Business

عبده دسوقي يكتب: يونس عليه السلام ورحلة المجهول

إن الله سبحانه خلق نفوس الأناسي من جواهر مختلفة، فأعلاها وأصفاها من اصطفاها الله لحمل رسالته وعبادته حق العبادة، والنفوس الطيبة لها وجوه طيبة حتى وإن لم تكن تمتلك ملامح الجميلة، والنفوس الشريرة لها وجوه شريرة حتى وإن كانت تمتلك ملامح جميلة.

إن صفاء النفس له أشكال وتعريفات متعددة، والهدف منه هو تقويم الشخص ليسير في المسار الصحيح، وهكذا كانت رسالات الأنبياء جاءت لتقوم مسار البشرية المعوج، وتهذيب السلوك، فكانوا نماذجًا تربويةً عمليةً تمشي على الأرض، كما وصفت السيدة عائشة أخلاق الرسول ﷺ.

ونبي الله يونس رفع الصفاء الروحي والإنابة السريعة شعارًا لرسالته التي ما كاد يعرضها على قومه حتى كذبوه، فخرج مغاضبًا منهم في تصرف لم يكن ليصدر من نبي، لكن لحكمة يعلمها الله سبحانه، ولإعلاء رسالة التربية العملية سار نبي الله يونس في هذا السلوك فكان تصحيح المسار الرباني له عمليًا أيضًا حينما التقمه الحوت دون سابق معرفة ولا نية في إيذاءه.

جاء يونس لقوم يحيدون عن عبادة الله، فقد بعث الله يونس بن متى عليه السلام الذى سُمي بصاحب الحوت إِلَى أَهل قرية «نِينَوَى»، وهي قرية في أَرْض الْموصل، فدعاهم إِلى اللَّه، فأَبوا عليه وتمادوا على كفرِهم، فتركهم مغاضبًا لهم وَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، وخرج ناحية البحر، وأراد الله أن يريه من آياته، ليصحح المسار التربوي، فقذفوا به في البحر بعد أن استهموا والتقمه الحوت المأمور بأمر الله، وأصبح حبيس ظلمات ثلاث؛ ظلمة بطن الحوت، وظلمة مياه البحر، وظلمة الليل.

وأراد الله أن يرينا معجزة، فكيف يعيش الإنسان في أعماق البحار مُعَرَّضًا لضغط الأعماق، وفى بطن الحوت تحت الماء بلا هواء للتنفس، فكيف كان يتنفس؟ وكيف استقامت حياته بداخل الحوت؟ وظل كذلك حتى أدرك قيمة اللجوء إلى الله فنادى في الظلمات بالتسبيح فقذفه الحوت وهو سقيم، فكانت عناية رب العالمين ثم أرسله لقومه ثانية، فلما تحققوا وعلموا أنه النبي المرسل خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات والأولاد، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، فرفع اللَّه عنهم العذاب، وأمنوا فحل الأمن في قلوب وجلة، ونفوس خائفة.

لقد غرست قصص النبيين والصالحين أعظم معاني التربية في نفوس الناس، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف: 111)، ولذا على كل من سلك طريق رب العالمين أن يتزود بزاد التربية النبوية، ومنها:

1- لا تتعجل الحكم على الناس

يقع كثير من الناس عامة والدعاة خاصة في خطإ على الحكم على الناس من أول نظرة سواء بالخير أو الشر دون أن يرى منه شيء أو يعرف خصاله، ومن ثم يصدر أحكامه عليهم، وهذا ليس من شيم الدعاة، مما أوقع نبي الله يونس– عليه السلام- في التعجل بالحكم على قومه بالضلال وعدم الاستجابة إليه والتهديد بالعذاب ثم تركهم قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء: 87).

2- حَسِّنْ سعيَكَ صوب هدفك

من خرج عاملًا مجاهدًا لله لا يهمه تصرفات الناس ولا يزعجه قلة السالكين لطريق الحق، فلن يضار الحق ولو كنت وحدك من تحمله، فلا تغضب إذا لم يستجب لك أحد فما عليك إلا الأخذ بالأسباب ودع النتائج على الله سبحانه، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: 35].

3- الرضى بقضاء الله

قضاء الله نافذ على الجميع لا يرده أحد، والمسلم مطالب بالرضا بقضاء الله وقدره مع الأخذ بأسباب الدفع، قال ﷺ: «وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، فحينما رضى يونس عليه السلام بقضاء الله وقدره وهبه الله نعمة التسبيح فكانت نجاة له مما فيه، وهكذا كل مسلم إذا رضى وهبه الله من فضله قضاء حوائجه ورفع الغم عنه.

4- حُسْنَ اللجوء إلى الله

يقول سيد قطب: «إن أصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها، ولا بد أن يثابروا ويَثبُتوا، وطريق الدعوات ليس هيِّنًا ليِّنًا، واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة؛ فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات والنظم والأوضاع يجثم على القلوب، ولا بد من إزالة هذا الركام».

ولهذا على أصحاب الدعوات اللجوء الدائم إلى الله لينير لهم طريقهم ويشرح لهم صدور الناس وصدورهم، فإذا انقطعت الأسباب عليك برفع قلبك وجوارحك لمناجاة ربك: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87، 88].

5- أهمية عبادة التسبيح

يغفل أصحاب الدعوات عن عبادة التسبيح ومناجاة رب العالمين في كل حيث، وإذا اشتدد بهم الضر لجئوا لتغيير الوسائل أو التراشق فيما بينهم، بالرغم أن الله سبحانه هداهم لعبادات التسبيح وحسن التوكل على الله ثم السعي وراء الأسباب: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143، 144].

6- الإيمان مناجاة في الفتن

ينجي الله المؤمنين، ويعمد لحفظهم وتذليل الصعاب أمامهم لإيمانهم وتمسكهم بدينهم، وعلى أصحاب الدعوات أن يدركوا حقيقة أن إيمانهم وتعلق قلوبهم بالله سبحانه هو سبيل نجاتهم وليس اختلافهم وتشرذمهم.

إنَّ في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافِه بظُلمه لَعبرةً لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها، وإنَّ في رحمة الله لذي النون واستجابة دعائه المُنيب في الظُّلمات لَبُشرى للمؤمنين: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88].

 

من وسط الظلمة يأتي الفرج

يظن أصحاب الدعوات أن المحن والفتن والعقاب والعذاب والاضطهاد والاعتقال والإعدام والمطاردة هو عقاب من الله عليهم فتزيغ القلوب أحيانًا وتفتر النفس أحيانًا، ونسوا أن من وسط هذه الظلمات يرسل الله المنح والنعم، فلا تقنط واصبر واعمل وانتظر فرج الله يأتيك من حيث لا تحتسب.

فقوم يونس آمنوا بعد أن أغضبوه وخرج كارهًا لفعلتهم لكن بعدما تيقن في الله آمن به قومه وأرسل إليه النصر، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 4، 5].

وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51].

فعلى أصحاب الدعوات أن يُعلوا شأن دينهم في قلوبهم، ويتيقنوا من غايتهم التي يعملون من أجلها، وأن يعذر بعضهم بعضًا، وأن يتراحموا ويعيدوا النظر في الأسباب بعدما يحسنون التوكل على الله.

 

 

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم