قد لا نتعجب إذا التقينا يوما بفئة مثقفة وذات مكانة علمية وأدبية واجتماعية في مجتمع من مجتمعاتنا العربية، ثم يفاجئك بقوله أنه لم يمارس حرية الاختيار الانتخابي في حياته قط! فهذه حقيقة يعيشها الملايين وليست مزحة! أتمنى أن يأتي اليوم الذي نصنع فيه دراسات شجاعة توضح هؤلاء الملايين الذين لم يختاروا يومًا لأسباب قهريه، أو عزوفًا عن جو مجتمع ميؤوس من حالته الديمقراطية.
يعتقد كثيرون منا أن الديمقراطية هي آليات اختيار النخب الحاكمة عبر صناديق انتخابات تحترم رأى الناخب فقط، والحقيقة أن ديمقراطية الصندوق ليست إلا حلقة متقدمة نتيجة تربية أفراد المجتمع على متواليات متعددة، ومتفرعة من مفاهيم وتطبيقات لمعاني وسلوكيات الديمقراطية التي بدورها ترتفع بالمجتمع إلى تصنيف المجتمعات الحرة أو المجتمع الديمقراطي؟
وكذلك النظام السياسي الفوقي يؤثر أيضًا على الفهم العام والتطبيق السلوكي للشعوب تأثرًا بالجو العام، فإذا كان شموليًا ديكتاتوريًا يؤثر على الثقافة العامة للمجتمع وكذلك تطبيقاته وسلوكياته، فتجد غياب الحرية وغياب الشورى وعدم احترام الرأي الآخر، سلوكًا شعبيًا كما هو ممارسة سلطوية.
ويحضرني هنا واقعة حدثت في عام 2005، حيث كان ابنى بالمرحلة الابتدائية بإحدى المدارس الخاصة، وكنا لتونا خارجين من انتخابات برلمانية كان النظام فيها يحاول الفوز بشتى الطرق غير الشرعية، سواء عبر شراء أصوات أو تزوير أصوات أو تسويد.وكان ابني ضمن مرشحين في الفصل لانتخابات رواد العمل بالفصل، وكنت أتابع مع ابني باهتمام وأحاول أن أمده بأفكار لدعايته الانتخابية وإعداد برنامج يفيده في عرض نفسه على الطلبة ويفيد الطلبة أيضًا بعد فوزه، ولكن ابنى قال لي وفرى مجهودك وأفكارك..فزميلي المنافس قد أعطى كل تلميذ في الفصل خمسين قرشًا لينتخبوه، وبالفعل قد انتخبوه جميعا!
إن التدافع نحو الديمقراطية وسلوكيات هذا التدافع في قربه أو بعده يلقى بظلاله السلبية أو الإيجابية على الأفراد والمجتمع فيشكل ثقافته وقناعاته وسلوكياته في هذا الصدد.
لذا نجد النظم الشمولية تعمد إلى استخدام كل وسائل التربية المجتمعية في إبقاء الفكر والسلوك المجتمعي متوائمًا مع ممارساته بحيث يصبح المجتمع ذو فكر ديكتاتوري، وذو ممارسات شموليه ليكون متوائمًا مع نظامه الحاكم بالشمولية ليصبح المجتمع بأسره أسير حلقة مغلقة لا يسهل الفكاك منها لإحداث أي تغيير تقاربي مع النظام الديمقراطي أو باتجاهه، فتصبح مهام المتطلعين إلى الحلم الديمقراطي أشبه بالمستحيلة في ظل نظام سياسي سلطوي قمعي يعضده مجتمع يؤمن ويمارس الكبت والشمولية والقمع وليس هذا فقط، وإنما يقاوم ويردع كل أمنيات التغيير نحو الأفضل.
فيصبح الطليعيون للمفاهيم الجديدة، مجرمون وعملاء وإرهابيون يستحقون الملاحقة والسجن والقتل. ليس من وجهة نظر النظام السياسي القمعي وحده، وإنما أيضًا من وجهة نظر مجتمع خاضع لعملية تربوية تراكمية ممتدة ومتواصلة لا ينتهي عملها ولا يستريح لحظة.
فالفرد الاجتماعي في النظام الشمولي تتلقاه أسرة سبق خضوعها لتربية الاستبداد وتشكيل ثقافاتها ومعتقداتها وممارساتها، وهى التي تستقبل الوافد الجديد، فتعلمه وتربيه بالمفاهيم والسلوكيات والممارسات التي تعرفها وعاشت عليها، فتقتل فيه فطرة الميل إلى الحرية والتطلع اليها، ثم تسلمه لشيخ يعلمه الدين وقد تم نزع روح الشورى والتعددية والإنسانية من دروسه، مبقيًا فقط على ما يظهر الصورة المناسبة لحركة المجتمع وثقافاته وتعاملاته، فيصبح احترام الكبير جزء من وأد معالم المشاركة والتطلع للفكاك من براثن الكبير الذى هو الشيخ والحاكم وأي سلطة جاء بها الاستبداد.
ثم ينتقل الطفل إلى المدرسة حيث نظام سلطوي شديد القسوة متكامل الحلقات سواء المنهج الدراسي أو الكتاب أو المعلم أو الإدارة أو حتى جدول الحصص؛ حيث الحرمان من الحرية في ممارسة الهوايات أو التعبير عن الآراء الخاصة، فيتكرس من خلاله غياب حرية التعبير ويعلو القهر إلى درجة تُحرم على الطفل الحديث الخاص أو حرية التعبير ولو حتى في الرسم، ولا شيء سوى حشو دماغ الصغار بما أقره النظام الاستبدادي من معلومات محددة لا تخرج عن نطاق مطلوباته.
تصبح الأنشودة والرسمة والكلمة التعبيرية في مدارس النظم الاستبدادية وسيلة من وسائل تشكيل العقل المقهور، والتي من المفترض أنها وسائل لاتساع الفكر ورحابته ونقط تواصل مع تجارب الأمم الأخرى، ليبقى الطفل أسير الوضع القائم فيخرج كما الباقين وقد تم تشكيله وفق القالب الواحد الذي يقدس الوضع القائم ولا يسعى إلى تغييره بل يعتبر التطلع نحو التغيير هو من المحرمات القطعية التي لا نقاش فيها.
مهما بلغ التخلف انحداره، ومهما اتسعت حلقة الفساد فأرهقت الاقتصاد وأزهقت الأرواح يظل المجتمع أسيرًا ما تربي عليه من تحريم التغيير وشيطنة الداعين إليه.
حتى هؤلاء الذين يَدَّعون سعيهم نحو الحرية سواءً كانوا أحزابًا أو أفرادًا. وسواء كانوا مدركين أو غير مدركين فإنهم يظلون مكبلين بترسبات مراحل التربية الديكتاتورية التي خضعوا لها قسريًا منذ ولادتهم مرورًا بالأسرة فالمدرسة فالجامعة فالكتاب فالأنشودة فالفيلم فاللوحة فالممارسة السياسية نفسها على قمة الهرم. نجدهم ينادون بالحرية والديمقراطية بينما لا يمارسونها في بيوتهم أو أحزابهم أو صحفهم، ربما يستطيعون نقد النظام ويتحملون مسئولية ذلك سجن واضطهاد وغربة، لكنهم نادرًا ما يراجعون سياساتهم أو آرائهم ويعترفون أنهم ربما كانوا مخطئين، وهذا ليس لأنهم غير جادين في التطلع نحو الحرية والديمقراطية بل على العكس، ولكن تمنعهم تأثيرات التربية المتراكمة التي تحتاج إلى عناية خاصة في التخلص من سموم التربية الشمولية والتدرب والخضوع الجاد لآليات تربوية تغيرهم وتوجههم نحو المأمول من التغيير.
.