كيف تكون العلوم الإسلامية حصنًا وعلاجًا لما يتعرض له المسلم المعاصر؟

يعاني المسلم المعاصر من مشاكل كثيرة ومتنوعة ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالفراغ الفكري والعقدي تتمثل في الانحراف السلوكي الكبير عن الصراط السويّ وما ينجم عنه من الحياة الضنكى، ولا يحصل ذلك إلا إذا غابت العقيدة الإسلامية الصحيحة، والفكر السليم المنبثق عنها الناجمين عن التربية الإسلامية الصحيحة.

وفى دراسة بعنوان «كيف تكون العلوم الإسلامية حصنًا وعلاجًا لما يتعرض له المسلم المعاصر؟»، للدكتور بشير قادرة، الأستاذ بجامعة الحاج لخضر- باتنة، حاول فيها رصد العلاج في مجموعة من الوسائل والأدوات في صورة تكاملية، لإصلاح عقيدة الإنسان وفكره، عبر بناء العقيدة الإسلامية الصحيحة والفكر السوي المنبثق عنها كما فعل النبي ﷺ في بداية الدعوة.

 

أولًا: ما هي العلوم الإسلامية؟

نجد اليوم في ربوع العالم الإسلامي كليات وجامعات يطلق عليها اسم كليات وجامعات العلوم الإسلامية، وعندما نتفحص دليل المواد المدرسة فيها نجدها تلك العلوم المشتقة من القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ وهي: حفظ وتلاوة وتفسير القرآن الكريم وعلومه المختلفة؛ وكذلك علوم الحديث الشريف في مجالي الرواية والدراية ومصطلح الحديث؛ والسيرة النبوية المطهرة؛ والعقيدة؛ والفقه وأصوله؛ والأخلاق الإسلامية؛ وبعض العلوم المكملة لها كالتاريخ والاقتصاد الإسلاميين. وعلوم العربية كأداة ووعاء لفهم العلوم الإسلامية لأنها جاءت بلسان عربي.

وفي مجال التأليف والكتابة يسميها البعض العلوم الشرعية، ويسميها البعض العلوم الإسلامية، بل وحتى التربية الإسلامية والعلوم الإسلامية بصورتها الحالية من الناحية التاريخية لم تظهر في عهد النبي ﷺ، بل ظهرت فيما بعد بسبب توسع الفتوحات الإسلامية واتساع رقعة العالم الإسلامي ودخول أجناس أخرى غير عربية في الإسلام مما جعل ظهور هذه العلوم ضرورة وظيفية، قام بها العلماء آنذاك، من أجل فهم الإسلام والعمل به.

ويذهب البعض إلى أن كل العلوم إسلامية سواء كانت شرعية مشتقة من القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ أو كونية كالفلك والجغرافية والجيولوجية والفيزياء... لأن الله هو الذي شرع الأولى، وأوجد الثانية وقوانينها، ودور الإنسان بالنسبة للثانية ينحصر في اكتشافها والاستفادة منها، وتتكامل العلوم الشرعية والكونية، إذ تُوجِّه العلوم الشرعية المتعلم إلى مقاصد الشرع في العمران البشري، وتوجهه العلوم الكونية إلى تحقيق الاستخلاف في الأرض، شريطة أن تكون منهجية وطريقة التدريس وفق الرؤية الإسلامية للمعرفة. ويتدعم هذا الرأي باتجاه أسلمة المعرفة.

ورغم وجاهة الطرح لدى القائلين باتساع دائرة العلوم الإسلامية إلى العلوم الكونية متى كان المنهج إسلاميًا، فإن المقصود منها كمصطلح في هذه الورقات، يتوقف عند العلوم الشرعية المشتقة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، كرأي راجح لا يثير خلافًا.

 

ثانيًا: ما هو منهج تدريس العلوم الإسلامية؟

مفهوم المنهج لغة: يعرف ابن منظور المنهج بأنه الطريق الواضح.

والمنهج كالمنهاج، وفي القرآن الكريم: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجًا} (المائدة: 48).

والمنهاج- كما يقول ابن كثير-: هو «الطريق الواضح السهل، والسنن والطرائق». وهذا التعريف اللغوي للمنهج عام، يصلح لكل جوانب الحياة ومجالاتها كالزراعة والتجارة والتربية، وغيرها.

تعريف المنهج الإسلامي

إن منهج تدريس العلوم الإسلامية أو التربية الإسلامية كما تُسمى عند البعض، هو:

«نظام متكامل من الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، والخبرات والمعارف والمهارات الإنسانية المتغيرة التي تقدمها مؤسسة تربوية إسلامية إلى المتعلمين فيها قصد إيصالهم إلى مرتبة الكمال التي هيأهم الله لها؛ حتى يكونوا قادرين على القيام بحق الخلافة في الأرض، عن طريق الإسهام بإيجابية وفاعلية، في عمارتها وترقية الحياة فيها وفق منهج الله».

خصائص المنهج الإسلاميّ

الربانية: أي أنه منهج يرتفع فوق الزمان والمكان، فهو من لدن الحكيم الخبير العليم عز وجل، خالٍ من النقص والجهل والهوى كما هو في مناهج البشر.

الشمولية: لما كان المنهج الإسلامي رباني المصدر فهو يتصف بالشمولية، أي ابتعاده عن الجزئية والوقتية وخلوه من التناقض، وأن الوجود كله لله، خاضع لإرادته ومشيئته المطلقة: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (النحل: 40).

مما يجعل المنهج التربوي الإسلامي في خاصية الشمولية يشمل كل ما يتعلق بالمتعلم من عقل وروح وجسد ونفس، وكل ما يتعلق بالمجتمع الذي ينتمي إليه المتعلم، وشمولية المعرفة لكل الجوانب التي يكون لها انعكاسات تربوية على كل من المتعلم ومجتمعه معًا.

التوازن: أي التوازن بين ما يتلقاه الإنسان من الله ويؤمن به وينتهي عنده، وما يتلقاه ليدركه ويفكر فيه ويبحث عن علله وأسبابه ويستفيد منه في حياته العملية. أي التوازن بين الثوابت والمتغيرات، ثوابت الإيمان والعقيدة ومتغيرات العقل والتفكير والاجتهاد. وتتمشى التربية الإسلامية في التوازن بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية، بين فروض العين وفروض الكفاية، التوازن بين الجوانب النظرية والتطبيقية، إنه التوازن الشامل الذي يفيد الفرد ومجتمعه في الدنيا والآخرة. وقد أكد القرآن الكريم هذا التوازن فقال تعالى: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: 77).

الإيجابية: ويقصد بها قدرة الله المطلقة الفعالة في الكون والحياة والإنسان من جهة، وقدرة الإنسان على التأثير والتغيير فيما حوله طالما هو ملتزم بالمنهج الرباني، مستمد قوته وتأثيره من قوة الله وعونه. ويؤكد هذا العديد من الآيات القرآنية، منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} (الواقعة: 63- 73). وقد بينت هذه الآيات الكريمات أن حركة الإنسان في عملية التأثير والتغيير مرهونة بمشيئة الله تعالى وإرادته، ولا يتحقق للإنسان من النجاح والفوز إلا إذا كان توفيق الله محالفًا له، وما يحدث للإنسان في وقائعه الحياتية اليومية أقوى برهان.

الواقعية: ومعناها أن المنهج الإسلامي يتعامل مع وقائع ذات وجود حقيقي يقيني، مثل الحقيقة الإلهية والحقيقة الكونية والحقيقة الإنسانية، ومن ثم يوجه اللهُ سبحانه الإنسانَ ليتأمل هذه الحقائق الواقعية من سماوات وأرض ونجوم وكواكب ونبات وحيوان وجماد وظواهر شتى، للإيمان بالله الواحد القهار والخضوع له، عن تبصرة ويقين، كما ينظر للإنسان بشكل واقعي، بحقيقته الموجودة، بعقله ونفسه وروحه، ونوازعه وأشواقه ورغباته، وقدراته واستعداداته، وآماله وآلامه، وأفراحه وأحزانه، وهذه الواقعية في منهج الحياة، تتطلب من منهج التربية أن يهتم بالحقائق ذات الوجود الواقعي وأن يبتعد عن البحث في المثاليات التي ليس لها مقابل في الواقع، ولا جدوى من ورائها، حتى ينطلق ويعمر في هذه الأرض ويطور فيها.

العالمية: أي أن الإسلام دعوة عالمية للبشر جميعهم، لقوله تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، ولذلك يستهدف المنهج الإسلامي للحياة، تكوين وتنمية الإنسان الصالح والمصلح، في نفسه وبيئته ومجتمعه وأمته والبشرية جمعاء في حدود قدراته. ومن ثم فالمنهج التربوي الإسلامي يعد الإنسان بمواصفات ومعايير تؤهله ليكون إنسانًا بكل معايير الإنسانية بعيدًا عن العنصرية والطبقية والتعصب، يسعى لإسعاد البشرية جمعاء.

 

ثالثًا: ما هو هدف تدريس العلوم الإسلامية؟

مما لا يخفى على أحد من ذوي الاختصاص أنه يوجد تكامل من حيث المحتوى والأدوار إلى درجة التطابق أحيانا، وإن اختلفت المسميات، بين الإسلام كمنهج حياة ونظام شامل للإنسان، وبين الأصلين الكبيرين القرآن الكريم والسنة المطهرة اللذين يقوم عليهما، وبين العلوم الشرعية التي تنبثق منهما، ومن ثم ما يدعو إليه الإسلام يدعو إليه القرآن الكريم والسنة المطهرة والعلوم الإسلامية المنبثقة منهما.

الإسلام منهج حياة

إن الدين الإسلامي منهج حياة، وقد حدد مسار ومصير الإنسان في جميع المجالات، ووظيفته في هذه الحياة الدنيا، ومصيره في الحياة الآخرة، من خلال إجابته على الأسئلة الكبرى التي احتار فيها الإنسان وهي من أنت أيها الإنسان؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ وماهر مصيرك؟ وقد تكون الإجابة بصورة مختصرة ومركزة ومقنعة وفي آيات قليلات، لا تتعدى أسطرًا قليلة على هذه التساؤلات الكبرى لإثارتها لكل مفاتيح الفهم والإقناع والتأثير كما في قوله تعالى على سبيل المثال لا الحصر: {يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وإنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وإنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} (الانفطار: 6- 15)، فقد أجاب في كلمات قليلة هذا الإنسان وعزفه بخالقه الكريم الذي أوجده من عدم وأحسن خلقته ومظهره- أي من أين جئت أيها الإنسان؟- ورغم ذلك فهو يجحد ربه، ويكذب بيوم الجزاء، وبيّن له أنه في هذه الدنيا مراقب في كل ما يقوم به من أعمال حتى يستقيم ويؤدي حق العبودية لله والاستخلاف فيها على الوجه الأكمل– أي لماذا جئت أيها الإنسان؟- ونبهه إلى يوم الجزاء ومصير الناس فيه، فالجزاء من جنس العمل- أي ما هو مصيرك أيها الإنسان؟-.

القرآن الكريم وسنة المصطفى ﷺ أصلا الإسلام

الإسلام يقوم على الأصلين الأساسيين له، وهما القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ، للحديث الشريف المشهور: «تركت فيكم أمرينِ؛ لن تَضلُّوا ما إن تمسَّكتُم بهما: كتابَ اللَّهِ وسُنَّتي، ولن يتفَرَّقا حتَّى يرِدا عليَّ الحوضَ».

غايات تدريس العلوم الإسلامية

تدريس العلوم الإسلامية «الشرعية» أو «التربية الإسلامية كما يسميها البعض»، إذا أحسنّا تحديد وتوضيح الأهداف التي يسعى إليها الإسلام من خلال ما في الأصلين وما انبثق منهما في صورة تكاملية- حتى وإن اختصت بعض العلوم الإسلامية بأهداف فرعية محددة ستحقق الغايات من تدريسها- وهي:

  1. بناء العقيدة الصحيحة للمسلم.
  2. التربية الصالحة للفرد والأسرة والمجتمع.
  3. بناء العلاقات المثالية المتوازنة في جميع الاتجاهات بين الفرد وربه، بين الفرد ونفسه، وبين الفرد وبقية الأفراد كيفما كان موقع هذا الفرد ومستواه.

أي تحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض من خلال بناء المسلم في جميع أبعاده الفردية والجماعية، في إطار هوية محددة المعالم والأسس والأهداف، تحمي معتنقها من أي انزلاق خارجها: {قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162-163).

ويمكن توضيح العناصر الثلاثة السابقة بشيء من التفصيل كالآتي:

1- بناء العقيدة الصحيحة للمسلم:

تطلق كلمة العقيدة الإسلامية على أركان الإيمان، وما يتفرع عنها من توحيد الألوهية والبعد عن كل شبهات الشرك، وعلى الإيمان بالغيب، وبالرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر. وتعتبر العقيدة الإسلامية الصحيحة هي الأساس الأول الذي تقوم عليه كل الأعمال الصادرة عن المسلم من السلوكات والتصرفات في المنشط والمكره.

والعقيدة الإسلامية يتعلمها المسلم أساسا من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما تفرع منهما من شروح العلوم الإسلامية كما هو في درس العقيدة.

وإذا بنيت هذه العقيدة بناءً صحيحًا لدى المسلم فأنها توحد حياته النفسية ونوازعه وتفكيره وأهدافه وعواطفه وسلوكه وعاداته وتجعلها متضافرة ترمي كلها إلى تحقيق الخضوع لله وحده، والشعور بألوهيته، وحاكميته، ورحمته، وعلمه لما في النفوس، وقدرته، وسائر صفاته.

أمثلة من السلوكيات تصنعها العقيدة الصحيحة:

التصرف إزاء المال: يميل الإنسان فطريًا إلى حب المال وجمعه، ولكن العقيدة الإسلامية الصحيحة ترسخ عنده أن المال مال الله، مالك كل شيء، وأن الإنسان مستخلف فيه بمقتصد شريعة الله، ومن ثم يثمر المال دون أن يستعبد قلبه، أو يصبح هو همه الأكبر في الحياة، فيكسبه من حلال وينفقه في حلال، وينفق بسخاء فيما يرضي الله، خلافًا لما هو سائد اليوم في دنيا الناس من السعي بكل الوسائل حتى السرقة والقتل في جمع المال، ثم إنفاقه في سبيل الشيطان.

مثال شامل: وما يقال عن حب المال يقال عن حب الجاه والسلطة، وحب النساء،... فهي غرائز فطرية في الإنسان، فالإسلام لا ينكرها: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ} (آل عمران: 14)، لكن العقيدة الإسلامية الصحيحة، تلجم الإنسان أن يجعل هذه الشهوات هي هدفه من الحياة، أو الاسترسال فيها بصورة غير متوازنة، أو ممارستها خارج إطارها الشرعي الذي حدده الإسلام.

2- التربية الصالحة للفرد والأسرة والمجتمع:

تحدد المعاجم اللغوية للتربية ثلاث معانٍ هي: النشأة، والزيادة، والإصلاح.

والتربية اصطلاحًا كما جاء في كتاب مفردات الراغب الأصفهاني (المتوفى سنة 502 هـ): «الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام»، ومنه استمد النحلاوي نقلًا عن عبد الرحمن الباني أن التربية تتكون من العناصر التالية:

  • المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
  • تنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة متنوعة.
  • توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب كلها نحو صلاحها وكمالها اللائق بها.
  • التدرج في هذه العملية.

وسيخلص من هذه العناصر مجموعة من النتائج هي:

  • أن التربية عملية هادفة لها أهداف وغايات.
  • أن المُرَبِّي الحق هو الخالق عز وجل، خالق الفطرة وواهب المواهب.

ومن ثم فتربية الفرد من خلال تدريسه للعلوم الإسلامية وفق المنهج الإسلامي في تعريفه وخصائصه، سيبني اللبنة الأساسية في الأسرة وهي: الفرد المسلم في عقيدته وتصوره وفق أهداف الإسلام وغاياته الكبرى، مما يثمر سلوكًا صالحًا مستقيمًا متوازنًا لدى الفرد، يقوم على خشية الله ومراقبته في السر والعلن، والإحسان إلى الخلق، يعمر الأرض بفعالية وجدية، من منظور الاستخلاف والعبادة والعدل، وليس من منظور الاستكبار والظلم ونزعة الخلود والتهافت على الدنيا، كما يتم بناء الأسرة المسلمة، اللبنة الأساسية في المجتمع الإسلامي، التي تسودها السكينة والمودة والرحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21)، ويأتي بعد ذلك المجتمع المسلم، النظيف، الخالي من الأمراض المادية والمعنوية، المتحآب، المتكافل، المتعاون، الخالي من الظلم والجريمة والعنف، إنها ليست مجرد خيال أديب أو أحلام كاتب، ولكنها حقائق واقعية أثبتها التاريخ ذات يوم، عندما كان محمد ﷺ قائد الركب، وعلى دربه من بعده سار الخلفاء الراشدون، وكان الدليل هو القرآن الكريم، وليس مستحيلًا أن تتكرر التجربة ثانية إن صدقت العزيمة والنوايا لدى الرجال، فالدليل تكفل الله بحفظه الله تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).

3- العلاقات المتوازنة في جميع الاتجاهات

عندما يتم بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة التي تسودها المحبة والمودة وينشأ عنها المجتمع الذي يقوم بالواجبات قبل أن يطالب بالحقوق، المجتمع المتحآب المتعاون المتكافل، وإنه كمحصلة لذلك تتكون العلاقات المتوازنة وفي جميع الاتجاهات، بين الفرد وربه، وبين الفرد ونفسه، وبين الفرد وبقية المخلوقات، وإنما تختل العلاقات وينشأ الصراع والتدافع بسبب فساد النفوس واستيلاء الأنانية عليها.

 

رابعًا: لأي فئة تُدَرّس العلوم الإسلامية؟

يقوم مبدأ تدريس العلوم الإسلامية على القاعدة من الحديث الشريف: «من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»؛ أي معرفة الدين وفهم أحكامه والالتزام بها، من علامات فلاح الإنسان وفوزه في الدارين، أي الحث والتحريض على دراستها للخير المتوقف عليها. كما أن من أهداف تدريس العلوم الإسلامية بناء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، وعليه يصبح تدريس العلوم الإسلامية لا يتوقف على شريحة عمرية معينة أو مستوى أو جنس محددين، فتعلم العلوم الإسلامية كأداة تربوية تعبدية، يحتاج إليها كل المسلمين على اختلاف أعمارهم، ومستوياتهم، وجنسهم ذكورًا أو إناثا، وقد كانت مجالس النبي ﷺ تحضرها كل الفئات العمرية، وكانت له مجالس خاصة بالنساء، وقد جاء في الأثر: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. وعليه يصبح تدريس العلوم موجه لكل شرائح المجتمع.

 

خامسًا: بأي وسيلة تدرس العلوم الإسلامية؟

نقصد هنا بالوسيلة الواسطة التي يمكن أن تتم بها عملية تدريس العلوم الإسلامية. وهي الأسرة، المدرسة على اختلاف مستوياتها، والمسجد والمؤسسات الإعلامية والجماعات الاجتماعية.

التعليم بواسطة الأسرة: من الوظائف المتعددة التي تناط بالأسرة نحو أفرادها، التعليم الديني المشتق من العلوم الشرعية كتعليم العقيدة وما يتصل بها من تشريعات وعبادات ومعاملات، كما تمكن الفرد من ممارستها لتقوم الممارسات وتعدل السلوكات.

التعليم بواسطة المدرسة: تتولى المدرسة على اختلاف مستوياتها ومراحلها استكمال دور الأسرة وتنوب عنها، في إعداد الفرد، ليكون صالحًا في نفسه، مستمسكًا بدينه وقيمه، محبًا لأسرته ومجتمعه وأمته، مدافعًا عن مصالحهم، يدين لهم بالولاء وحريصًا على الانتماء إليهم، وهذا الدور لا يتم إذا كان محتوى المواد المدرسة خالٍ من العلوم الإسلامية ومنهاجها.

التعليم بواسطة المسجد: كان التعليم بصورة عامة منوطًا بالمسجد في بداية الدولة الإسلامية في عهد رسول الله ﷺ، وما يزال المسجد يؤدي دورًا مهما في عملية التعليم الشرعي، إذ يتولى الأئمة تدريس العلوم الشرعية، ونقل الأطر المرجعية إلى المسلمين، من خلال المواعظ والقدوة العملية 19 ويمكن للمسجد إذا أعطي الوسائل الكفيلة من أئمة أكفاء علميًا، ذوي قدوة حسنة، يتمتعون بالحرية المسؤلة، وسند اجتماعي ومادي، أن يحدثوا تأثيرًا قويًا في المجتمع من خلال تدريسهم وتربيتهم للمجتمع.

التعليم بواسطة وسائل الأعلام: إن وسائل الإعلام مؤسسات اجتماعية أنشأها المجتمع لتقدم خدمة عمومية وهي مسموعة كالإذاعة، ومرئية كالتلفاز، ومقروءة كالمجلات والجرائد وهي تستطيع أن تسهم في تشكيل شخصية الإنسان المسلم وبقوة إذا كانت إسلامية المنهاج والمحتوى، ولو صدقت النيات والعزائم واستعملت في تفقيه وتربية المجتمع، فإنها ستحدث تأثيرًا كبيرًا، لما لها من القدرة على التأثير في الباطل وبالباطل، فكيف إذا كانت الوسيلة صادقة كالعلوم الشرعية، والهدف هو تربية المجتمع، والحفاظ على هويته ومقوماته وقيمه ويمكن أن يكون تدريس هذه العلوم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال البرامج الترفيهية والتثقيفية في إطار المعايير والمرجعية الدينية الإسلامية التي تعمل على تثبيت العقيدة وتدعيم القيم الصالحة وبناء اتجاهات إيجابية نحو الإسلام وتوجه الناس إلى حسن الاقتداء بالنبي ﷺ، وإزالة مظاهر الخلل والاضطراب عند المسلمين.

الجماعات الاجتماعية: والمقصود بها هنا الجمعيات العلمية والثقافية التي يتم إنشاؤها في إطار العمل الجمعوي قصد تقديم خدمة تطوعية للمواطن هو في حاجة إليها، وقد أسهمت جهود بعض الأفراد على مستوى المساجد في التخفيف من الأمية والتعليم الشرعي وقراءة القرآن وحفظه، فكيف لو تجندت هذه التجمعات الرسمية وغير الرسمية على مستوى المساجد والمراكز الثقافية في تعليم العلوم الشرعية وتربية المجتمع؟

 

سادسًا: ثمرات تعليم العلوم الإسلامية

إن ما يعاني منه الفرد المسلم المعاصر هو الانفصام الكبير في ما يدعيه باللسان من الانتماء إلى الإسلام، وممارسات لا تمت بصلة للإسلام، وهي لا تصنف فقط في إطار الآفات الاجتماعية، بل تصل حتى درجة الإجرام في حق نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، ويعتبر الجهل المفضي إلى سوء التربية أحد الأسباب الكبرى في هذه المعاناة، ولو صدقت العزائم والنيات لدى من تولوا مسؤولية هذه الأمة في تعليمها لدينها من خلال العلوم الإسلامية: منهاجًا، ومحتوًى، ووسائلَ، وعُممت على كل الشرائح الاجتماعية، كما يفعل اليوم مع كرة القدم، لحدثت طفرة في المجتمع، يرتقي فيها خلقًا، وعملًا، وإنتاجًا، ورخاءً، وأمنًا، ومحبةً، ولاستغنينا عن كثير من وسائل الضبط الاجتماعي التي تبين أنها في حد ذاتها تحتاج إلى من يضبطها، وفاقد الشيء لا يعطيه، وتجربة النبي ﷺ في مجتمع الجزيرة خير برهان على هذا الادعاء.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم