تشكل الأسرة أهم مجالات السياق النفسي الاجتماعي الذي تقوم عوامله ومتغيراته المختلفة إما بتنمية الخصائص الإبداعية للأبناء وإما بإحباطها وإعاقتها، فقد أكدت العديد من الدراسات على أن الأسلوب التربوي المعتدل للآباء تجاه أبنائهم بما يحتويه من التشجيع على الاستقلالية العقلية وخلق الظروف المناسبة لتطوير الاهتمامات والاستعدادات في مجالات النشاط المختلفة يسهم في تطوير الشخصية المبدعة من خلال (عدم الإكراه- إبعاد عوامل الصراع- تشجيع المخاطرة- اختيار الصعب في الحدود المقبولة).
وكذلك فإن دور المدرسة لا يقل أهمية عن دور الأسرة، حيث أن الطفل يقضي تقريبًا نصف يومه العملي في المدرسة، أو أكثر من ذلك بالنسبة للمدارس التي تتبع نظام اليوم الكامل، هكذا يأتي دور المدرسة حيث لا بد من وجود المعلم الكفء، المؤهل والمدرب على الأنشطة التي من شأنها تنمية قدرات الطفل الإبداعية، محاولة ظهور نقاط القوة والإبداع التي تميز الطفل وذلك لتحفيزها وتطويرها.
وفى دراسة بعنوان: «دور الأسرة والمدرسة في تعلم الإبداع»، للباحثة: أسماء إبراهيم مطر، ترى أن السنوات المبكرة في حياة الطفل هي الأكثر حرجًا، ففيها تبدأ عملية تشكيل المراحل الأساسية للجهاز النفسي، وتتضح عناصر التفكير وتكتسب الشخصية قوامها وانسجامها، وتؤدي كل من الأسرة والمدرسة والبيئة دورًا كبيرًا في تشكيل شخصيته وتفكيره الإبداعي عن طريق التعرف على ما يمتلك من قدرات وتوظيفها مستقبلًا في أعمال وأفكار إبداعية. فالمدرسة والأسرة هما المؤسستان التربويتان الأكثر أهمية لاكتشاف وتعلم وتنمية الإبداع لدى الطفل.
تعريف الإبداع
يعرف الإبداع في معجم لسان العرب أن بدع الشيء يبدعه بدعًا وابتدعه: أنشأه وبدأه، والبدع: الشيء الذي يكون أولًا، والبديع: المحدث العجيب، وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال.
كما ورد في معجم وبيستر كلمة إبداع Creativity هي القدرة على الخلق أو الإيجاد.
ويشير عبد الحميد حنورة (2003) إلى أن الإبداع الإنساني يختلف عن الإبداع الإلهي، فالإنسان يبدع من عناصر ومواد يملكها، أما الإبداع والخلق الإلهي فهو خلق من العدم تمامًا.
مفاهيم مرتبطة بالإبداع
الموهبة:
المعنى اللغوي لكلمة موهبة مأخوذ من الفعل وهب أي أعطى بلا عوض، فالموهبة إذن هي العطية، والاستعداد الفطري لدى المرء للبراعة في الفن أو نحوه.
وقد عرفت لجنة التعليم والعمل بالولايات المتحدة (1972) الطفل الموهوب على أنه: «صاحب الأداء المرتفع والإنجاز العالي في واحد أو أكثر من المجالات الآتية: القدرة العقلية العامة، والقدرة الأكاديمية المتخصصة، والتفكير الابتكاري أو الأخلاقي، وموهبة القيادة، والقدرة النفس- حركية، والموهبة هي درجة عالية من القدرة في مهارة معينة».
التفوق العقلي:
قد تم تعريف التفوق العقلي بالاعتماد على عدة محطات وهي: (القدرة العقلية- التحصيل الدراسي- القدرة على الابتكار).
حيث يعد الفرد متفوقًا عقليًا عندما يستوفي أي شرط من الشروط التالية:
- أن تكون نسبة ذكائه (130) على الأقل كما تحددها إحدى اختبارات الذكاء.
- أن يكون لديه مستوى تحصيلي مرتفع يضعه ضمن أفضل ما بين 3-15% من المجموعة التي ينتمي لها.
- أن يكون لديه مستوى عالٍ من التفكير الابتكاري.
- أن يكون لديه مستوى عالٍ من الاستعدادات الخاصة في إحدى المجالات العلمية أو الفنية أو القيادة الجماعية.
كما عرف عبد العزيز الشخص (1999) الطالب المتفوق عقليًا بأنه: «الطالب الذي يمتاز بالتحصيل الدراسي المرتفع في مجالات الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية، كما أنه يمتاز بقدرات عقلية مع سمات نفسية معينة ترتبط بالتحصيل الدراسي المرتفع مع قدرات عالية في التفكير الابتكاري».
العبقرية:
أشار عبد السلام عبد الغفار (1997) إلى أن العبقرية هي: «وصول الفرد في أدائه إلى مستوى مرموق بحيث يضعه في الصدارة أو القيادة في مجال من مجالات الحياة، وهي القدرة التي تصل بالإنسان إلى تقديم ما لم يقدمه غيره في مجالات العلم أو مجالات الحياة، وللوراثة دور في العبقرية. وبناء على هذا يمكن تعريف العبقري بأنه الشخص الذي يظهر نبوغًا جدًا، ويأتي بأعمال عبقرية في مجال أو أكثر من المجالات التي يقدرها المجتمع، وتضم فئة العباقرة الأشخاص الذين يأتون أعمالًا تتصف بالجدة والجودة والدقة ولا يفوقها شيء في هذه الصفات».
خصائص التفكير الإبداعي
- الأصالة: هي القدرة على إنتاج أفكار جديدة وغير مألوفة، والجدة والتفرد في توليد هذه الأفكار التي تعد محك للحكم على مستوى الإبداع.
- المرونة: هي القدرة على توليد الأفكار المتنوعة غير المتوقعة، وتحويل مسار التفكير مع تغير المثير أو متطلبات الموقف، وهي عكس الجمود الذهني الذي يتبنى أنماط ذهنية محددة سلفًا وغير قابلة للتغير حسب ما تستدعي الحاجة.
- الطلاقة: عرفها جيلفورد (1962) بأنها: «سهولة استدعاء الفرد للمعلومات المخزونة في ذاكرته كلما احتاج إليها في المواقف المختلفة».
- الحساسية للمشكلات: هي قدرة الفرد على رؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد الذي قد لا يرى فيه فرد آخر أية مشكلة. وهذا ما أكده مصري عبد الحميد حنورة (1985): «بأنها القدرة على رؤية النقص والقصور والعيوب، حيث لا يرى الآخرون شيئًا من ذلك».
- التفاصيل: هي القدرة على البناء على أساس المعلومات المعطاة وتكملته من نواحيه المختلفة حتى يصير أكثر تفصيلًا والعمل على امتداده في اتجاهات جديدة.
- الاحتفاظ بالاتجاه: تميز هذه القدرة سلوك المبدع، وهو يؤدي عمله، بما يمكنه من مواصلة العمل والتقييم والمجاهدة لتحقيق هدفه على الرغم مما يصادف من معوقات وعقبات ومتاعب.
- التخيل أو التصور البصري: هي القدرة على التخيل أو المعالجة العقلية للصور والأفكار والتوليف بينها من زوايا وجوانب متعددة، بحيث ينظمها في صور وأشكال لا خبرة للفرد بها من قبل.
- التحويلات: هي القدرة على تغيير الأشياء أو الأفكار التقليدية إلى أشياء أو أفكار جديدة بهدف الوصول إلى معانٍ أو تطبيقات جديدة.
- التقويم: هي عملية استمرار معالجة الفكرة بشكل متعاقب ومستمر ومعالجتها بالتحليل والتحقيق والتجريب والاختبار العملي.
السمات العامة للمبدعين
يشير مايكل بيشاويسكي (2000) إلى أن هناك العديد من السمات العامة التي تميز الأفراد المبدعين والتي تعتبر كسمات من الأشياء التي تميزهم بشكل عام. ويمكن القول أن نتناول مثل هذه السمات على النحو التالي:
- يحل المشكلات بشكل جيد.
- يركز في أي موضوع لفترة طويلة من الوقت.
- يتسم بالمثالية أو الكمالية.
- يثابر في سبيل تحقيق اهتماماته.
- يعتبر قارئًا نهمًا ذو خيال خصب.
- يجد متعة كبيرة في حل الألغاز وغالبًا ما يربط بين الأفكار التي تبدو غير مترابطة.
- يجد متعة في تناول المتناقضات ويضع لنفسه معايير عالية ويعمل على الالتزام بها.
- ذاكرته طويلة المدى جيدة وفضولي أو محب للاستطلاع.
- لديه قدر مرتفع من البشاشة والدعابة ويتسم بقدر مرتفع من الحساسية.
- ملاحظ جيد لما يدور حوله وناقد له في ذات الوقت.
- يحب الرياضيات ويميل إليها وعادة ما يحتاج إلى فترات من التأمل.
- يبحث عن معنى معين في حياته ويكون على دراية بأشياء ليست لدى الآخرين أو ليسوا على دراية بها.
- ينجذب بشدة إلى الكلمات ولذلك فلديه كم كبير جدًا منها.
- لديه التزامات أخلاقية شديدة ويتمتع بقدر كبير من الطاقة والحيوية.
- يتسم بقوة الإدراك أو البصيرة وعادة ما يتساءل عن أهمية القواعد أو السلطة في حياتنا.
- يميل إلى التنظيم ويقاتل في سبيل كسب التحدي ولديه قدرات غير عادية أو خارقة.
- يتعلم الأشياء الجديدة بسرعة ويتمتع بقدرات واهتمامات عديدة.
- لديه روح الإبداع والابتكارية ويحب الأفكار والمناقشات المتوقدة.
- يتسم بوجود أفكار وإدراكات غير عادية من جانبه.
- يتميز بالتعقيد وعدم البساطة.
خصائص التعليم الإبداعي
عندما نتحدث عن التعلم الإبداعي فإننا نستبعد ذلك التعلم الشكلي القائم على حفظ المعلومات، والحقائق والمفاهيم والمبادئ والقوانين، واستظهار هذه المعلومات بغض النظر عن انعكاسات هذه المعلومات على شخصية المتعلم، أو فائدتها العلمية، أو تطبيقاتها الحياتية، وعلى ضوء ما سبق يمكننا رصد الخصائص الأساسية لعملية التعلم المطلوب، ومن أهما ما يلي:
- أن يستجيب لأنماط التغير المرتبطة بالخصائص العقلية النمائية الخاصة بالتعلم.
- أن يكون التعلم ذا معنى للمتعلم وذلك من خلال ارتباطه بالحاجات الحقيقة سواء كانت جسمية أو عقلية أو اجتماعية أو نفسية للمتعلم.
- أن يكون التعلم قائمًا على الخبرات المباشرة وغير المباشرة، وكلما كانت الخبرة أقرب إلى الواقع كان التعلم أثر فاعلية، وأكثر بقاء، وأقل نسيانًا، وأقل في الجهد المطلوب.
- أن يكون التعلم قابلًا للاستعمال في الحياة اليومية.
- أن يكون متضمنًا معلومات ومهارات واتجاهات قابلة للبقاء ومتناسبة مع إمكانيات كل متعلم، وقدراته واتجاهاته.
- أن يكون التعلم مرتكزًا ومتصفًا بالمرونة والاتساع وخلق علاقات تعاونية بين المتعلمين وتنمية ورح التعلم التعاوني.
- أن يكون التعلم الإبداعي متكاملًا بتحقيق النمو التكاملي وذلك بالربط بين الجوانب النظرية والعملية بشكل متكامل ومستمر باستمرار الحياة.
- يمكن قياسه وتقويمه بهدف تحديد مداه ودرجته.
- أن يكون معززًا ومثيرًا لدافعية المتعلم.
دور الأسرة
إن الأسرة هي النواة الأولى التي يتلقى فيها الطفل إشباع حاجاته، فالاهتمام بالطفل خلال مراحل نموه المبكرة من الأمور المهمة والحاسمة في حياته، حيث يبدأ في اكتشاف ما حوله من مكونات ويتعرف على الأشياء باستخدام حواسه، ولقد أشار تورانس (1988) إلى أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل تعد الحاسمة لتنمية القدرات الإبداعية لديه، حيث يظهر لدى الطفل الخيال الواسع من خلال ألعابه والقصص التي يطرحها، وقد أكد على أهمية استخدام مختلف الوسائل التربوية الملائمة لمساعدة الطفل في تعلم الإبداع وتنمية قدراته الإبداعية.
فعملية تعلم الإبداع وتنمية التفكير الإبداعي لدى الأطفال، عملية مهمة ودقيقة جدًا، تحتاج إلى وعي الوالدين بمعرفة إمكانيات الطفل المتعددة والقدرات الإبداعية لديه واكتشاف ذلك مبكرًا، وتوفير البيئة المناسبة التي يجب أن تتسم بالحنان والدفء الأسري والبعد عن استخدام العقاب وتقبل العلاقات الاجتماعية مع الآخرين، وإتاحة الفرص للطفل لتنمية الإحساس بالمسئولية والاعتماد على النفس والاستقلالية وتنمية حب الاستطلاع لديه.
وهذا ما أكدته فوزية النجاحي (2005)، أن أسرة المبدع تقوم بدور مهم في تنمية ملكات الإبداع الكامنة لديه طالما اهتمت بتوفير الحاجات الأساسية له وبإشاعة جو من الحرية الموجهة داخل المنزل وابتعدت عن أساليب الكبت والتقريع المستمر التي تقتل طموحات الأبناء وتحد من نمو إبداعهم ومواهبهم الخاصة.
كما أشار مجدي حبيب (2000)، أن الأسلوب التربوي المعتدل للآباء تجاه الأبناء يشجع الطفل على الاستقلال العقلي، وتنمية حب الاستطلاع، وخلق ظروف تعمل على تنمية الاستعداد والاهتمام لدى الطفل في الأنشطة المختلفة، ويسهم في تنمية وخلق الإبداع لدى الطفل.
فالأسرة يجب عليها تشجيع الابن على الإبداع وذلك بعدم الضغط أو تقييد حريته، وإنما بالتوجيه الصحيح وترك الحرية له بهدف خلق الدافع الذاتي الداخلي لديه للإبداع، وتوفير الحماية والرعاية النفسية وليس فقط المستلزمات المادية، والاعتدال في معاملة الطفل، فالتدليل الزائد كالحرمان والقسوة من حيث الأفكار كلاهما يقتلان روح الإبداع لدى الطفل، وتشجيع الطفل على اتخاذ قدوة ومثل أعلى في حياته (شخصية ناجحة)، وكذلك الاهتمام بإنجازاته ومدحها وتعزيزه معنويًا وماديًا. كما ينبغي تنشئة الطفل منذ الصغر على حب العمل بحيث يتولد بداخله أن العمل عبادة وأن من لا يبدع في عمله لا قيمة له.
دور المدرسة
إن دور المدرسة في تعلم الإبداع وتنميته لدى التلاميذ لا يقل أهمية عن دور الأسرة، وقد أصبح الآن تقام مدارس خاصة تهتم بتعلم الإبداع وتنميته من خلال توفير بيئة مدرسية تطور العملية الإبداعية لدى التلاميذ.
وقد أكد توارنس على أهمية دور المدرسة الكبير والرئيسي لتعلم الإبداع من خلال دراساته الرائدة في هذا الصدد، حيث وجد أن قدرات الإبداع تنمو بالتدريج حتى الصف الرابع- أي حتى سن العاشرة- ثم يتناقص بعد ذلك وقد علل تورانس ذلك بعدم الاهتمام بهذه القدرات وبعدم ملائمة أساليب التعليم في المدارس لتنمية التفكير الإبداعي لأنها تركز على تعليم القراءة والحساب وحفظ المعلومات، ولا تشجع التلميذ على التعبير عن أفكاره الأصلية أو الغريبة (غير المألوفة) فيتخلى عنها في سن العاشرة مسايرًا أصحابه ومدرسيه ولا يظهر تفوقه في القدرات الإبداعية، وخير دليل على ذلك المناهج الدراسية الجافة التقليدية فلا نرى تلميذًا مميزًا قد أنتجته هذه المناهج وحدها إن لم يكن هناك عوامل وظروف أخرى مساعدة وملائمة، فالزرعة لا تنبت إلا بوجود تربة مناسبة خصبة ملائمة لنوع البذرة وهي تحتاج لضوء الشمس وللهواء، فكيف بالإنسان نطلب منه الإبداع وهو في بيئة تقيّد الإبداع.
وقد أشارت تحية محمد عبد العال (2003) إلى أن المدرسة لكي تقوم بدورها في الاهتمام بالطلاب المبدعين داخل البيئة المدرسية يجب عليها أن تتبنى لنفسها نسقًا خاصًا من القيم تؤكد من خلاله أن التعليم هو جزء من النظام الاجتماعي العام وهذا يتطلب بالضرورة التأكيد على ما يلي:
- التأكيد على أن تكون حجرة الدراسة مكانًا صالحًا للتعلم والإبداع يجعل هذه المدرسة بيئة مدرسية آمنة تشجع على الإبداع وتحفز على التفوق.
- أن يجد الطالب في المحيط المدرسي ما يساعده على النمو والشعور بالأمن والتقدير، يجعل مثيرات البيئة المدرسية إيجابية تحترم الذات الإنسانية، وتكشف عن قدراتها الإبداعية وطاقاتها وتحارب فيها عوامل الشعور بالإحباط والفشل.
- استخدام التكنولوجيا كأداة للتعلم من أجل تنمية الإبداع والتفوق، ومن أجل جعلها أداة اتصال وكأداة إدارية لما لها من دور التأثير الفعال على محتوى وسياق عمل كل من الطالب والمعلم من أجل ممارسة المسئولية ومن أجل تفعيل أدائهم داخل المدرسة.
- تطوير المناهج من حيث المحتوى والمضمون بما يخدم العملية التعليمية على اعتبار أن المنهج هو وسيلة التربية في تحقيق أهدافها والتي تحدد أساسًا في ضوء ظروفه ومتطلباته الأساسية، ولذلك يصبح من الضروري إجراء تطوير جذري للمناهج، بحيث يكون محور الإبداع أحد أهدافها الأساسية، ومن ثم يجب العمل على تنمية على مستوى جميع المواد الدراسية.
أهمية تعلم الإبداع
في ظل الظروف العالمية الحالية التي نعيشها ليس أمامنا خيار ثالث إلا الاختيار ما بين الاتباع أو الإبداع، إما أن نكون تابعين للآخرين ولا نملك زمام أمرنا، وإما أن نتخذ الإبداع سبيلًا للخلاص وتحقيق ذاتنا ونعد ما نستطيع من قوة لمواجهة التغير الدائم في جميع المجالات (الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، العلمية)، وذلك بالسماح لأبنائنا المبدعين بظهور قدراتهم الإبداعية، فالإنسان المبدع يلجأ إلى التأمل وإعمال العقل ويعتمد على البصيرة ويستعين بخبرات الآخرين ويستخدم كل ما أوتي من قدرات ومواهب للوصول إلى إنجاز جديد من منُاخ إبداعي يسوده الحرية.
حيث أن ظهور المبدعين لا يتأتى إلا بالمحافظة على الجو الذي يلائمهم، فالإبداعية لا تستطيع التنفس إلا في جو من الحرية، والمبدعون هم أقوى الناس شخصية وبالتالي أقل الناس احتمالًا لتكييف أنفسهم وفقًا للأوضاع المألوفة، ولن يستطيع المبدع إلا بالضغط الشديد أن يضع نفسه في القوالب النمطية التي يصوغها المجتمع.
ويمكننا أن نعود طلابنا على التفكير الإبداعي في المدارس من المرحلة الابتدائية وحتى من الروضة من خلال إيجاد المعلم المبدع أولًا، ومن خلال المادة الدراسة الحديثة والحيوية، غير التقليدية ثانيًا، مع الاهتمام بتوفير جميع الظروف البيئية الداعمة لذلك، ويؤدي المعلم دورًا وسيطًا إيجابيًا ما بين المدرسة والأسرة، حيث ينقل للأسرة مدى إبداع ابنهم في جانب معين أو جوانب متعددة، وذلك على أمل التواصل والاستمرارية والدعم والمتابعة، والمعلم ينقل أيضًا لإدارة المدرسة إبداع طلابه ويوفر لهم الدعم المادي من ميزانية المدرسة والدعم المعنوي والتعزيز المناسب، والمدرسة كجهاز تربوي مركزي تكمل هذا الدور، وبدورها أيضًا من خلال المادة الدراسية تقدم المقررات الدراسية المتنوعة بصورة حديثة وشائقة وجذابة، بعيدًا عن التقليدية التي تركز على المعرفة في حد ذاتها فقط (التربية البنكية)، فيصبح المعلم هنا ملقنًا والطالب سلبيًا، عليه أن يستمع ويحفظ، وتأتي الامتحانات الشهرية وامتحانات آخر العام التدريسي لتقيس هذا الحفظ، إنّ هذا المسار يقتل الإبداع، ويعيق نمو التفكير لدى الطالب.
استراتيجيات تعلم الإبداع
1- استراتيجية العصف الذهني:
تعد استراتيجية العصف الذهني من استراتيجيات التدريب الجمعي الفاعلة في تطوير الإبداع عند الطلبة، وتتضمن هذه الاستراتيجية إنتاج معلومات جديدة تتميز بالأصالة مع التركيز على نوع الأفكار والنتاجات التي تتصف بالغزارة وعدم المحدودية والانفتاح، وهناك أربعة قوانين رئيسة تحكم تنفيذ عملية العصف الذهني وهي:
- استبعاد النقد للأفكار: لأن الطلبة عندما يواجهون بالنقد سوف تكون مشاركتهم بالأفكار الغريبة قليلة، ويتجنبون المغامرة في طرحها، كذلك من المهم التأكيد على عدم النقد بجميع أنواعه (اللفظي، وغير اللفظي، نبرة الصوت، والأسئلة الناقدة).
- تشجيع الدوران الحر: فكلما كانت الأفكار أكثر غرابة كانت أفضل، لأنها قد تفتح آفاقًا جديدة، فمن السهل أيضًا تطوير الفكرة الغريبة إلى فكرة عملية أكثر، وتطوير الفكرة العملية إلى فكرة أصيلة وإبداعية.
- الكم في الأفكار مطلوب: إن العدد الكبير من الأفكار يجعل احتمالية إيجاد أفكار إبداعية– تؤدي إلى أفضل الحلول- كبيرًا، ومن المهم استبعاد بعض الأفكار الصغيرة أو العادية التي يمكن أن تعيق إنتاج الأفكار الخلاقة.
- الربط بين الأفكار وتطويرها: لا بد من التشجيع على عملية الربط بين الأفكار المتداخلة، ليتم تطويرها وتركيب الأفكار وتبديلها، وذلك من أجل الإنتاج الأفضل.
وهناك بعض الأسس التي يجب الاهتمام بها لضمان تحقيق فاعلية هذه الأساليب والبرامج في تحفيز الإبداع ومنها: التزام الأفراد المهتمين بالتدريب، وتقدير مدى ملائمة البرنامج لحاجاتهم، وتحديد أهداف واضحة قابلة للقياس في نهاية البرنامج، وتحديد محطات نجاح البرنامج على مستوى الأفراد والمجموعة.
2- حل المشكلات الإبداعية:
يرجع الاهتمام بموضوع حل المشكلات الإبداع إلى منتصف القرن الماضي، ويعد أوسبورن (1963) من الأوائل الذين وضعوا أسس هذه الاستراتيجية، إذ أُنشِأت مؤسسة (التربية الإبداعية) عام 1953، في جامعة ولاية نيويورك في بافلو (1953) لنشر أفكاره، وتشجيع الدراسات حول البرامج التربوية التي تعمل على تدريب الإبداعية.
ويقوم حل المشكلات الإبداعي على التوازن والتكامل بين التفكير الإبداعي والتفكير الناقد؛ فالتفكير الإبداعي ينصب على توليد علاقات ذات معانٍ جديدة ومفيدة، ومن خلاله ندرك الفجوات والتحديات والمصاعب، ونفكر في احتمالات متنوعة وغير عادية، والتفكير الناقد ينصب على تحليل هذه البدائل وتقييمها وتطويرها، وفي أثناء التفكير الناقد نستعرض الأفكار، ونختار أحد الاحتمالات وندعمها، ونقارن بين البدائل المختلفة، وننتج البدائل ونحسنها، من أجل التوصل لحكم صائب وقرار ذي فعالية، فتوليد العديد من الأفكار لا يساعد وحده على حل المشكلة. وكذلك فإن تحليل عدد محدود من الآراء وتقييمها، لا يتيح أفضل الفرص في الوصول لحل مناسب، لذلك يكون التكامل بين التفكير الإبداعي والتفكير الناقد هو الأمثل.
وقام تريفنجر (2000) بعملية مراجعة لخطوات حل المشكلات الإبداعي، وأكدوا أن عملية حل المشكلات الإبداعي تتضمن أربعة مكونات رئيسية.
3- حل المشكلات المستقبلية:
هو برنامج إثرائي ملائم للطلبة من مختلف المراحل العمرية، وقد بدأ على يد تورانس (1975) في جامعة جورجيا، وقد تطور هذا البرنامج وأصبح برنامجًا عالميًا. يقوم البرنامج على افتراض أن الطالب يجب أن يطور مهارات التفكير الضرورية لمواكبة التغيرات العالمية، وأن يتعلم كيفية التعامل مع المشكلات المستقبلية ويعمل على حالها بطرق إبداعية.
وتحديدًا فإن البرنامج يهدف إلى مساعدة الطلبة المبدعين في المجالات الآتية:
- أن يكونوا قادرين على تطبيق عمليات استنتاجية مقصودة لحل المشكلات.
- أن يصبحوا أكثر وعيًا للمستقبل والتعامل معه بفاعلية وتفاؤل.
- أن يحسنوا مهارات التواصل لديهم، مثل مهارتي: المحادثة، والكتابة بشكل دقيق ومقنع.
- أن يطوروا مهارات العمل التعاوني مثل (الإصغاء، والفهم، والاحترام).
- أن يتعلموا استخدام نموذج في حل المشكلات وتوظيفه في حياتهم اليومية.
- أن يطوروا مهارات البحث المتضمنة (من أين يمكن جمع المعلومات؟، وكيف؟).
وآلية العمل يعتمد بناء النموذج في حل المشكلات المستقبلية على نموذج حل المشكلات الإبداعي الذي يتضمن ثلاثة عناصر أساسية: فهم المشكلة، وتوليد الأفكار، والتخطيط للعمل، ويزود الطلبة بالفرص للتنافس ضمن مجموعات، لتحديد حاجات الحياة الواقعية وتحدياتها، ضمن مجموعة من الموضوعات المقترحة والمتعلقة بمختلف المجالات والقضايا المطروحة عليهم، ومن ثم محاولة إيجاد حلول لها باستخدام نموذج حل المشكلات، والذي يزودهم بإطار فعال لإيجاد حلول للتحديات التي تم تحديدها.
4- تآلف الأشتات:
يعود الفضل في وضع أسس برنامج تآلف الأشتات إلى جوردن (1960) ويقصد به: «ربط عناصر مختلفة لا يوجد بينها علاقة ظاهرية باستخدام المجاز والتشابه وفق إطار منهجي بهدف التوصل إلى حلول إبداعية للمشكلات، فالقدرة على رؤية علاقة التشابه المبطنة التي يفتقدها غالبية الأفراد هي في الواقع السمة المميزة للمبدع الحقيقي». كما أن البحث عن الانسجام ووجه الشبه غير الظاهر بين الأشياء والأشكال والخبرات المتباعدة يمثل جوهر عملية الإبداع في العلوم والآداب والفنون، وتكمن الأعمال الإبداعية في اكتشاف علاقة المشابهة التي لم يجدها أحد من قبل. وقد حدد جوردن استراتيجيتين يمكن استخدامهما لتعميق فهم الطلبة، وتطوير قدراتهم على التفكير الإبداعي، هما:
- النظر إلى الغريب على أنه مألوف.
- النظر إلى المألوف على أنه غريب.
مزايا استخدام استراتيجيات تآلف الأشتات في تعلم الإبداع:
- إمكانية استخدامه في جميع الأعمار ولجميع مستويات الطلبة.
- مساعدة الطلبة على تطوير استجابات إبداعية لحل المشكلات.
- مساعدة الطلبة على كسر الجمود الذهني، وتبسيط المفاهيم المجردة.
- استكشاف القضايا الاجتماعية والمشكلات الانضباطية.
وقد أكد جوردن فعالية هذه الاستراتيجية في تعلم الإبداع وتنميته حيث أن العملية الإبداعية ليست سحرًا أو لغزًا غامضًا ومن الممكن تدريب الأفراد ليكونوا أكثر إبداعًا.
5- استراتيجيات سكامبر:
إن استراتيجيات سكامبر هي استراتيجيات تستخدم لمساعدة التلاميذ على توليد أفكار جديدة أو بديلة، وأداة تدعم التفكير الإبداعي والمتشعب. وتساعد التلاميذ على طرح أسئلة تتطلب منهم التفكير المتعمق. وتشمل هذه الاستراتيجية ما يأتي:
- التبديل: ما الذي يمكنك تبديله؟ ما الذي يمكنك استخدامه كبديل؟ وهنا يتم وضع بديل لفكرة أو أداء، أو أمر، أو أي شيء آخر.
- التجميع: يتم هنا تجميع أفكار أو مواقف معًا.
- التكييف: يتم تعديل الأشياء في موقف ليتلاءم مع الهدف المطلوب.
- التعديل: يتم إجراء تعديلات بتغيير الحجم، أو الشكل، أو اللون، أو أي خاصية أخرى.
- استخدامات أخرى: يتم استخدام الشيء لأهداف تختلف عن الهدف الأصلي.
- الحذف: يتم حذف جزء من شيء ما.
- العكس أو الإعادة: يتم عكس الشيء أو إعادة تنظيمه.
وليس من الضروري استخدام جميع الخطوات السابقة، وإنما يمكن اختيار الطرق التي تتناسب وتعليمات الدرس، أو الموضوع، أو النشاط أو الفكرة.
التوصيات
- التعاون المستمر بين الأسرة والمدرسة.
- تفعيل الأنشطة المدرسية أثناء الدراسة، وكذلك النشاط الصيفي المتمثل في نوادي العلوم ومعامل الكمبيوتر والتكنولوجيا والمكتبة وغيرها.
- تزويد المدارس ببرامج تدريبية وإرشادية للكشف عن الموهوبين والمبدعين ورعايتهم وتنمية ما لديهم من قدرات.
- توفير المعامل والأجهزة والمواد الخام اللازمة للممارسة الأنشطة بالمدارس.
- تطوير المناهج بحيث تكون مرتبطة بالحياة ويستطيع التلميذ الاستفادة منها في حياته.
- رفع مستوى المعلم الاقتصادي ومكانته الأدبية والاجتماعية ومؤهلاته العلمية لكي يصبح قدوة لتلاميذه ومثالًا يحتذى به.
- الاهتمام الإعلامي باكتشاف الموهوبين والمبدعين في جميع المجالات وليس الفن والرياضة فقط، وذلك بتخصيص برامج لذلك والإنفاق على رعاية هؤلاء الموهوبين والمبدعين وذلك بالتعاون مع رجال الأعمال.
.