خلق الله الإنسان في الحياة خليفة في أرضه ابتلاء وامتحانًا، فأرسل الرسل وأنزل الكتب للدلالة على الخير والهداية إلى أقوم السبل، وبيان المنهج الذي يصلحه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} {الملك: 14} رحمةً منه ولطفًا، ثم جعل له حرية الاختيار ليشكر أم يكفر: {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُورًا} {الإنسان: 3}.
وفى دراسة بعنوان «ملاءمة التكاليف الشرعية للمكلف وأوجه الرحمة فيها»، للدكتور يحيى مقبل الصباحي، أستاذ التفسير وعلوم القرآن المساعد بجامعة صنعاء، يرى أن التكاليف شُرعت رحمة بالناس في الدنيا ونجاة وفوزًا في الأخرى، فراعت تكوينه الجسدي والنفسي والعقلي، كما راعت تقلبات الزمان وتغير الأحوال، كل ذلك تحقيقًا لمصلحته في الدارين ورفعًا للحرج.
مفهوم التكاليف الشرعية وسماتها
التكليف لغة: مصدر كَلّف. يقال كَلَّفَه تكليفًا أي: أمره بما يشق عليه، وتَكَلَّفْتُ الشيء تجشمته، ويُقَال: حملت الشيء تَكْلِفَةً، إذا لم تُطِقْه إلا تكلفًا، والكُلْفَةُ: ما يَتَكَلَّفُهُ من نائبةٍ أو حق، وكَلَّفَه أمرًا: إذا أوجبه عليه أو فرض عليه عملًا ذا مشقة.
وفي اصطلاح العلماء: «طلب الشارعُ ما فيه كلفة من فعل أو ترك بطريق الحكم، وهو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير».
إذًا: فالتكليف إلزام ما فيه كلفة على المخاطب، إذ التكليف استدعاء حصول الفعل على قصد الامتثال، سواء كان الفعل طلبًا أو نهيًا.
إطلاق لفظ التكاليف على الأحكام الشرعية:
جُبل الإنسان على حب الشهوات والملاذ الفانية كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ} [آل عمران: 14]، والأحكام الشرعية فيها نوع من المشقة على النفس، خلافًا لمن يتتبع متع الحياة والركون إلى الراحة والاسترخاء خصوصًا في بداية سيرها إلى الله، وهذه المشاق منها ما هو عادي ملازم للحياة لا ينفك عن التكليف كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود ورجم الزناة ونحو ذلك.
أما المشقة التي تتجاوز الحدود العادية والطاقة البشرية السوية، كالتي تؤدي إلى هلاك المكلف أو ضياع إحدى الضرورات الخمس، فنحو هذه المشقات إنما هي مرفوعة عن الأمة، ولم يكلفنا الله بها، بل هي موجبة للرخصة.
أما المشاق العادية قد يستشعرها من هو في بداية الطريق إلى الله، أولم يجد به السير، أما من اعتاد السير في دروب الهداية، وتوغلت نفسه بأنوار التكاليف الربانية، ستكون التكاليف والمشاق المصاحبة معها قرة للعيون وراحة للنفوس، ومن تأمل قوله ﷺ: «أرحنا بها يا بلال» علم مقصود ذلك.
فتكاليف الشرع محبوبة للمؤمن، إذ بها يتغلب على هوى النفس ويسعى في تزكيتها، ويمتثل أوامر خالقه ومعبوده، مستشعرًا بأن طريق الجنة محفوف بالمكاره كما قال ﷺ: «حُفِّت الجنة بالمكاره، وحُفِّت النار بالشهوات».
وعليه: فإطلاق اللفظ من باب بيان امتثال المكلف للقيام بالتكليف طاعة ورجاء ما عند الله، والثواب والأجر ليس مترتب على شدة التعب، بل على إحسان العمل وتأديته كما أمر الله، بل لو وجدت المشقة تكون معتادة قدر وسع المكلف.
سمات التكاليف الشرعية وأوجه الرحمة فيها
للتكاليف الشرعية سمات تتميز بها عن غيرها من القوانين والأنظمة، إذ أنها تهدف إلى إيجاد الفرد المستخلف القادر على القيام بالأمانة الموكلة إليه، مراعاة لحاله ووضعه، ولعل أبرز هذه السمات ما يلي:
أولًا: ارتباطها بالغايات:
ما يميز أي: عمل أو تكليف ليس صورته أو مظهره، بل الغاية التي يريد تحقيقها، والمقصد الذي سيوصل صاحبه إليه، فليس الغاية من التشريع هو صورة الفعل فقط، فنجد قبول التكاليف من قبل الشارع مرتبطًا بغاياتها: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، ففي الصلاة: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، وفي الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وبعد أن بين سبيل الخير ونهى عن سبل الغواية ختم ببيان الغاية: {ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
والتكليف الذي لا يؤدي غايته ولا يحقق مقصده ليس لصورته قيمة في ميزان الشرع، بل صاحبه مذموم وإن أداه، قال تعالى ذامًا عددًا من المكلفين بسبب عدم تحقق مقاصد التكليف: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) ويمنعون الماعون} [الماعون: 4-7].
وقال ﷺ: «من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وقال في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
ومن هنا ندرك أن قيمة التكليف يتحدد بتحقيق غايته ومقصده وإلا فلا قيمة له، قال تعالى مبينًا عاقبة الأعمال التي لم تحقق غايتها: {وقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23]، وقوله ﷺ: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من سيئاتهم وخطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
ثانيًا: السهولة واليسر
اليُسر مقصد من مقاصد الإسلام الكبرى وغاية من غاياته، جعله الله منطلقًا لكل التكاليف الشرعية أمرًا ونهيًا، وأمرنا أن نلتزمه في فهمنا للدين والعمل به والدعوة إليه قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «{يُرِيدُ} أي: يحب؛ فالإرادة شرعية؛ والمعنى: يحب لكم اليسر؛ وليست الإرادة الكونية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بنا اليسر كونًا ما تعسرت الأمور على أحد أبدًا؛ فتعين أن يكون المراد بالإرادة هنا الشرعية؛ ولهذا لا تجد- والحمد لله- في هذه الشريعة عسرًا أبدًا»، شرعت أحكامه لتعتنقها البشرية بعيدًا عن العنت والمشقة، قال ﷺ: «إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره»، وفي لفظ: «إنكم أمة أُرِيدَ بكم اليُسر»، ولذا نجدها تتماشى مع الطبيعة البشرية التي تنفر من الصعب، وتمل من كثرة العمل، فنجد تنوعها زمانًا وشخصًا، وذلك بسبب ما فطرت عليه النفس البشرية من الضعف، وما رُكِّب فيها من الملل والتقلب قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، فإذا كان الله تعالى قد يسر وسهل العمل بما أنز من أمر ونهي؛ فكذلك يجب أن نمارسه فهمًا ودعوة وفُتْيَا.
ثالثًا: مرونة التكاليف
أرسل الله محمدًا ﷺ للناس كافة مكانًا وزمانًا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، واقتضت حكمته أن تكون شريعته صالحة مصلحة لأحوالهم، حسب حاجاتهم وقدراتهم، فتتنزل عليهم التكاليف مفصلة تفصيلًا كل بما يناسبه والأحوال التي تعيشها المجتمعات المختلفة، وذلك بما اشتملت عليه من التيسير ورفع الحرج ومراعاة أحوال الناس وعاداتهم وأعرافهم، فأنشأت الشريعة التكاليف في باب العبادات بما يناسب القدرات وتراعي ظروف الزمان والمكان.
كما وضعت التشريعات في المعاملات أسسًا عامة للمحافظة على مصلحة الفرد، ورحمة به وبالمجتمع من حوله، فتركت الشريعة للناس إنشاء صور البيوع، مع حماية إقامة العدل والقسط، ومنع أسباب التشاحن والتباغض.
فالتكاليف الشرعية قائمة على مراعاة قدرة المكلف وحاجته، ولا شك بأن حاجات المكلفين تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، فهل معنى ذلك أن التشريعات الإسلامية تتغير تبعًا لتغير الحاجات؟ الجواب على ذلك: لا، فالذي يتغير هو تنزيلها على المكلف بحسب حاله وحاجته، فالتكاليف الشرعية حقيقة واحدة، ولكن لها صور متعددة الأشكال، ذلك أن حكمة الله تعالى اقتضت تفاوت الناس في الفهوم والمدارك والقدرات، قال تعالى: {وهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال تعالى: {ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، فغاية الشريعة رحمتها بالمكلف يسرًا وسهولة، ومراعاة لأحواله.
إن منهج الرحمة من خلال السمات السابقة منهج متكامل، يُعنى بالحياة من جميع جوانبها، مما يضمن له الشمول والبقاء، وتبرز أوجه الرحمة في التالي:
- سهولة الفهم والإدراك: قال تعالى: {ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:22] يقول الشاطبي رحمه الله: «ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمّيّ تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها، أما الاعتقادية فأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم، أو بليدًا، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك».
وانطلاقًا من يسره وسماحته، ورحمته بالمكلف انتشر الإسلام في أوساط المدعوين لما لمسوه من الرحمة عملًا وأثرًا، فمن أسباب انتشار الإسلام في القارة الإفريقية، أنه دين بسيط، سهل القواعد والأصول، لا يحوج المتدين به بعد الإيمان بالوحدانية وفرائض العبادة إلى شيء من الغوامض التي يدين بها أتباع العقائد الأخرى، ولا يفقهون ما فحواها.
فلو جُعل الإسلام رموزًا لا يفهمه إلا نخبة من الناس لخرج عن الرحمة التي أنزل بها، وأرسل بها سيد الأولين والآخرين ﷺ {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فالتكاليف يفقهها كل أحد، ويطلع عليها ويعرفها بيسر وسهولة، بل كان الأعرابي يقدم على النبي ﷺ فيتعلم منه أمور الإسلام وفرائضه في مدة زمنية محدودة، ثم ينطلق إلى قومه مبشرًا وداعيًا.
من تتبع أبواب الفقه الإسلامي وجد أن التكاليف لا تلقى هكذا، بل سيجد شروط القيام بها، والأعذار المسقطة، والموانع من القيام بالعمل سواء كانت داخلية أو خارجية، وأعذارًا أخرى خارجة عن قدرة المكلف كالجهل بالتحريم، ويترتب على ذلك رحمة الشارع به من حيث عدم إقامة الحدود عليه، ومنه سقوط العبادات وسائر حقوق الله تعالى السابقة على الإسلام، فلا يطالب بقضائها حتى على قول من يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ترغيبًا لهم في الإسلام، ولئلا تكون مشقة القضاء حائلًا بينهم وبين الإسلام.
التخفيف على الناس: كالنهي عن الإطالة في الصلاة قال ﷺ: «يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمَّ الناس فليتجوز». وفي قوله ﷺ: «أَفَتَّانٌ أنت يا معاذ»، قال الإمام النووي رحمه الله: «أي: منفر عن الدين وصاد عنه».
- قطع الأعذار الموجبة لترك الأعمال: كما أرسل الله الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك، فكذلك شرع الأحكام سهلة ميسرة، لئلا يكون لأحد عذر في ترك العمل بمقتضى أحكام الشريعة.
قال الشاطبي رحمه الله: «وأما الثاني فإن المكلف بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها، ولا محيص له عنها، يقوم فيها بحق ربه تعالى، فإذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه من غيره، ولاسيما حقوق الغير التي تتعلق به، فتكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعًا عما كلفه الله به، فيقصر فيه فيكون بذلك ملومًا غير معذور، إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها، ولا بحال من أحواله فيها... فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل، وأنه يسبب تعطيل الوظائف، كما أنه يسبب الكسل، والترك، ويبغض العبادة فإذا وجدت العلة، أو كانت متوقعة نُهي عن ذلك».
إبعاد الملل: وقد أشار إلى ذلك النبي ﷺ بقوله: «خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا»، إن من الغايات من ممارسة العبادة؛ إقبال المسلم عليها عن حب لها، واشتياق إليها، فلا يعتريه ملل أو سأم في بدء أدائها، ولا في أثنائها، وفي هذا يقول الشاطبي رحمه الله: «إن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة، سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم».
والغاية من هذا كله الامتثال للطاعة وتمكين المكلف من أداء العبادة والاستجابة لربه في كل الظروف والأحوال.
الاستطاعة وأوجه الرحمة
لبيان أوجه الرحمة في شرط الاستطاعة سنجد التالي: ربط الشارع القيام بالتكاليف بتوفرها، قال إمام الحرمين في البرهان: يكلف المتمكن ويقع التكليف بالممكن. قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وقال تعالى: {عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، {رَبَّنَا ولا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
الاستطاعة مناط التكليف بالتكاليف الشرعية بعد العقل والعلم، فالعاقل العالم بالحكم الشرعي لا يجب عليه إلا إذا كان مستطيعًا قادرًا عليه كقوله تعالى {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فليس كل عالم بتكليف يجب عليه أداؤه إلا المستطيع، ومنه قاعدة «لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة» وأوضح ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى بقوله: «وإذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه أو لعدم تمكنه من العلم مثل ألا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل، لم يكن مأمورًا بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل بمنزلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه، وبه أمروا إذ ذاك».
ومن هنا أدرك الشارع أبعاد الاستطاعة قبل تحديد مدى التكليف وتنزيل الحكم على محله، ولنا في رسوله الله ﷺ أسوة فمما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: «بينما نحن جُلوسٌ عِندَ النبيِّ ﷺ، إذ جاءَه رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ، هلَكتُ. قال: ما لَكَ. قال: وقَعتُ على امرأتي وأنا صائمٌ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: هل تجِدُ رقبةً تُعتِقُها. قال: لا. قال: فهل تستطيعُ أن تصومَ شهرينِ متتابعينِ. قال: لا. فقال: فهل تجِدُ إطعامَ ستينَ مسكينًا. قال: لا. قال: فمكَث النبيُّ ﷺ. فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النبيُّ ﷺ بعَرَقٍ فيه تمرٌ، والعَرَقُ المِكتَلُ، قال: أين السائلُ؟ فقال: أنا. قال: خُذْ هذا فتصدَّقْ به. فقال الرجلُ: أعلى أفقرَ مني يا رسولَ اللهِ؟ فواللهِ ما بين لابَتَيها، يُريدُ الحَرَّتينِ، أهلُ بيتٍ أفقرُ من أهلِ بيتي. فضَحِك النبيُّ ﷺ حتى بدَتْ أنيابُه ثم قال: أطعِمْه أهلَك.
فلنلحظ الرحمة من بداية الحكم فقد تنوع الحكم وتدرج، متنقلًا من التعرف على حالة الاستطاعة إلى حالة أخرى، حتى استقر بأن يأخذ الكفارة من وقع في الخطأ، وأطعم أهله منها، وهو الذي كان مطالبًا بإخراجها.
ثم نلحظ الأسلوب النبوي في التعامل، ومبلغ رحمة الشارع في التعامل مع المعصية التي ارتكبها المكلف «فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه».
لقد راعى الإسلام المكلف وقدراته منذ نزول: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، ونمى معه إلى الوصول إلى اكتمال التنزيل، فراعت النصوص الشرعية جوانب الحياة بكل تقلباتها، عجزًا وقدرة وضعفًا وقوة ومن ثم تنوعت التكاليف وتعددت درجاتها، تتوزع بحسب حالة المكلفين عزيمة ورخصة، وعلى هذا فكل حالة تكليفها يتناسب مع قدرتها واستطاعتها.
التكاليف الشرعية متوافقة مع الطبيعة التكوينية للإنسان: فالذي خلق الإنسان والظروف والزمان أعلم بقدرات الإنسان وحاجاته الأصلية {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: 14] فالتكليف الشرعي ابتداءً، بمراتبه وخطابه، إنما يقع ضمن الوسع والإمكان البشري، فلا يمكن أن يتجاوز حدود الطاقة البشرية بظروفها المتنوعة، وحالتها المتقلبة، من أدنى مراتب الحكم الشرعي الندب والاستحباب إلى أعلى مراتبه الفرض والواجب.
التكليف الشرعي يتغير شكل أدائه أو صورته بحسب الاستطاعة لكل مكلف، لتغير أحواله وتقلبه في الحياة بين محطات الابتلاء بالشدة والرخاء، والعسر واليسر، والصحة والمرض، والوجود والعدم، فما هو مطلوب من الواجد للماء غير ما هو مطلوب من العادم له، وكذا ما هو مطلوب من مَن يعيش في حالة الأمن غير من هو في حالة الخوف، وكذا ما هو مطلوب من مَن يتنعم بالصحة والعافية غير من حاصرته الأمراض وأقعدته الأسقام، فأقدار التدين والابتلاءات لا تتجمد على حالة واحدة، ولا تتوقف عند حدٍ معين.
التكاليف مقاصدها وتفاوت درجاتها
تدور التكاليف الشرعية بين الأمر والنهي على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها، والأصل فيها قوله ﷺ: «ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم».
مقاصد التكاليف وآثارها على المكلف
غاية التكاليف الشرعية تهذيب الإنسان، وتهيئته للقيام بالاستخلاف في الأرض، وتحقيق مصلحته في العاجل والآجل، فأمرهم «بتحصيل مصالح إجابته وطاعته، ودرء مفاسد معصيته ومخالفته؛ إحسانًا منه إليهم، وإنعامًا عليهم؛ لأنه غني عن طاعتهم وعبادتهم. فعرفهم ما فيه رشدهم ومصالحهم ليفعلوه؛ وما فيه غيهم ومفاسدهم ليجتنبوه، وأخبرهم أن الشيطان لهم عدو ليجتنبوه ويعادوه ويخالفوه، فرتب مصالح الدارين على طاعته واجتناب معصيته».
ولذا سنجد النصوص الشرعية تعلل الأحكام، وتركز على غاية التكليف قبل أن تركز على صورته ومظهره، رحمة بالمكلف وسعيًا لتحقيق سعادته في الدارين، ولعل أبرز صور الرحمة في هذا ما يلي:
- دوام الصلة بالله: فالارتباط الدائم بالله نعمة ومنة كبيرة من الله، فأبرز عنوان الارتباط هو القيام بما أمره الله أن يقوم به، والاستمرار على الطاعة إلى النهاية وإن كانت قليلة، قال ﷺ: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلّ».
فإن الدوام على الأعمال الصالحة مقصد من مقاصد الشريعة، وهدف من أهدافها العامة، يدل على ذلك مجمل التكاليف الشرعية، فالأعمال فيها مقسمة إلى فرائض ونوافل كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، والفرائض مقسمة على الزمن، بما يجعل العبد دائم الصلة بربه، فلليوم فرائض، وللأسبوع فريضة، وللسنة فرائض، وللعمر فرائض. فمن التزم تلك الفرائض فهو مداوم على طاعة الله جل جلاله.
فأي رحمة أبعد من هذا أن يظل الفرد متصلًا بربه، يستمد منه العون، ويطلب منه السداد، محفوظ من الشرور والآثام، قريب من بيده الأمر والنهي، مفتحة له أبواب العبودية لرب الأرض والسموات.
- تعقيب التكاليف ببيان مقاصدها وثمارها على المكلف: فالله تعالى لا يشرع إلا لحكمة، واقتضت حكمته ومشيئته أن يجعل أحكام الشريعة معللة، ومبنية على حكم ومقاصد «ولهذا شاءت قدرة الحكيم ألا يجعل شرعه بعيدًا عما فطره في عقول البشر من اكتشاف العلاقات بين الأشياء وأسبابها، أو التشابه بين الأمور ونظائرها، لتقوم الحجة على العقل بالنص، وليتمكن العقل من إدراك حكمة النص والمقايسة عليه بعد بذل الجهد ضمن ما شرعه الله».
فعلل الأحكام هذه ستقود بالضرورة إلى تحقيق مصالح الناس، والقول بالتعليل يفتح أيضًا بابا واسعًا للاجتهاد وفق ما شرعه الله حتى تبقى الشريعة حية مستمرة ومحيطة بكل مسائل الناس عندما تتوسع أمور عيشهم وتكثر مسائلهم.
وفي القول أيضًا بتعليل الأحكام منع لتجاوز البشر لحكم الله التي ارتضى لعباده، حيث تبقى دائرة اجتهادهم رهينة الأحكام المستنبطة من الشريعة.
فتعليل الأحكام في الشريعة إنما وجدت لبيان الحكم والمصالح للمكلف فيعبد الله حبًا وطاعة، ورغبة ورهبة على وعي وبصيرة، قال ابن القيم رحمه الله: «لقد ذكر النبي ﷺ، علل الأحكام، والأوصاف المؤثرة فيها، ليدل على ارتباطها بها».
وهذه الحكم والمقاصد تؤثر في حياة المكلف الخاصة وتعامله مع غيره، فكلما أديت التكاليف بانضباط وانتظام، تحققت مقاصدها، ولمست ثمارها في دنيا الناس على المستوى الفردي والجماعي، وكلما تملصت المجتمعات والأفراد رأينا العكس وساد الضنك قال تعالى: {ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].
إذ أن روح التكليف هو الغاية والمقصد، فإذا لم يتحقق فلا خير في جسد بلا روح وزرع بلا ثمر. وهذا يستدعي من المكلف العناية بالتكاليف والالتزام بأدائها كما طلبها الشرع، في كل مرتبة من مراتبها، ليجني ثمارها في الدنيا والآخرة.
تفاوت درجات التكاليف
من رحمة الله بالمكلف أن الأوامر والنواهي الشرعية، ليست على درجة واحدة، وليست في الأهمية سواء: «فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية، ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد».
ونتيجة لهذا التفاوت، يجب على المكلف في نفسه، وعلى المجتهد في اجتهاده، أن يراعي هذا الترتيب، وهذا التفاوت، في فهم الأوامر والنواهي الشرعية، فينزل كل شيء منزلته، ويقدم ما حقه التقديم، وتأخير ما حقه التأخير، وإعطاء الأولوية في القيام بالتكاليف بحسب درجاتها ومكانتها ووقتها.
وأما إذا أهملنا هذا النظر- وقد اعتبره الشارع- فإننا سنقع في أغلاط جسيمة، وحرج كبير، فضلًا عن مخالفة هدي الشارع بإهمال مفاضلته وترتيبه، فليست الأوامر الشرعية بنفس الدرجة وتعطي نفس الحكم، وكذلك الشأن في النواهي. وحتى بالنسبة للأوامر التي تفيد الوجوب، والنواهي التي تفيد التحريم، ليست على درجة واحدة. فالواجبات الشرعية درجات، والمحرمات كذلك.
وقد استصحب الشاطبي تفاوت درجات التكاليف الشرعية، وهو يعالج موضوع البدع في كتابه الاعتصام، حيث قال: «إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات. فإذا كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال. وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين. ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مُكَمِّل، ولا يمكن في المُكَمِّل أن يكون في رتبة المُكَمَّل. فإن المكمِّل مع المكمَّل في نسبة الوسيلة مع القصد. ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات».
وبناء على هذا التفاوت في المصالح والمفاسد، وفي التكاليف الشرعية- تبعًا لذلك- يقرر أن: «الفعل يعتبر شرعًا بما يكون عنه من المصالح أو المفاسد. وقد بين الشرع ذلك، وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركنًا، أو مفسدته فجعله كبيرة. وبين ما ليس كذلك سماه في المصالح إحسانًا، وفي المفاسد صغيرة».
ونتيجة لهذا التفاوت ندرك وجوه الرحمة في ذلك، والتي من أبرزها:
- ترتب الأجر على حسن العمل لا مشقته وكثرته؛ رتب الله الأجر على حسن العمل لا كثرته أو مشقته قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].، وباستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والعنت. ونتيجة لهذا التفاوت بين التكاليف وأحوال المكلفين شرعت الرخص رحمة بالمكلف، إذ لو قصد الشارع التكليف بالمشقة لما حصلت، ولو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، مما يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصل مللًا، ونبه النبي ﷺ على ذلك فقال: «القصد القصد تبلغوا».
- ترتيب الأولويات في القيام بالتكاليف؛ فوضع كل شيء في مرتبته، والقيام بكل عمل في وقته، وإعطاء كل تكليف وزنه الذي أعطاه الشرع، فلا يرفع الواجب المخير إلى منزلة الواجب المعين، أو المندوب إلى منزلة الواجب، بل يوضع كل شيء في موضعه الذي شرع له، ومن ذلك ما سلكه النبي ﷺ في ترتيبه للأولويات، كما أورده البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن، فقال: «ادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تُؤخذ من أغنيائهم وتُرد على فقرائهم»، قال ابن حجر رحمه الله: «بدأ ﷺ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن من النفرة».
- التوازن في أداء التكاليف حسب درجاتها ووقت أدائها، وحال المكلف؛ إذ هو أساس التعبد وميدان الفلاح في الدنيا والآخرة، ويتضح هذا التوازن في قصة أبي الدرداء رضي الله عنه، عندما أراد السير على أسلوب خاص في العبادة، أوقع الحرج بنفسه، وحرم أهله من حقوقهم، وتشدد في غير موضعه، فزجره سلمان رضي الله عنه وأقره النبي ﷺ، فقد: آخى النبي ﷺ بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أُم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنكِ؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كُل؟ قال: فإني صائمٌ، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعطِ كُل ذي حقً حقه. فأتى النبي ﷺ، فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: «صدق سلمان».
فالشارع فاضل بين التكاليف بما ينسجم ومصلحة المكلف، ووازن بين حاجات الإنسان الجسدية والمعنوية، وبين القيم المادية والقيم الروحية.
وبين النبي ﷺ هذا المعنى بقوله: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا».
ومن خلال هذا التوازن، وهدي الإسلام القائم على الرحمة واليسر، نستطيع القول: إن الإسلام لم يحرم شيئًا يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته، كما لم يُبِح له شيئًا يضره في الواقع، كما قدر الظروف التي تعترض حياة الإنسان، وتضغط عليه، وراعاها زمانًا وشخصًا ومكانًا قال تعالى: {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنزِيرِ ومَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173]، وقد اعتبر الشارع الحكيم الرحيم مجموعة من الأمور سببًا في التيسير والتخفيف على الإنسان منها «المرض- الخطأ- النسيان- الإكراه».
فالتكاليف الشرعية منظومة من القيم متكاملة متناسقة لا يمكن أن تتناقض مع بعضها، أو تحمل العنت للمكلف، جاءت خدمة للإنسان وصيانة لحقوقه ومصالحه في الدارين.
مآلات لتكاليف الشرعي وأوجه الرحمة فيها
من أهم ما يتعين على المكلف، وخصوصًا من يتصدر للفُتْيَا، إدراك وفهم قواعد الشريعة الكلية، ومقاصد التشريع وغاياته التي يتوقف عليها تنزيل الأحكام بدون إفراط أو تفريط، فمن تصدر للفُتْيَا، وأغفل هذا الباب أوقع الناس في الحرج المرفوع شرعًا، وليس من الفقه في الدين الجمود على ما كتبه السابقون، مراعاة لوقائع معينة، أو أعراف، ومن ثم تنزيل تلك الأحكام على وقائع غير تلك الوقائع، وأعرافٍ وعوائد تغيرت واختلفت.
قال القرافي رحمه الله: «فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك... والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية» وتتبين أوجه الرحمة من خلال النظر في مآلات التكاليف فيما يلي:
- النظر في مآلات الأحكام الشرعية يساعد في فهم تنزيل الأحكام، ويجنب المكلف كثيرًا من الحرج، وكذا المجتمع من حوله، فعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟! فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء! فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي ﷺ أُخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب- شك موسى- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده».
ففي هذا الموقف النبوي يرشد النبي ﷺ أصحابه إلى أداة مهمة من أدوات التعلم؛ ألا وهي سؤال أهل العلم؛ إذ أن الجمود يورث المشقة والعنت بالمكلف، قال الإمام الخطابي: «في هذا الحديث من العلم: أنه عابهم بالفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قتله له». فالنظر إلى مآلات الفعل يورث الرحمة بالمكلف، وعدم تكليفه بما لا يطاق، أو بما يؤدي إلى إتلاف نفسه كما في الحديث السابق.
وهذا النظر قائم على مراعاة أحوال المكلف، فلا يجوز للمفتي أن يغفل عنه، ولأهمية هذا الموضوع، ترجم الإمام البخاري في صحيحه باب: (من ترك بعض الاختيار؛ مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه)، ثم أورد حديث مختصرًا بلفظ: «يا عائشة! لولا قومك حديث عهدهم، قال ابن الزبير: بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون».
- إباحة بعض المحرمات بناء على النظر في المآلات؛ كجواز الأكل والشرب مما حرمته الشريعة كالميتة والخمر إذا اضطر الإنسان إلى أكلها أو شربها، لعدم وجود غيرها، وخاف الهلاك على نفسه، فإنه يتناول القدر الذي يدفع به الضرر والهلاك قال تعالى: {ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119] وكالنطق بكلمة الكفر: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ولَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، وهذا الأمر مبني على مراعاة مآلات الأفعال؛ فإن المفسدة بهلاك النفس أعظم من المفسدة بأكل المحرم أو شربه، والمصلحة بحفظ النفس أعظم منها بترك أكل المحرم وشربه. وهكذا سائر الأفعال والأقوال كل مؤداها رحمة الشارع بالعباد وغايتها الامتثال والطاعة.
النتائج
- شُرِّعت التكاليف الشرعية رحمةً بالمكلف؛ فراعت تكوينه الجسدي والنفسي والعقلي، كما راعت تقلبات الزمان وتغير الأحوال، وبنت في المكلف قيم الاستخلاف في الأرض والوعي بقضايا الحياة المختلفة.
- اليُسر مقصد من مقاصد الإسلام الكبرى وغاية من غاياته، جعله الله منطلقًا لكل التكاليف الشرعية أمرًا ونهيًا، وأمرنا التزامه في فهمنا للدين والعمل به والدعوة إليه.
- التنوع في التكاليف الشرعية زمانًا وشخصًا، يتماشى مع الطبيعة البشرية التي تنفر من الصعب، وتمل من كثرة العمل، وذلك بسبب ما فطرت عليه النفس البشرية من الضعف، وما رُكِّب فيها من الملل والتقلب.
- إن مراعاة النصوص الشرعية لجوانب الحياة بكل تقلباتها، تمثلت بتنوع التكاليف وتعدد درجاتها، بحسب حالة المكلفين.
- الوعي بالواقع، وفقه تنزيل النص، واستكشاف كُنْهِ الخطاب، أسس لإدراك مقاصد الشريعة، ومعرفة غايات تكاليفها.
- إن تعليل الأحكام، وذكر الغايات من الخطاب الشرعي، تُعد من أبرز الدوافع للعمل، والامتثال لنيل الرحمة في الدنيا والآخرة.
- من أهم ما يتعين على المكلف، خصوصًا من يتصدر للفُتْيَا، إدراك وفهم قواعد الشريعة الكلية، ومقاصد التشريع وغاياته التي يتوقف عليها تنزيل الأحكام.
.