Business

العولمة الثقافية من منظور تربوي إسلامي

 لم يبرز على سطح المجتمع العالمي تيار فكري أو اقتصادي أو مصطلح علمي أو إنساني أثار الحيرة والقلق مثلما فعل «مصطلح العولمة»، فقد ظهر هذا المصطلح بعد انتهاء عصر القطبية الثنائية، وبروز ثورة المعلومات فهذا المصطلح ليس بالوضوح الذي يتشدق به المتشيعون له، فهو مصطلح شاع بسرعة تفوق شروط تشكل المصطلح، وهو لفظ مشحون بعدد من المعاني قد يعني كل شيء ولا يعني شيئًا بعينه.

وفى دراسة بعنوان: «العولمة الثقافية من منظور تربوي إسلامي»، للدكتور عماد عبد الله الشريفين، الأستاذ بقسم الدراسات الإسلامية، كلية الشريعة، جامعة اليرموك، بالأردن، هدف إلى بيان الآثار الايجابية والسلبية للعولمة الثقافية، وسبل التعامل معها للحد من تأثيراتها السلبية.

 

مفهوم العولمة

لقد تعددت تعريفات العولمة من قبل الباحثين والمهتمين، وذلك حسب توجهاتهم الفكرية، والعقدية، وثقافاتهم المختلفة، وتعدد الزوايا المتعددة التي ينظر منها الباحثون والمفكرون، والمتأمل في تعريفاتها يخرج بنتائج لعل من أهمها:

  • تعدد المفاهيم المطروحة حول العولمة، وأن هذا التعدد يدل على أنها تنطلق من خلفيات ثقافية مختلفة.
  • العولمة مفهوم أو ظاهرة ذات أبعاد عديدة، سياسية، وثقافية، واجتماعية تؤثر في حياة الأفراد والجماعات.
  • العولمة تتضمن قيمًا، واتجاهات، وأفكارًا على الدول والشعوب أن تتبناها، وتتكيف معها.
  • العولمة مصطلح ينتهي بتفريغ المواطن من وطنيته، وانتمائه الديني، والاجتماعي، والسياسي، وبعبارة أخرى تضاؤل الاعتبارات المحلية من فكرية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، في تشكيل حياة الناس لصالح انعكاسات دولية عامة.
  • العولمة تتضمن زيادة وتيرة الاتصالات العالمية وتظهر تجلياتها في كل مكان ومن هذه التجليات.
  • الإنترنت الذي احتل عقول الناس ونفوسهم وأزال الحدود.
  • نشوء منظمات تحمل إيقاع العولمة مثل «أطباء بلا حدود»، «مراسلون بلا حدود».
  • تحول المنظمات الدولية إلى مؤسسات يمارس فيها الأقوى عمليات الاغتصاب الثقافي، والسياسي.
  • الاختراعات التي تقوم على استغلال الآخر، وهذه الاختراعات تحمل بصمات المخترع وأنماطه الاجتماعية وعاداته.

 

الآثار السلبية للعولمة الثقافية من منظور تربوي إسلامي

1- غياب مفهوم التوحيد وتسلل الشرك والصنمية (عولمة الدين):

التوحيد عصب التصور الإسلامي للكون والحياة والوجود، وعصب الوحدة الإسلامية بين الشعوب، ومن الطبيعي أن تستهدفه العولمة الثقافية، فيصبح المسلم بلا دين أو يعدُّ الدين شكلًا دون مضمون، فهذا الخلل يقود إلى حالة من الشركيّات والصنميّات وعبادة غير الله، ويسلب المسلم روحه وقدراته الفاعلة في الوحدة الإسلامية، وتهدر كرامته وحريته وتفقده القدرة على الفعل.

إن أعظم ما أهدته هذه الأمة للناس هو التوحيد بكل ما يحمل من معانٍ وقيم وأخلاقيات، والمسلم المعاصر الذي يتأثر بالغزو الفكري، وصار يستمد تقويمه لنفسه من نظرة أوروبا إليه، لن يحس بالقيمة الحقيقية للتوحيد وكونه أعظم هدية تهدى للناس، تهديهم إلى خير الدنيا والآخرة، وتضبط سلوكهم وفكرهم ومشاعرهم بالضوابط الصحيحة، فترفع الإنسان وتكرمه، وتصفه في وصفه اللائق باعتباره الخليفة المكلف بعمارة الأرض. لقد كان للتوحيد أثره الواقعي في حياة المسلمين وفي صنع الحركتين العلمية والحضارية.

وعولمة الدين تكون عن طريق نشر العقيدة المسيحية في العالم «تنصير العالم»، وهذا هو هدف الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية وغيرها... ولعل بعضهم يقول: إن المسلمين في البلاد العربية والإسلامية لا يتحولون إلى نصارى، والإجابة: إن التنصير لا يطمع في تحول المسلم إلى النصرانية بل يكتفي أن يشككه في مسلماته، ويزعزعه في مبادئه.

والعجيب أن العولمة الدينية أو تنصير العالم والذي تقوم به الكنائس المختلفة إنما يصب في المحصلة النهائية لصالح الصهيونية العالمية. فأخطر ما تحمله العولمة الثقافية، تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية (التوحيد) فهي تدعو إلى وحدة الأديان؛ أي دعوة تنقض عقيدة المسلم من أساسها وتهددها، وتؤدي إلى إدخال الانحراف في أنواع التوحيد المختلفة.

 

2- العدوان على الهوية الثقافية للأمة:

إن الهوية العربية الإسلامية التي تشكل الحضارة العربية الإسلامية تعرضت لمحاولات غزو وطمس، وتفتيت، وخاضت الأمة معارك عسكرية من أجل المحافظة عليها. ولعل أهم المحاولات الغزو الصليبي، والغزوات التتارية المتتالية، ثم الغزو الأوروبي، ثم الهجمة الصهيونية، وفي هذا العصر جاءت العولمة الثقافية التي تضع الأمة في حالة خوف من فقدان الهوية، فمخاطر العولمة الثقافية على الهوية إنما هي مقدمة لمخاطر أعظم على الأمة الإسلامية، واستقلالها، وإرادتها والخطورة تأتي من سببين: الفارق الكبير بين مسلماتنا الثقافية، ومسلمات تحاول العولمة الثقافية فرضها، ومثال ذلك أن هويتنا الإسلامية تحظر على المرأة إبداء شيء من جسدها للرجال، في حين أن ثقافة الغرب تحاول سحب الفتاة لتعاشر الرجال معاشرة الأزواج. إن النخب الثقافية في العالم الإسلامي تباينت مواقفها من العولمة الثقافية، فيرى بعضهم أنها فرصة للتخلص من التقاليد البالية، في حين يرى بعضهم الآخر أنها خطر داهم ومحدق.

إن العولمة الثقافية تطاول على هويات الشعوب، وترمي إلى تعميم نموذج من السلوك، والقيم، وطرائق العيش، فترمي إلى طمس الهوية الثقافية عن طريق احتلال العقل، والتفكير للإنسان المسلم. ويمكن بيان آثار العولمة الثقافية فيما يخص الهوية الثقافية للأمة بالآتي:

  1.  انحسار الثقافة المكتوبة وانتشار ثقافة الصورة: الثابت أن ثقافة العولمة تتوسع في مناخ حاد من التراجع للثقافة المكتوبة على صعيد الإنتاج والتداول، فثقافة العولمة هي ثقافة ما بعد المكتوب، ثقافة ميلادها موت ثقافة المكتوب، وميلاد لثقافة الصورة، فالصورة هي المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد، فهي نظام وعي الإنسان بالعالم، إنها المادة الأساسية التي يجري تسويقها على أوسع نطاق، فتلعب الدور الذي لعبته الكلمة في سائر التواريخ الثقافية. إن هجوم ثقافة الصورة على الإنسان يجري في تراجع واضح في معدلات القراءة في العالم مما يعني ضمورًا متزايدا في حقل المعرفة، وضعفًا بيننا في التكوين المعرفي للإنسان، إن سيطرة نمط الصورة: النمط التلفزيوني على النمط المكتوب يعد تهديدًا للقيم والرموز، فوسائل الإعلام المرئية هي الناقل الأساسي للثقافة، وتساعد على نشر الأنماط السلوكية، وتعتمد هذه الوسائل على الإثارة، والمتعة والتسلية من خلال الصوت، والصورة، والحركة.
  2. تغيير مفهوم الثقافة وانتشار قيم ثقافية واوضاع اجتماعية جديدة: يشير مفهوم الثقافة إلى أنها مجموعة الظواهر، والرموز، وأنماط العيش، وطرق الإنتاج، والقيم، والعقائد الخاصة بمجتمع من المجتمعات، أي هي تعبير عن النظام الاجتماعي السائد في المجتمع. وفي ظل العولمة الثقافية لن نستطيع القول إن الثقافة تعبر عن النظام الاجتماعي، فالناس يحملون قيمًا وأفكارًا خرجت من ثقافة الصورة، ولم تخرج من نظام اجتماعي، فلا بد أن يفكر العالم في معنى للثقافة يكون خارج حدود الصلة بينها وبين النظام الاجتماعي، فالثقافة أمر لا يصح التفريط به، وهذا يعني أن الاختراق الثقافي سيكون من داخل الثقافة نفسها، أي بالارتكاز على قواعد ومن أهمها، تزين الفردية للناس: وجعلهم يشعرون أن وجودهم مرتبط بالفردية، وهذا مخالف للرؤية الإسلامية، خاصة أنها ترى في الحياة الاجتماعية موردًا من أهم موارد سعادة الإنسان، والسعي المتواصل لتهميش سلطة الدولة في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية.

وبهذا الاختراق فإن العولمة الثقافية ستفتت نظام القيم، وتكرس معايير جديدة من النفعية، والفردية، والأنانية، والمادية، وستركز على الجسد، وتقتل الروح، وستعم قيم الاستهلاك، والمتعة، والحياة، وينتشر الفساد، ويزداد الغلاء، وتضيع القيم العامة، ويزداد التفكك الأسري والتشرذم الاجتماعي. فالعولمة الثقافية سوف تخلق مجتمعًا تحكمه الخسارة والربح، أي قوى السوق، وهذا ما يؤدي إلى تعميق الفجوة بين قمة الهرم وقاعدته.

 

3- التأثير في اللغة العربية

العولمة الثقافية أثرت، وستؤثر في اللغة العربية، بعد أن أخذت اللغة الإنجليزية موقعها في العلم، والتكنولوجيا، فالعولمة تسعى إلى تهميش اللغات، وبخاصة اللغة العربية؛ لأن اللغة العربية من أهم أسباب الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، وترسيخ الوحدة الإسلامية.

فالقائمون على العولمة الثقافية يجعلون همهم ابتعادنا عن لغتنا الأم، ساعين قدر مستطاعهم أن يكون كلامنا أو نصفه من كلامهم ولغتهم لهثًا وراء طمس معالم هويتنا العربية والإسلامية، بل يريدون بعد ذلك أن ندخل كلامهم في كتاباتنا وأن نعلم أبناءنا لغة غيرنا حتى ينسوا لغتهم.

إن اللغة العربية في عصر العولمة فاقدة الهوية، أمشاج وأخلاط فصيحة أحيانًا، ومملوءة باللحن والخطأ أحيانًا أخرى، لغة عربية في حروفها وألفاظها، وفي استعمالاتها وتركيبها تتسم بالاعوجاج والانحراف، الأمر الذي أخرجها من اللغة الواحدة إلى اللهجات المتعددة، التي هي خليط من كلمات أجنبية دخيلة وألفاظ عربية منحرفة، أي لغة عامية يُدعى إلى التحدث والكتابة بها صباح مساء، فالدعوة إلى العامية تمتد جذورها في التاريخ، وكان أول من دعا إلى التحول من الفصيحة إلى العامية المستشرق الألماني «لهام سميث» في أواخر القرن التاسع عشر، والسؤال الذي يطرح ما السبب في هذه الدعوة القديمة الجديدة، فتارة يدعى أن اللغة الفصيحة صعبة لا يمكن فهمها، وهذا أشبه بمن ينادي بإلغاء العلم لأنه صعب المنال وتوسيع دائرة الجهل لأنه سهل، فالذين ينتصرون للعامية إنما ينتصرون للمزيد من التخلف والجهل.

أما الهدف من تلك الدعوى القضاء على اللغة العربية وصولًا إلى القضاء على العروبة والإسلام، فالعروبة رابطة مضادة للعولمة التي تستلزم القضاء على أي رابطة غيرها، فمصطلحا العروبة والأسلمة يشكلان خطرًا على العولمة باعتبارهما عنصرًا من عناصر القوة للأمة العربية والإسلامية.

إن اللغة العربية من عوامل وحدة المسلمين وانسجامهم، فاللغة هي الثقافة والحضارة وهي العلم والتنمية والتفكير والتعبير وهي الشخصية بكل قسماتها وسماتها وذاكرتها، وهي تمثل أرقى أنواع القدرة على الاختيار والانتقاء، وهي الأداة الأوسع والأرحب لممارسة عمليات التفكير والإبداع، فهي مرآة الأمة تعكس حركتها وتاريخها، ولهذا يقولون دائمًا أن «اللغة وعاء الفكر» لهذا كله تستهدف العولمة الثقافية اللغة العربية وعليه فالمطلوب اليوم أن تتقدم اللغة العربية على اللغات الأجنبية لتحل محلها بالتعريب والترجمة وملاحظة المستجدات وكل اعتراض على التعريب ينخرط في سلة الاستعمار ويحمل في طياته بصفة مباشرة أو غير مباشرة الدعوة إلى نشر اللغة الأجنبية.

 

4- عولمة الأسرة

الأسرة بوجه عام هي الجماعة الصغيرة ذات الأدوار المركزية، يربطها رابط الدم، وتشترك في سكن واحد، وتتعاون اقتصاديًا فيما بينها، وهي الحصن الباقي إذا انحرف المجتمع، فهي التي أبقت شعلة الإيمان في الصدر زمن الحكم الشيوعي للبلدان الإسلامية، وهي الشعلة الباقية لإحداث الوحدة الإسلامية من خلال غرس القيم الإسلامية المتعلقة بالأمة، وأول ما تسعى إليه العولمة الثقافية تفكيك الأسرة من خلال تحولات اجتماعية، وثقافية عاصفة، والتفكك المنشود هو فقدان الأسرة لقدرتها على الاستمرار كمرجعية قيمية، وأخلاقية للناشئة، وذلك بسبب نشوء مصادر جديدة لإنتاج القيم والأخلاق في المجتمعات.

ولا سبيل لنا نحن المسلمين من النجاة من خطر «عولمة الأسر» وتفكيكها إلا بالاستمساك بقيم الإسلام، وأحكامه، وأخلاقه، وكذلك لا بد من الوقوف بحزم ضد أشكال العولمة الأسرية؛ لتعارضها مع إسلامنا، وقيمنا، وأخلاقنا، وعاداتنا، وتقاليدنا.

ولا بد من الإشارة إلى أن المؤسسات التقليدية مثل الأسرة، والمدرسة لم تعودا قادرتين على توجيه الأطفال، فهم يواجهون عدة جبهات وقنوات تعمل على التأثير فيهم، فقد بدأ الطفل يفقد الرؤية السليمة لكل ما يحيط به من مواقف، وقيم، واتجاهات، فوسائل الإعلام اقتطعت دورًا كبيرا من الوظيفة التقليدية للأسرة.

 

5- التأثير في تطور الحضارات وتذويب بعضها

العولمة الثقافية تشكل خطرًا على الثقافة الإنسانية عمومًا، والعربية والإسلامية خصوصًا، فالحضارات الإنسانية لم تتطور إلا بفعل تنوع الثقافات، وعندما تريد مجموعة معينة من البشر أن تفرض ثقافتها على الأمم الأخرى، فإنها بذلك تريد أن تجعل من بقية الشعوب خدمًا وأشباه آدميين، وهذا ما يتناقض مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومع خصائص الإنسان كمفكر ومبدع.

إن التجانس الثقافي إبادة ثقافية، وانقراض للإنسان، والتعددية الثقافية ثروة كبيرة يجب على الإنسان الحفاظ عليها، فالتنوع ضرورة من ضرورات الحياة يجب المحافظة عليه، وهو سنة من سنن الله في الكون، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: 22) وقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (المائدة: 48).

فالعولمة الثقافية تهدف إلى تذويب الحضارات التي تحمل قيمًا مضادة لقيم الحضارة الغربية، مثل الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية، ولعل هذا ما يريده الكاتب الأمريكي «صموئيل هانتجتون»، والتذويب يكون تحت شعار إزالة الحواجز بين الشعوب، وهذا يدل على هدف أعمق من الحضارة، ألا وهو تشويه الإسلام أو القضاء عليه بشكل كليّ.

 

6- التأثير في العملية التربوية

إن محاولة محو الثقافات خروج على طبيعة الأشياء، وتمرد على سنن الفطرة، وخرق للقوانين المتعارف عليها عند البشر، بل تهديد للسلم والأمن العالميين، فالثقافة لها كرامة وقيمة يجب احترامها، والمحافظة عليها، فمن حق كل شعب أن ينمي ثقافتة، ويحافظ عليها؛ لأنها عنوان حضارته، والمس فيها مس بالحضارة بشكل مباشر، فإذا تم الاختراق الثقافي سهلت التبعية السياسة والاقتصادية والتربوية.

فالعولمة الثقافية تهدف إلى صبغ العالم كله، وخاصة الأمم القادرة على التأثير والمنافسة بصبغتها القائمة على المادية، وإعلاء الفردية، والنفعية، والتشرذم الاجتماعي، ونشر الفساد، وقتل الروح، والتحرر من كل المبادئ والقيم الإسلامية والإنسانية السليمة، وأوجدت العديد من الآثار، والنتائج في حياة الفرد، والمجتمع بمختلف مؤسساته وأطيافه ويمكن الحديث عن آثار العولمة الثقافية في العملية التعليمية بالآتي:

  1.  إن العولمة الثقافية أحدثت فجوة بين مطالب المجتمع، وأداء المؤسسات التربوية، مما يهدد بأزمة تربوية خانقة:
    ومن أبرز ملامح هذه الأزمة، ضعف العلاقة بين التعليم، ومؤسسات سوق العمل، وبالتالي انتشار البطالة بين خريجي المؤسسات التربوية، وكذلك عدم تحقق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية وافتتاح فرص التعلم بالكمبيوتر للبعض دون الآخر. وازدواجية تعليم النخبة والعامة، كذلك أدت إلى دخول التجارة إلى حقل التعليم مما يستدعي وضع أهداف تربوية تناسب عصر العولمة الثقافية وهذا ما بدت تتكشف صوره في دول العالم الثالث.
  2.  العولمة الثقافية أدت إلى إخضاع النظم التربوية التعليمية لشروطها وهيمنتها:
    أدت العولمة الثقافية إلى فرض نماذج وفلسفات تربوية خاصة، وأسهمت في تغيير اتجاهات الأفراد من خلال اختراق المنظومة التربوية المحلية، وأوجدت بالتالي تناقضات بين الأصالة والمعاصرة، مما يؤدي إلى تغير ملامح المنظومة التربوية الإسلامية لصالح منظومة العولمة الثقافية.

 

الآثار الإيجابية للعولمة الثقافية من منظور تربوي إسلامي

1- الحاجة إلى المرجع الذي نستطيع من خلاله تقويم أوضاعنا:

العولمة الثقافية تحدث هزة في كيان العالم الإسلامي من خلال بروز حاجة إلى معتمد نستطيع من خلاله أن نقوّم أوضاعنا ومشكلاتنا ونحصّن أنفسنا من الآثار السلبية للعولمة الثقافية، وهذا المرجع هو المنهج الرباني المتمثل في كتاب الله وسنة نبيه.
إن تحديد المرجعية في كتاب الله وسنة نبيه يعصم الأمة من خطأ تعدد المرجعيات المذهبية والطائفية أو حتى الشيخية؛ لأن آراء المذاهب أو الطوائف أو العلماء والمشايخ لا تشكل مرجعية لعامة الناس، فرسالة الإسلام رسالة عالمية جاءت لخير الأمم والشعوب فلا فرق بين عربي وعجمي، ودعت إلى القضاء على الفوارق العرقية والعنصرية ورفع لواء العالمية لأول مرة في تاريخ البشرية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1).
أجل، هذا هو السر في وحدة الأمة المسلمة لأن الأخُوّة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلا بها ولا يتحقق إلا بوجودها، ومما لا شك فيه أن تحديد هذا الإطار المرجعي للمسلمين وفي كل شؤون حياتهم سوف يكون له الأثر البالغ في اتساع الوطن الإسلامي والسموّ على الحدود الجغرافية والطائفية والعرقية وصولًا إلى الوحدة الإسلامية المطلوبة.

 

2- الحوار بين أفراد الأمة المسلمة وجماعاتها:

إن العولمة الثقافية تستدعي إيجاد لغة تفاهم بين أفراد الأمة المسلمة ومكوناتها وهي لغة الحوار من أجل الوصول إلى الهدف المنشود في الوحدة والانسجام، والحوار عملية تواصل بين طرفين متوازنين يعتمدان المحاورة حول أمر من أمور المعرفة، والحوار استعداد نفسي وعقلي لتقبل الطرف الآخر، كما أنه الخَيَار الأمثل للبشر من أجل العيش بسلام والتغلب على معوقات التواصل، فالحوار الهادف يعطي المحاور فرصة لمراجعة أفكاره، وإخضاعها للتمحيص والنقد، ويعطيه فرصة الانفتاح على الآخرين وإدارة الحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة وليس الانتصار للرأي.

والإسلام أمر بالحوار حتى مع المخالف في العقيدة، يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64)، مع اعترافه بالاختلاف والتعددية والتنوع، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119).

والأمة المسلمة بحاجة إلى الحوار في عصر العولمة الثقافية أشد من حاجتها له في مختلف العصور والأزمان؛ وذلك بغية اللحاق بركب العالم المتقدم، فالحوار الدائم طريق النهضة والتخلص من كثير من المثالب والتخلف، فبواسطته يتحدد الواقع وترسم الأهداف والسياسات والبرامج.

 

3- الاعتراف بالخطأ وممارسة النقد الذاتي

إن العولمة الثقافية دعوة للمسلمين من غير قصد إلى الاعتراف بالأخطاء وممارسة النقد الذاتي، سواء كانت هذه الأخطاء فردية أم جماعية، فالإنسان معرض للخطأ، فإذا تبين له الخطأ كان الرجوع إلى الحق فضيلة، والتسليم بالخطأ يحتاج إلى تربية ومجاهدة لأن الذي لم يُعَوِّد نفسه الإقرار بالخطأ يصعب عليه أن يفعل ذلك.

ومن الأخطاء التي يجب الإشارة إليها طغيان القبلية والإقليمية والعرقية على مفهوم الأمة لدى حكومات العالم الإسلامي، وجاءت العولمة الثقافية فعززت بشكل مباشرة أو غير مباشر هذه الخطيئة مع أن الإسلام أكد مفهوم الأمة، يقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143).

ومن الأخطاء التي وقعت فيها الأمة في فترات الزمن الماضية إغلاق باب الاجتهاد أي سيادة التقليد والاتباع وغياب العلم وانتشار الجهل، إن العلم والاجتهاد من العوامل التي تؤدي إلى ترسيخ الوحدة الإسلامية، والعولمة الثقافية تكرس سيادة روح التقليد وانطفاء العقل المسلم وغياب القدرة على الكشف والابتكار، والمتأمل في حياة المسلمين يرى أنها قد اصطبغت في معظم جوانبها بالصبغة الغربية في الفكر والتصور والاعتقاد في التربية والتعليم والسياسة وأنظمة الحكم.

إن العالم الإسلامي يغط اليوم في سبات الجهل والجمود والتقليد وغياب العلم، وشعور بالضعف، والانهزامية والذلة أمام الفتوحات العلمية، وجاءت العولمة الثقافية لتعزز هذا الجمود والتقليد وبالتالي فقدان مؤشر الوحدة الإسلامية.

 

سبل التعامل مع العولمة الثقافية من منظور تربوي إسلامي

العولمة الثقافية ذات تأثير بالغ في الثقافات والحضارات المختلفة، وحتى نحد من تأثيرات العولمة الثقافية يجب علينا القيام بخطوات، أو الانطلاق من مرتكزات عديدة، منها:

المرتكز الأول: الثقة بالنفس قاعدة آمنة في التعامل مع العولمة الثقافية:

الثقة بالنفس قاعدة آمنة تسمح بالتفاعل مع الآخرين، ففي التعامل مع العولمة الثقافية من الأفضل أن نتلمس براعم القوة والمنعة في أمتنا، وأن ننطلق منها للتعامل مع الآخر، بمعنى إعادة الاعتبار للذات الإسلامية بما تبقى من إيمان.

فينبغي كسر حدة الانبهار بالغرب، ومقاومة جذبه ورده إلى حدوده الطبيعية، فإنجازات الآخرين تدفعنا إلى الثقة بأنفسنا، فنحن نملك ما يمتلك الآخرون، وعندنا القدرة على الإبداع.

 

المرتكز الثاني: وضع استراتيجية ثقافية إسلامية للأمة:

الاستراتيجية تتحرك باتجاهين، الأول باتجاه وحدة المسلمين ثقافيًا، والثاني باتجاه التعامل مع الآخر؛ فالوحدة مصدر خصب للحضارة، وعامل إغناء، والوحدة الثقافية تعطي المسلمين مكانًا مرموقًا، ومميزًا في العالم، وتؤهلهم للتعامل مع الآخر، تعاملًا لا يلغي الهوية، ولا يذيب الشخصية، وهذه الاستراتيجية تقوم على أن الحضارة العربية الإسلامية قامت من يومها الأول على أساس التعدد، والاعتقاد بأن التنوع مصدر من مصادر الغنى الحضاري. قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة، 48).

 

المرتكز الثالث: إبراز عالمية الإسلام وإنسانيته:

العالمية صفة تميزت بها رسالة الإسلام، وتعني الانفتاح على العالم، والثقافات الأخرى مع الاحتفاظ بالخصوصية، والعالمية الإسلامية تسعى إلى نشر الفكر، والثقافة الإسلامية من خلال الإيمان بأحقية هذه الحضارة، وإبراز إيجابيتها، ليس بفرضها على الآخرين وتمزيق حضارتهم، وإلغاء هويتهم، والعالمية التي يدعو إليها الإسلام تقوم على أساس الاعتراف بالآخر في هويته، وثقافته، وحضارته، وبناء على ذلك ينبغي على المسلمين إحياء عالمية الإسلام، وتوجهاته الإنسانية، ونقلها إلى الناس، فالإسلام جاء نشرًا لمكارم الأخلاق، ومساعدة الفقراء، والإسلام لا يلغي الآخر، بل يحاور الآخر للوصول إلى الحق والصواب.

والإسلام يقر التنوع الثقافي، لأن التنوع الثقافي والفكري من ضرورات التعايش، وإن من عالمية الإسلام وإنسانيته العمل لصالح البشر جميعًا، وليس للمسلمين فقط، وإلا كيف يكون رحمة للناس ونصرة للمستضعفين.

 

المرتكز الرابع: الاهتمام بمؤسسة الأسرة:

الأسرة هي أهم المؤسسات ففيها يلقن الفرد القيم واللغة والعقيدة، يقول ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة». وفي ظل العولمة الثقافية تقلص دور الأسرة، وتبرز هنا أهمية دور التربية الأسرية في التحصين والتهيئة لدخول معركة الحياة الصاخبة، فالأسرة مطالبة أن تحفر الخطوط العميقة في شخصية الطفل، وأن تجذر القيم الإسلامية في النفوس، وهي مطالبة ببث الوعي في النفوس، وأن يكون أسلوب التربية فيها هو التربية الشورية، وأن تقوم بتعديل سلوك الأفراد وفق منهج الله سبحانه وتعالى.

 

المرتكز الخامس: الحد من التلوث الثقافي والإعلامي الموجه للأمة الإسلامية:

العولمة الثقافية فيها كثيرمن السلوكات، والقيم والمبادئ التي تسهم في تكوين جيل مشوه الأفكار، والاتجاهات، والقيم، وللحد من هذا التلوث يمكن القيام بالآتي:

تجديد الثقافة: ويقصد بالتجديد على مستوى القيم والمفاهيم والسلوكات ردها إلى أصولها، ومعرفة أسرارها، ومكنوناتها، ومنطلقاتها، وهذا لا يكون إلا بربط القيم، والمفاهيم، والسلوكات بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.

تجذير الفروق الثقافية: العولمة تسعى إلى محو الفروق الثقافية من أجل تجنيس الأعراق ولا بد أن تسعى الحضارات التي لا تريد الذوبان والانصهار في العولمة الثقافية إلى تجذير الفروق الثقافية عن طريق رد الثقافة بكل ما تحمل إلى أصولها النابعة منها. وفي الحضارة الإسلامية لا بد من ربط الثقافة بالإسلام، وأن تتحسن معرفة الناس بالمنهج الرباني أكثر من أي وقت مضى.

إغناء القاعدة الإيمانية: إنّ الأنشطة الفكرية، وإغناء القاعدة المعرفية للإنسان تساهم مساهمة عظمى في الحد من أخطار العولمة الثقافية، والتيار المساند هو التيار الإيماني الذي لا يتولد إلا عن طريق المزيد من الأعمال التعبدية التي تمدنا بطاقة الصمود والمقاومة، والإبداع، والعمل الدؤوب.

 

المرتكز السادس: الوعي بالمستقبل والتشجيع على الدخول في علوم المستقبل:

سبقت الإشارة إلى مفهوم الوعي بالمستقبل، وأن المقصود فهم المتغيرات المحتملة في الفترات الزمنية القادمة، وتوجيه السلوك نحو التعامل مع هذه المتغيرات سواء بجانبها الإيجابي، أو السلبي.

فالوعي بالمستقبل يمكننا من القدرة على التخطيط السليم، والإعداد للمستقبل، ومن أهم معالم التخطيط للمستقبل ومواجهة تحدياته دخول علوم المستقبل مثل علوم الاقتصاد والمال والسياسة، ولا بد لدارس مثل هذه العلوم أن ينطلق من خلفية فكرية متينة.

 

المرتكز السابع: تحديد الخصوصيات الثقافية للأمة الإسلامية:

من الخطوات الرئيسة في التعامل مع العولمة الثقافية: أن تحدد خصوصياتنا الثقافية، والمتمثلة بمكونات الهوية العربية الإسلامية، والخصوصية الدينية أي الإسلام كمنبع للثقافة، والحضارة الإسلامية، وأنه دين عالمي يصلح لكل مكان وزمان والرسول ﷺ رسول عالمي أرسل إلى العالم أجمع، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). فالخطاب القرآني يدعو بكل وضوح إلى التعارف، والتعاون قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)، ويحث على الحوار مع الآخر ويضع للحوار ثوابت.

 

المرتكز الثامن: الاهتمام بالتعليم من أجل غرس روح الانتماء للأمة:

ويتجسد ذلك من خلال المراحل الأولى للتعليم بالتأكيد على تدريس اللغة العربية، والتراث الإسلامي إلى جانب العلوم الحديثة، والتكنولوجيا، وأن يسود التوازن في التدريس دون أن يطغى جانب على آخر، فلا يسود تدريس العلوم الحديثة والتكنولوجيا على تدريس اللغة وعلوم الشريعة.

كذلك يجب غرس الانتماء العربي والإسلامي في نفوس أبنائنا الطلاب وتنميته، وأن يبين لهم أن هناك فرقًا بين تعلم علوم أمة من الأمم، واعتناق حضارتها والانتماء إليها كما فعلت كثير من دول العالم.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم