لأَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُكُمْ وَشَرَفَهُ شَرَفُكُمْ، فَقَالُوا: هَيْهَاتَ، سَحَرَكَ مُحَمَّدٌ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ.

وهذه القصة كلها دروس في الذوق والأدب، نكتفي منها بالذي نحن بصدده، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يحسن الإنصات ويترك المقاطعة فحسب، بل منحه فرصة أخرى لإضافة أي شيء ربما نسيه أو أغفل عنه: «أوقد فرغت يا أبا الوليد؟» وهذا خلق رفيع، وأدب جم، يستدعي حسن إصغاء من الطرف الآخر.

 

صور للاتصال الصامت وعمقها التأثيري في الآخرين

نستعرض فيما يلي بعض صور الاتصال الصامت، مع بيان دورها في التأثير على الآخرين، مستنيرين في ذلك بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

أولًا: لغة العيون:

ليست العيون وسيلة لرؤية الخارج فقط، بل هي أيضًا وسيلة بليغة للتعبير عما في الداخل ونقله للخارج. قال الشاعر:

إن العيون لتبدي في نواظرها      ما في القلوب من البغضاء والإحن

وقال آخر:

تريك أعينهم ما في صدورهم        إن الصدور يؤدي سرها النظر         

والمعاني التي يمكن أخذها من العيون كثيرة، فهناك النظرات القلقة المضطربة، وغيرها المستغيثة المهزومة المستسلمة، وأخرى حاقدة ثائرة، وأخرى ساخرة، وأخرى مصممة، وأخرى سارحة لا مبالية، وأخرى مستفهمة، وأخرى محبة. وقد سمى القرآن الكريم بعض النظرات بأنها خائنة، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 19).

وتحدث القرآن الكريم عن لغة العيون، والمعاني التي تدل عليها النظرات الإنسانية. ومن ذلك قوله تعالى في وصف خوف المنافقين يوم الأحزاب: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ...} (الأحزاب: من الآية 19). أي: رأيتهم ينظرون إليك وقد دارت أعينهم في رؤوسهم خرقًا وخوفًا، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب لبه، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه.

فهذه الآية تبين درجة الخوف التي بلغها هؤلاء، حتى خرست ألسنتهم ونطقت عيونهم؛ وهي صورة شاخصة، واضحة الملامح، متحركة الجوارح، وهي في الوقت ذاته مضحكة، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان، الذي تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار.

وتحدث القرآن الكريم عن المعاني التي رسمتها الدموع المنهمرة من العيون تأثرًا بسماعها للقرآن الكريم. قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 83). أي: وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من جوانبها لكثرته، من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن الكريم، ولم يمنعهم ما يمنع غيرهم من عتو واستكبار، فهؤلاء نطقت عيونهم وأنبأت بما يدور في نفوسهم من مشاعر، قبل أن تنطق ألسنتهم بقولها: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.

 

ومن هنا فإن لنظرات العيون في أثناء العامل مع الآخرين أدبًا لا بد من مراعاته. هذا الأدب يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

1-  عدم النظر بعيدًا عن المخاطب؛ لأن ذلك يشعره باللامبالاة، أو عدم الاهتمام بالموضوع المتحدث فيه.

2- عدم التحديق بشكل محرج في المخاطب، وإذا كانوا مجموعة فمن الأدب تعميم النظر عليهم وعم تركيزه على أحدهم أو مجموعة منهم.

3- تجنب كثرة الرمش أثناء الكلام؛ لأن هذا يشعر بالقلق والاضطراب.

4- الابتعاد عن النظرات الساخرة؛ لأن هذا ينسف جسور الثقة مع الآخرين، ولا يشجع على استمرار التواصل معهم.

5- النظر بارتياح وعدم تشنج؛ لأن ذلك يشعر الطرف الآخر بالاطمئنان والثقة بصحبة الأفكار وسلامة الموقف.

 

ثانيًا: تعبيرات الوجه:

كما يستطيع الإنسان أن يعبر بعينه عما يريد، ويستطيع أن يستكشف ما في نفوس الآخرين من خلال التأمل في نظرات عيونهم، فإنه يستطيع أيضًا أن يفعل ذلك من خلال تأمل قسمات الوجه.

والوجه في مجموعة يكون نظامًا متكاملًا، فالجبهة والعينان والأنف والأذنان والشفتان والذقن والفم، توجد فيما بينهم علاقة متبادلة، بحيث يؤدون جميعًا أعمالًا وظيفية، لا يمكن، لا يمكن لأي منها أن يؤديها وحده أبدًا. بالإضافة إلى ما يسهم به كل منها في تكوين المظهر الكلي للوجه، والذي تؤدي تعابيره دورًا مهمًا بوصفها مصدرًا للبيانات المتعلقة بالحالات الانفعالية للإنسان، كحالات الفرح والخوف والدهشة والحزن والغضب والاشمئزاز والازدراء.

وغالبًا ما تكون المشاعر الإنسانية مقروءة في صفحة الوجه. ويرى في ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: «ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلاَّ أظهرها الله على صفحاتِ وجهه، وفلتات لسانه».

وتحدث القرآن الكريم في كثير من الآيات عن المعاني النفسية التي يمكن قراءتها في ملامح الوجه. فقال تعالى في بيان هيئة وجه الذي يستقبل مولودة أنثى وهو لا يريد ذلك: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل: 58). وإذا استمع شخص إلى كلام وهو منكر له، يظهر ذلك في وجهه كما يخبرنا القرآن الكريم. قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ} (الحج: من 72).

والمطلع على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة، يجد بما لا يدع مجالًا للشك، أنه كان القدوة في حسن الإخاء وجميل المعاشرة وطلاقة الوجه. فنظرًا لأهمية هذا الخلق الرفيع، وما انطوى عليه من الآثار الجليلة في نفوس الناس، وكونه من أبرز أسباب تجمع القلوب، وإشاعة الألفة والمحبة والوداد بين الإخوان، وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يحث على طلاقة الوجه في لقيا المؤمنين بعضهم بعضًا؛ ففي رواية عند أحمد من حديث أبي جري الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئا ينفعنا الله تبارك وتعالى به، قال: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء والخيلاء لا يحبها الله عز وجل، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن أجره لك ووباله على من قال». قال شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح).

وهذا التوجه النبوي على ما فيه من طلب التواد والتحاب بين المؤمنين، وطلب طلاقة الوجه وتهلله بالابتسام والبشر، باعتباره صورة معبرة عما في القلب من محبة وودَ، إلا أنه في الوقت نفسه فيه من الإيناس للآخرين، وكسب قلوبهم بما يحقق الألفة بينهم، ويسهل عملية الإصلاح لهم عند ذلك.

وقد كان وجهه صلى الله عليه وسلم– وهو خير قدوةٍ لنا– من أكثر الوجوه بشاشة وطلاقة، وهذا ما يشهد به جرير رضي الله عنه حين قال: «ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي». وقال صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة».

وحينما غفل صلى الله عليه وسلم يومًا عن هذا السلوك وعبس في وجه أحد الصحابة، عاتبه رب العزة قائلًا: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ (8) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)} (عبس).

روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدى لهم كثيرًا، ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له: عبد الله ابن أم مكتوم، يمشي ويناجيهم. فجعل عبد الله يمشي وهو يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علمني مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه، وتولى، وكره كلامه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله، امسك الله بعض بصره ثم خفق برأسه، ثم أنزل الله: {َبَسَ وَتَوَلَّىٰ}.

هذا العبوس الذي ظهر في وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يره ابن أم مكتوم، لأنه كان أعمى، ولكن الذي رآه هو الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظن أن تصرفه هذا لمصلحة الدعوة. لأنه كان يأمل في إسلام كبراء قريش، فأراد الله أن يبين له أن الدعوة لا ترتبط بأشخاص، وإنما هي مبادئ سماوية يتحاكم إليها الناس، ويَزِنُون أمورهم بميزانها، ويَدَعون موازين الأرض من نسبٍ وحسبٍ ومالٍ وجاه، وغير ذلك من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله. وكان لهذا العتاب أثره في نفس النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روي أن النبي– بعد نزول هذه الآيات– كان يُكرم ابن أم مكتوم، ويقول له إذا رآه: «مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي». واستخلفه على المدينة مرتين.

ولكنه صلى الله عليه وسلم– في الوقت نفسه– كانت تظهر في وجهه علامات الغضب، فيتمعر وجهه ويحمر إذا انتهكت محارم الله وحقوق الناس. ومن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قسمةً، فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. قلت: أما والله لآتين النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته وهو في ملأ، فساورته، فغضب حتى أحمر وجهه، ثم قال: «رحمة الله على موسى، أُوذي بأكثر من هذا فصبر».

ثم إن الابتسامة قد تكون في كثير من الحالات مفتاحًا للأبواب الموصدة، فهي رسالة واضحة للطرف الآخر تشعره بالارتياح والطمأنينة، مما يساعد على إتمام محادثة مشتركة ناجحة. ولعل أصحاب المؤسسات الناجحة كانوا ممن أدركوا هذه الطبيعة النفسية للإنسان، حيث اشترطوا على موظفيهم الذين يتعاملون مع الجمهور أن يبتسموا، وذلك من أجل كسب الزبائن والحصول على رضا العملاء. والمثل الصيني يقول: «إن الذي لا يحسن الابتسامة، لا ينبغي له أن يفتح متجرًا».

وأهمية الابتسامة أكبر من ذلك، فقد توصلت دراسة قام بها عدد من علماء النفس والاجتماع إلى ان الابتسامة من أسباب النجاح والسعادة، حيث تبين أن الشخص دائم الابتسامة هو أكثر الأشخاص جاذبية وقدرة على إقناع الناس، فضلًا عن أنه أكثرهم ثقة بالنفس.

 

ثالثا: الإشارات وحركات الجسم:

ربما تعد الإشارات أول وسيلة من الوسائل التي طورها الإنسان في اتصاله بالآخرين. وتنطوي كل ثقافة من الثقافات المختلفة على نسق من الإشارات ذات معانٍ ودلالات معينة. وهذه الإشارات إما أن تصاحب لغة الكلام، وإما أن تكون قادرة على أداء الرسالة بمفردها.

ويحدثنا القرآن الكريم عن مريم حين أتت قومها تحمل عيسى عليه السلام، فما كان منهم لما رأوها إلا أن اتهموها بالفاحشة، قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} (مريم).

فكان لا بد من بينة، إذ كيف يمكن لمريم أن تدافع عن نفسها في ظل هذه الظروف؟ فأشارت إلى طفلها الرضيع لينطق ببراءتها؛ أي أنها أجابت على اتهامها بالإشارة، فهي لم تطلب منهم أن يكلموا الرضيع، ولكنهم فهموا ذلك من إشارتها، كما هو واضح من ردهم: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}.

ويبين لنا القرآن الكريم أن في حركات الجسم ما يدل على سلوك معين من قبل صاحبه. فالمشي بصورة عامة– من حيث حركة الأرجل– واحد عند بني الإنسان، ولكن في جزيئاته التفصيلية ما يدل على سلوك معين لصاحبه:

- فقد يكون ذا دلالة على الكبر: {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} (الإسراء: 38).

- وقد يكون ذا دلالة على الحياء: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (القصص: من الآية 25).

-  وقد يكون ذا دلالة على السكينة والوقار: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: 36).

وفي سورة نوح يبين القرآن الكريم كيف كان رد قوم نوح عليه السلام على دعوته. قال تعالى على لسان نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (نوح: 7). فقد عبر قوم نوح عن موقفهم الرافض لهذه الدعوة، بحركات وإشارات تدل دلالة واضحة، ليس فقط على مجرد عدم قبول الدعوة، بل وحتى على عدم الاستعداد لسماعها من نوح عليه السلام.

ويمكن أن تكون الحركات والإشارات علامة مساعدة على توضيح المعنى المراد. ونجد هذا الأسلوب واضحًا في الحديث النبوي الشريف؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يبين مدى قرب كافل اليتيم منه قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى». وروى مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات».

 

رابعًا: المظهر واللباس:

لِلِبَاسِ الإنسان ومظهره الخارجي دور أساسي في إعطاء الانطباع الأول عن صاحبه، فالإنسان أول ما يَنظر، يَنظر إلى مظهر وشكل من يتعامل معه، فيترك ذلك انطباعًا في نفس الناظر وأثرًا على طبيعة تعامل الناس بعضهم مع بعض؛ فالملابس تؤدي دورًا مهمًا في عملية الاتصال، فهي تعبر عن الانفعالات والمشاعر فضلًا عن أنها تؤثر في سلوك من يرتديها وسلوك الآخرين نحوه، ومن ثم فهي تعد ذات قمة اتصالية كبيرة.

ولعل قارون كان ممن أدركوا ما للملابس والجواهر والمظاهر البراقة من أثر في الآخرين، وعلى هذا الأساس نفهم تصرفه الذي أخبرنا عنه القرآن الكريم: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (القصص: من الآية 79). وبالفعل كان لهذا المظهر الخادع أثر في النفوس الضعيفة إذا قرأنا بقية الآية الكريمة: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

فإذا كان لِلِّبَاس والمظهر الخارجي هذا الأثر في نفوس الآخرين، فعلينا استغلال مظاهرنا الخارجية للتوجيه نحو الخير والتأثير الإيجابي، لا كما فعل قارون. ويكون المظهر الحسن في نظافة البدن، وحسن الهندام، وطيب الرائحة. ولقد طالب الإسلام المسلمين بذلك كله، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31). وروى الإمام مالك عن عطاء بن يسار قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أخرج، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان». ويروي الإمام الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا- أُرَاهُ قَالَ- أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ».

وعند إمعان النظر في القرآن الكريم، نرى الكثير من النماذج التي يجمع فيها أكثر من شكل واحد من أشكال الاتصال. وسأشير هنا إلى نموذجين:

الأول: موقف أخوة يوسف مع أبيهم في الإخبار عن قصة الذئب، قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18)} (يوسف).

وفي هذا النص القرآني يحاول أخوة يوسف جمع أكبر عدد ممكن من عناصر الاتصال في محاولة لإثبات صحة الرسالة التي يريدون نقلها إلى أبيهم، فعلى الرغم من أنها رسالة كاذبة في أصلها، إلا أنهم حاولوا التمويه من خلال استخدام نوعي الاتصال: الناطق والصامت، وذلك على النحو الآتي:

1- الاتصال الناطق: وذلك من خلال إخبار والدهم بصريح القول إن الذئب قد أكل يوسف بعد أن تركوه عند متاعهم.

2- الاتصال الصامت: والذي كان من خلال استخدام لغة العيون، حيث كان البكاء بين يدي والدهم– كما نفهم من النص القرآني– هو الرسالة الأولى التي نقلوا الخبر من خلالها. ثم استخدموا لغة الإشارة، وذلك من خلال الدم الذي جاءوا به على القميص، في محاولة للتدليل على صدق دعواهم.

ولا شك أن نقل الخبر بهذه الصورة يجعله أكثر قوة وتأثيرًا. فعلى الرغم من أن البكاء لم يكن إلا دموع التماسيح، وأن الدم كان كاذبًا– وبغض النظر عن اقتناع سيدنا يعقوب عليه السلام بذلك– إلا أن إخوة يوسف ما جاءوا بهذه القرائن إلا لعلمهم بأنها تدعم موقفهم وتقوي الرسالة التي يريدون نقلها.

 

الثاني: موقف الوليد بن المغيرة في الحكم على القرآن، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} (المدثر).

وفي هذا النص يبين القرآن الكريم الرسائل الناطقة والصامتة التي صدرت عن الوليد بن المغيرة، حينما قال مقولته الجاحدة بحق القرآن الكريم، فعلى الرغم من اعترافه الصريح أمام زعماء قومه، بما للكلام القرآني من حلاوة وطراوة، وبما له من تميز وعلو على كلام البشر، إلا أنه تحول عن هذا الموقف. ويصور القرآن الكريم كيف كان هذا التحول، ويبين كيف أن الوليد استخدم أكثر من شكل اتصالي للتعبير عن موقفه، وبذلك على النحو الآتي:

1- الاتصال الصامت: حيث استخدم أولًا لغة العيون، وذلك من خلال نراه في عيون الحاضرين في محاولة لاستخراج آرائهم في انتحال ما يصفون به القرآن، وكأنه يبحث في العيون عن أي طعن بغرض توجيهه للقرآن- وهذا هو معنى النظر الوارد في النص- ثم ظهر ما يدور في خلجات نفسه في العلامات التي ظهرت على صفحة وجهه، فقد تحول وجهه إلى العبوس الدال على صعوبة التحول في قول الحقيقة إلى الكذب والافتراء، فقطب وجهه لما ضاقت عليه الحيل ولم يجد مطعنًا. ثم تحول وجهه من العبوس إلى البسور فكلح وتغير لونه كمدًا حين لم يجد ما يشفي غليله من طعن في القرآن لا ترده العقول.

2-  الاتصال الناطق: والذي جاء لاحقًا بعد إفلاسه من خلال التصريح المشؤوم، الذي قال فيه بأن القرآن الكريم سحر يروى ويتعلم من السحرة، وأنه ليس من قول رب العالمين بل هو من قول البشر.

ولا شك أن اجتماع أشكال الاتصال السابقة في عملية اتصالية واحدة، جعل المعنى المنقول أكثر وضوحًا وأكثر دلالة على الموقف. وهو أوضح بكثير مما لو كان التعبير عنه بمجرد كلام لفظي.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم