Business

عبده دسوقي يكتب: رحلة الخروج من التيه


أين أمتنا؟ أين شبابنا؟ أين نحن؟


أصبحت الصفة الغالبة لأمتنا هي الوقوع في التيه.. التيه بكل أنواعه.. تيه تربوي وأخلاقي بعدما تخلينا عن دورنا ومهامنا في غرس التربية في نفوسنا ووجدانا ووجدان الأجيال التي تسعى لتقود الأمم خلفنا، وتيه عَقَدِيّ بعدما أصبح الإلحاد هو قبلة معظم شبابنا في ظل الحرب الدائرة على الإسلام حتى من أهلة ونكوص العاملين للإسلام على عقبهم وتشرذمهم واختلافاتهم الدائرة على سفاسف الأمور.. فالتيهُ ضياعٌ يفقِدُ الإنسانُ فيه هُداه.. وتتبعثرُ فيه قُواه.. وانتكاسٌ تزدادُ فيه الهُوَّةُ بين حقيقةِ عملِه ومُناه.. وتيهُ الأمّةِ مُحصِّلَةٌ لتيهِ أبنائِها.. أو مُحصِّلةٌ للضياعِ المُشتَرَكِ بينهم.. فيسيرون باتّجاهاتٍ تائهةٍ، وهم يحسبون أنّهم يحُسنونَ صُنعاً.


والخروج من التيه ربما يطول لسنوات، وربما يستبدل الجيل، كما حدث مع بني إسرائيل، أو حتى أجيال، ولكن لن يكون تمكين إلا برضى الله؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
ولا يمكنُ أن يتغيّرَ حالُ الأُمّةِ إلاّ بتطوُّرِ فِكرِها إلى درجةٍ يسموا بها أبناءُ الأمّةِ إلى مُلكِ إرادةِ التغييرِ الصادقةِ للنهوضِ والعملِ البنّاء.. فالتغييرُ الفعّالُ يبدأُ بالنفسِ.
إنّ المجتمعَ بإطارِهِ العامِّ، تَنْصَبِغُ نفوسُ أبنائِهِ بلونِ الفِكرِ الذي يتِمُّ تداولُهُ فيه زمناً طويلاً، لدرجةِ حملِ مُعظَمِ المولودينَ في هذا المجتمعِ إمكانيّةً أكبرَ للتلوُّنِ بهذا اللونِ، وتأتي التربيةُ فيما بعدُ لتعمِّقَ هذا اللونَ في نفوسِ معظمِ هؤلاء المولودينَ في هذا المجتمع.. وهنا مكمنُ التيه الذي نتوارثُهُ أباً عن جد.. فحالُنا لمْ يتغيَّرْ منذُ قرونٍ كثيرة، لأنَّ حقيقةَ أنفُسِنا لمْ تتغيّرْ خلالَ تلك القرون.. وبالتالي لمْ نستفدْ من التاريخ، ومن أخطائنا فيه، والتي تكادُ تكونُ ذاتَها.


لقد أصبحت الأمة تحكم بغير شريعتها وتساس بغير إرادتها، وتوجه لغير وجهتها، بل قد يصل الأمر به إلى اعتبار كل سلوك سوي عزيز كريم هو الشائن الغريب، فهل يدرك الآباء والأمهات أنهم يصنعون للأمة –عن طريق التربية- الكرام الأعزاء أو العبيد الأذلاء. وأنهم بفعلهم هذا يقدمون لأعداء الأمة أعظم خدمة عندما يخرجون جيلا خانعا خائفا جبانا، وهكذا تتوارث الأمة -نتيجة الفهم الخاطئ لطرق التربية وكيفية التعامل مع الغير- أساليب القهر.


إن هذا التيه هو إحدى عقوبات الله عز وجل على مخالفة أمره وأمر أنبيائه؛ فإن بني إسرائيل مع إيمانهم بالله عز وجل في ذلك الوقت، وكانوا شعب الله المختار، وكان فيهم نبي من أولي العزم، إلا أنهم لما تخلفوا عن أمرٍ من أوامر الله، -وهو الجهاد- عاقبهم الله بالتيه أربعين سنة، ولا شك أن هذه العقوبة لم تكن خاصة ببني إسرائيل، بل تشمل كل من فعل مثل فعلهم من الأمم من بعدهم، فقد قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت:40]. والله لا يحابي أحدًا من خلقه.


والتيه هو رمز للبعد عن الهدف والغاية والتمكين، والوعد الذي وعدهم الله من التمكين في الأرض، وأن يدخل هذا الدين كل بيت من مدر ووبر.
دخـل أبو الدرداء -رضي الله عنه- الشام فقال: «يا أهل الشام! اسمعوا قول أخٍ ناصح، فاجتمعوا عليه فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا مثيرًا، فأصبح أملهم غرورًا وجمعهم ثبورًا ومساكنهم قبورًا..»، وصدق الله إذ يقول: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» [الحديد:20].


ومن مظاهر التيه كثرة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والابتلاءات بالفقر والمرض، والحروب والصراعات بين أبنائها ومع أعدائها، حتى أصبح الكثير من المسلمين في حالة يأس من تبدل الأوضاع وتغير الأمور، وبدأ البعض -ممن ضعُف إيمانهم- يشك في دينه ومعتقده، والعياذ بالله، وهذا من ضعف الإيمان وحب الدنيا ونسيان الآخرة، وعدم الفهم لسنن الله في هذه الحياة
قد يكون التيه إما عقوبة على ذنب ومعصية كما فعل ببني إسرائيل، أو يكون على سبيل الامتحان والاختبار والتمحيص ورفع الدرجات والتمييز بين صدق الإيمان وقوة العقيدة يقول سبحانه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ * ولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2-3].

وفي حالة البلاء لا بد من الصبر وبذل الأسباب الشرعية والدنيوية المستطاعة، والبحث عن الحق والثبات عليه وشكر الله، والتضرع بين يديه، والاعتصام به، والتوكل عليه حتى يكتب الله الفرج بعد الشدة، والأجر بعد الصبر والثبات.

سبيل الخروج
إن إصلاح الأمم يتجه إلى الشعوب أولا وكما يقول عدنان الرفاعي:
فالخطوةُ الأُولى للخروج من التيه، هي معرفةُ حقيقةِ الذات وحقيقةِ الموقفِ الذي تقفُ به هذه الذات، وحقيقةُ أمراضِ هذه الذات.
الخطوةُ الثانيةُ من خلالِ وصفِ العلاجِ السَّليم لمعالجة أمراضِ الذات، ورسمِ أُطُر الطريق السَّليم للخروج من هذا التيه.
الخطوةُ الثالثة من خلال العمل الجاد بأخذ العلاج المُناسب والسير في الطريق الذي تمَّ رسمُهُ للخروج من ظلمات التيه .. .. وهكذا تبدأُ رحلةُ الخروجِ من التيه بمعرفةِ حقيقةِ سلبيّات الذات
ويضيف إيهاب إبراهيم بقوله:
أن تعلقَ جيل التمكين بربه هو أول وأهم أسباب نصرته، وأن الله خلق الأسباب لنتعبد بها لا لنعبدها، وهو سبحانه قادر على نصرنا بدونها، ولكن إذا صح التوكل منا.


إن طول مدة التيه وقصرها، والخروج منها، متوقف على مدى امتثال العباد لأمر الله عز وجل، وسعي المربين لذلك، بكل ما أوتوا من قوة، والعمل المستمر، ليل نهار، للأخذ بخطام الأمة للانقياد لربها. وينبغي للدعاة أن لا يحزنوا عند الفتن والابتلاءات، فما هي إلا اختبارات، لإظهار مدى استجابة الأمة لأوامر ربها، والصبر عليها، بل عليهم السعي المستمر، للتأمل في الفتن، والبحث عن حكمة الله فيها، ثم السعي لرأب الصدع، وتلافي الأمر، وعدم الاستعجال للخروج بجيل التمكين، فالتأخير خير من العودة من تحت الأسوار، بجيل مغضوب عليه معاقب.


إن الأمة تحتاج الآن إلى جلسات دار الأرقم وأن تضعها محل نظر واعتبار، فقد كانت هي الأساس النظري والعملي الذي قامت على أساسه محاضن التربية والتنشئة الاجتماعية والقيمية عند المسلمين، بمختلف صورها.


فالتربية الإسلامية الصحيحة، بما فيها التنشئة الفكرية والتأسيس القيمي والأخلاقي هي التي تقف وراء الصمود الحالي لأنصار الحق الذين لم يدخلوا في التيه وظلوا متمسكين بالحق المبين.
إن المنهج الإسلامي لا توجد فيه ثغرة ينفذ منها ضلال أو بلبلة لعقل الإنسان المسلم أو قلبه، ومن ثم فهو منهج حريص على سد الثغرات ومنافذ الفتنة والتشكيك. وفي نفس الوقت يهيئ الإنسان المسلم لمواجهة الوافد والتعامل معه وهو على أرض صلبة يدعمه الفهم الصحيح والوعي الناضج.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم