إن التاريخ من أصعب الميادين التي يمكن أن تصل إلى الحقيقة فيها، لأن كل مؤرخ يكتب من زاوية ومنظار مختلف، ولكل أسلوبه حسب حبه أو حقده للفترة التي يؤرخ لها، والناس أغلبهم لم يشهدوا ما حدث بأنفسهم وإنما يعتمدون على النقل.
وما يواجهه أهل الحق هذه الأيام من فتن وابتلاءات واختلاط للثقافات وانتشار للشبهات، تستلزم منهم أن يوضحوا الحق بجلاء وأن يبينوه بالأدلة الواضحة التي ترفع الشبهات وتظهر الحقيقة، لأن أغلب الناس صاروا لا يعرفون من أين يأخذون ولا إلى أين يسيرون إلا من هدى الله.
وفى كلمة للشيخ عبد الخالق الشريف بعنوان «فتح مصر وتحريرها من الرومان»، ألقاها في ندوة «الإسلام والحرية» التي نظمها موقع «المنتدى الإسلامي العالمي للتربية» بمدينة اسطنبول التركية، يوم الأحد الماضي الموافق 25 فبراير 2018، استعرض خطوات فتح مصر والممهدات لها، ودخول المصريين في الإسلام بعد أن رأوا عدله ورحمته، والحرية التي أشاعها الفاتحين المسلمين في البلاد.
التاريخ ليس فيه حق مطلق
أكد الشريف في دراسته، أن التاريخ من أصعب الميادين التي يمكن أن تصل إلى الحقيقة فيها، لأن كل مؤرخ يكتب من زاوية ومنظار مختلف، ولكل أسلوبه حسب حبه أو حقده للفترة التي يؤرخ لها، والناس أغلبهم لم يشهدوا ما حدث بأنفسهم وإنما يعتمدون على النقل.
يقول الإمام أحمد بن حنبل: «ثلاث لا أصل لها، منها: التاريخ»، ومعنى لا أصل لها، أي لا حقيقة قاطعة في مصدرها وصدقها، ولذلك قال الله تعالى عندما عبّر عما جاء في القرآن من القصص: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ...} (يوسف: 3)، فهذه قصص اتصفت بالحق، لأن الذي أملاها وأخبر بها هو الله سبحانه وتعالى، أما دون ذلك من البشر فيرى زاوية ويتجاهل أخرى، أو يخطأ قراءتها.
إذن، فالتاريخ صعب جدًا، ويتكلم كل إنسان من محتواه القلبي، ولذلك يوجد مثل في مصر يقولون فيه «حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط»، بمعنى أنه يلتمس لك الخطأ في أي ميدان ترتاده.
وذكر أنه في طفولته كان يدرس في المناهج المصرية، وكانوا يتعلمون فيها أن من ضمن عيوب الدولة العثمانية أنها بعد فتحها لمصر أنشأت «الكتاتيب» لتعليم القرآن للأطفال، وهذا أظهر حقد الكاتب على الدولة العثمانية وإنجازاتها.
ملاحظات على مؤرخي فتح مصر
انتقد الشريف، المؤرخين الحاقدين الذين يلصقون بالفتح الإسلامي لمصر أسوأ الأوصاف ويتكلمون بأشنع الشبهات، وقد لجأ هؤلاء إلى تأليف ونشر العديد من الشبهات حول تاريخ الفتح الإسلامي لمصر، لإيجاد هزة فكرية عند القارئ والناظر.
وذكر أن السبب الرئيسي لفتح مصر هو نشر الدعوة الإسلامية بين أهلها، وأن الإسلام مكلف بإنقاذ البشرية من الضلال إلى الهدى، ولذلك حينما جاء حاطب بن أبى بلتعة إلى مقوقس مصر كان بينهما مناظرة، قال فيها المقوقس: «إن كان صاحبكم نبي، فلماذا لا يدعوا عليّ فأهلك مكاني؟»، فردّ عليه حاطب بن أبى بلتعة بقوله: «وهل دعا المسيح عيسى على من خالفوه؟»، فسكت المقوقس ولم يرد، وأراد حاطب من هذا أن يبين له أن هذه سنة الأنبياء، لا يدعون على أقوامهم، وإنما يدعون لهم بالهداية والخير.
ونقل الشريف، ما أشار اليه المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، من أن مصر في هذا الوقت كانت خاضعة للدولة الرومانية خضوعًا كاملًا، وهي جزء منها، إلاّ أن النبي ﷺ لم يكن يعترف بتبعية مصر السياسية والدينية والفكرية للدولة الرومانية، بدليل أنه أرسل رسالة مستقلة للمقوقس حاكم مصر بعيدًا عن رسالته إلى هرقل حاكم الدولة الرومانية، وهذه لمحة سياسية عميقة.
ومِن فِعل الرسول يظهر لنا بيان لحقيقة مصر وشموخها، وقوة ما فيها من عدد وعدة.
بدايات الفتح
وبعد فتح الشام، عرض عمرو بن العاص على الخليفة عمر بن الخطاب أن يحرر مصر من الاحتلال الروماني، وكان الرومان يرون في مصر قاعدة عسكرية لهم، لذا ملأوها بالسلاح والعتاد، وقد هُزم الروم في الشام والعراق وفارس في عام واحد، أما مصر فقد استعصت على المسلمين أربع سنوات.
كان الرومان يخالفون أقباط مصر في المذهب، وكلمة قبطي تعنى مصري، وكل البلاد تسمى باسمها في الإنجليزية إلا مصر تسمى إيجيبت «Egypt»، وهذه لمحة تاريخية لإبقاء نزعة العنصرية في هذا الأمر، ولذلك يحرص الغربيون على هذا، يتمنون فتنة تشتعل دائما داخل هذه البلدة التي ثقلها في المنطقة كلها.
بعد دخول الرومان لمصر أهملوا ممفيس العاصمة المصرية وأنشأوا الإسكندرية عاصمة جديدة لهم، لأنها قريبة من البحر ولا يحول دونها صحراء ولا بلدان ولا مياه النهر، ثم قاموا بتغيير كل اللغات القبطية وأحرقوا مكتبة الاسكندرية قبل دخول عمرو بن العاص بألف عام.
ولذلك اضطر المسيحيون في مصر إلى تهريب كتبهم وأناجيلهم إلى مدينة سوهاج وما بعدها، والغريب أنك إذا ذهبت إلى أي بلد في العالم ستجد الأديرة والكنائس في المدن إلا مصر ستجدها في الصحراء، خوفًا من البطش الروماني.
ومن هنا يتبين أن الاضطهاد الروماني للمصريين كان شديدًا جدًا، والرومان لم يكونوا يولون أي قبطي رئاسة مدينة أو وظيفة حكومية، حتى أن هناك حاكم روماني اسمه «قليانوس» دخل الإسكندرية وحدث بعض الاعتراض عليه فقتل منهم مائتي ألف في أيام معدودة.
نتج عن هذا الظلم والفراغ الذي أحدثه الرومان في مصر أن جعلوا شعب مصر قابلًا ومهيئًا لما سمع من عدل الإسلام في بعض البلدان الأخرى، أن يستقبل الفاتحين ولم يجد جيش المسلمين مقاومة إلا من بعض الحامية الرومانية.
ذكريات طيبة للمصريين عن الفاتحين
وبعد اتخاذ القرار وتحرك الجيوش الإسلامية إلى مصر، كان الجيش الإسلامي محملًا بذكريات طيبة للمصريين، من بينها الهدايا التي أرسلها المقوقس إلى النبي ﷺ ردًّا على رسالته، ومنها أيضًا السيدة مارية القبطية زوجة النبي وأم ولده إبراهيم والمولود الوحيد من غير خديجة، ومنها أن النبي أوصاهم بأن أهل مصر لهم صهر ونسب.
ولذلك أول ما فعل سيدنا عمرو بن العاص بعد فتح مصر أنه أعاد «بنيامين» إلى كرسي المرقسية في مصر الذي عزله منه الرومان، بعد أن كان شاردًا في الجبال، فأعاده عمرو بن العاص وأعطاه الأمان له ولكل من معه.
ويحكى مؤلف قبطي اسمه يعقوب نخلة في كتاب له بعنوان «الأمة القبطية»، أعادت طبعه مؤسسة «مارمرقس لدراسة التاريخ»، عام 2000، وهي تؤكد ما فيه ولم تعلق عليه، يقول: «إن عمرو بن العاص أعاد بينامين إلى كرسييه وأكرم وفادته، وكان يستشيره فيما يخص الأقباط في مصر، واتفقا على إنشاء محاكم خاصة للأقباط فيما هو من شأن دينهم مثل الأحوال الشخصية وغيرها، ولم يجعل للمسلمين عليهم ولاية.
ويثبت يعقوب نخلة، أن شعب مصر فرح جدًا بالفتح الإسلامي لأنه أقام العدل في الضرائب بين جميع أهل مصر، بل إنه ولى الأقباط على كثير من المدن.
هنا نجد العدل والرحمة والمساواة والاحترام؛ لكن ما يشاع عن قصة ضرب ابن عمرو ابن العاص لقبطي واقتصاص الخليفة عمر بن الخاطب له، هذه قصة ليس فيها اتصال، بل وفيها ضعف شديد، ولا يصح الاستدلال بها لنبين رحمة الإسلام، لأنها منقطعة ضعيفة قد يأتي من يهدمها فيهدم ما نقوله، بل يكفينا شهادة هذا المؤلف القبطي وغيره.
وكانت الملايين تُجبى من مصر، وعندما أسلم المصريون، كتب والي الخليفة عمر بن عبد العزيز إليه، أنه يريد أن يفرض الجزية مع الزكاة لأن الناس أسلموا والخراج يقل، فقال له عمر بن عبد العزيز: «إن الله بعث محمد هاديًا لا جابيًا»، وهذا رد على الكثير ممن يقول أن المسلمين فتحوا مصر من أجل مالها وفقط.
.