Business

الخطاب التربوي الإسلامي: المرتكزات والغايات

 

كان الغرب يدرك منذ أمدٍ غير قصيٍر مدى فاعليات الإسلام بوصفه عقيدةً وشرعةً وفكرًا ومنهاجًا، وقابلياته للحياة والتطور؛ لذلك وجدناه حين دخل بلادَ المسلمين غازيًا مستعمرًا لا يشغل إلى جانب استغلاله خيرات الأرض ومواردها الخام إلا بالعمل في دأب وجَلَدٍ على التمكين للغته وفكره وثقافته ونشر ما ينبثق عنها من تصوراتٍ ومُثلٍ وِقِيَمٍ، مستهدفا اجتثاثَ الوجود الإسلامي في عقر داره عقديا وفكريا.

وفى دراسة للأستاذ الدكتور حسن الواركلي، الأستاذ بالجامعة الأسمرية للعلوم الإسلامية في ليبيا، بعنوان: (الخطاب التربوي الإسلامي: المرتكزات والغايات) -2013-، يرى أن إعداد (الإنسان المؤمن، المغير، البَنَّاء) هدفٌ يتسم بالكلية والشمولية، وهما أبرز سمات الإسلام الذي يجب أن يستلهمه الخطاب التربوي الإسلامي.

 

الغرب الاستعماري وفرض مناهجه

بِقَدر ما أدرك الغرب النتائجَ الإيجابية التي يمكنه أن يحصلَ عليها في مشروعه الاستعماري من زعزعةِ عقيدة التوحيد وتدميِرها في نفوس معتنِقِيها من أبناء المسلمين، أدرك بالمثل قيمة المعطيات الباهرة التي يمكنه الظفر بها من جراء تهجين الفكر الإسلامي وإثارة الشك والبلبلة في أصالته ومنهجيته ونتاجه، وإشاعة القيم الصليبية والتلمودية، والإلحادية تحت شعار: (حرية الفكر) و (مسايرة التطور)، وسواءً حين عمل الغرب على توهين عقيدة التوحيد وتطويقها بالبلبلة والريبة، أو حين جعل يسدد ضربات المكر والتشكيك إلى الفكر الإسلامي، فإن هدفه الرئيسي من هذا وذاك إنما كان (تغريب) الحياة بمختلِف مستوياتها وواجهاتها في مستعمراته الإسلامية في إفريقيا وآسيا وأروبا.

وقد اعتمد في تحقيق هذا الهدف وسائلَ متعددةً، كان من أهمها إن لم يكن أهمها على الإطلاق: التعليم بمناهجه ومقرراته، وفي هذا السياق كانت محاربته لجامعات التعليم الإسلامي الكبرى، مثل: القرويين، والزيتونة، والأزهر، باعتبارها على شدة حاجتها يومئذ إلى الإصلاح، حصونًا لثقافة القرآن ولغته.

وفي هذا السياق أيضًا كانت محاربته للمدارس الإسلامية العربية التي أسسها زعماء المسلمين لما تنهض به من دور بالغ الأهمية في توعية النشء بعقيدته ولغته وتاريخه.

أما المدارس التي أنشأها أو شجع على إنشائها ليتعلم فيها أبناؤه وأبناء مستعمراته فِكره وثقافته ولغته فقد أرسى أسسها على كراهية الإسلام ومعاداة القرآن، فتسنى له بذلك إعداد جيل من أبناء المسلمين يفكر بفكره و (يلغو) بلغته، وينظر بنظره.

وبعض أفراد هذا الجيل في مشرق البلاد الإسلامية ومغربها هم الذين تولوا بعد انحسار المد الاستعماري العسكري عن هذا البلاد حماية (مكتسباته) الأيديولوجية والثقافية واللغوية، والعمل على الاستزادة منها، وتوسيع رقعتها وتعميق قنواتها في مجالات التعليم والثقافة والإعلام تحت دعاوي (التطور) و (العصرية) و (التحديث)، وهذا ما عبر عنه صمويل زويمر (1952م) حين قال يخاطب إخوانه من القسس (المبشرِينَ):

«لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة، التي يمن عليها الدول الأوربية والأمريكية. إنكم أعددتم خَلقًا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية».

ومن ثم جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده له الاستعمار المسيحي، لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيءٍ.

وليس ما تضمنَته هذه الشهادة هو كل ما كرسَته المناهج التعليمية الغربية من سلبياتٍ وإحباطاتٍ في حياة المسلمين، فإن ثمة جوانبَ أخرى مما تعانيه الأمة الإسلامية من انتكاسات تمس عقيدتها وفكرها وسلوكها بسبب اعتمادها مناهجَ الغرب، صليبية وعلمانية في التربية والتعليم مما لم تتضمنه ولم تصرح به تصريحًا شهادة (زويمر).

وللتمثيل على ذلك دون القصد إلى الحصر، نشير إلى مبدإ (الفصل بين الدين والدولة) وهو مبدأ نستطيع أن نلمح جانبه التطبيقي في هذه المناهج التعليمية الوافدة على الفصل بين نمطين من التعليم: أحدهما مدني (عصري) وثانيهما: ديني (تقليدي) مثلما هو الشأن في الغرب. حيث تقوم الحواجز بين تعليمين هما (التعليم الكَنسِي) و (التعليم المدني) لتقوم بالنتيجة بَعد ذلك بين سلطتين، هما: السلطة الإكليسيتيكية، والسلطة السياسية.

ومع أن المقاصد من فرض هذا المنهج الذي يفصِل بين التعليمين في البلاد الإسلامية كانت كثيرة، إلا أن أهمها كان هو حصرُ الإسلام، وهو الدين عند الله تعالى، فيتم التفرقة بين ما هو ديني وما هو دنيوي في دائرة طقوسٍ بلا فاعليةٍ آنيةٍ، ولا حضورٍ إيجابي يحسم الإشكاليات، ويُملي المواقف، ويحدد المسؤوليات.

وعلى مثل هذا النحو أسهمَت تلك المناهج في إقصاء الإسلام عن مواقع الإعداد والتوجيه والمبادرة والبث، مما مكن للجاهلية المعاصرة بشتى أشكالها وألوانها أن تجهِزَ على مجتمعات المسلمين، تَنخرها وتفرغ عقديتها وأخلاقياتها من عناصر القوة والمضاء والثبات، وتسخر أعين الناس بما ترفعه من شعاراتٍ زائفةٍ، ودعاوى مشبوهةٍ، وإذا بطوائفَ منهم تتبدل الكفرَ بالإيمان، وتعلن على رؤوس الأشهاد عقوقها لتاريخ أمتها وتراثها.

إن المعطيات السلبية التي أفرزتها المناهج التعليمية الغربية المعتمدة في البلاد الإسلامية، وضعت أمتنا بإزاء تحدياتٍ شرسةٍ تسندها قوى الصليبية والصهيونية والفكر العلماني، تستهدف طمس تراثها الإسلامي، وعزلَ أبنائها عن ماضيهم، وَنَسفَ الفتوحات الفكرية والإنجازات الحضارية التي حققها السلف تحت راية الإسلام وفي ظل لغة القرآن.

 

تحديات التربية الاسلامية

وإن مثل هذه المعطيات لجديرة بأن تحملنا، ونحن بصدد البحث عن هويتنا الحضارية، على الدعوة إلى وجوب إحداث تغيراتٍ جذريةٍ وجوهريةٍ في مناهج التعليم ومقرراته في بلادنا الإسلامية بما يجعلها تستجيب لحاجياتنا، وتلبي تطلعاتنا في التغيير والبناء.

إذا كانت الأمم، حين تعتزم الانعتاقَ من واقعها المخذول وتنشد الانبعاث، ملزمةً باستيضاح أسباب الارتكاس، واستبصار شروط النهوض، فإن أول ما ينبغي لها الاهتمام به يتمثل في مراجعة ما تعتمد من خطاب تربوي تدرج الأجيال في ظل تعاليمه ومثله، وتنشأ وهو خطابٌ تتظافر عناصر مختلفة على منحه قوًةً في الفاعلية، ومضاءً في التأثير، فالمناهج التي تستوحي هذا الخطاب والمقررات التي تبلوره، والكتب التي تكرسه، والأساتذة الذين يتكفلون بشرحه وتفسيره، عناصر تسهم بنسبٍ متفاوتةٍ في تشكيل ثقافة الأفراد والجماعات، أي: في تشكيل العقيدة، والفكر، والمنطق، والتوجه، والموقف لدى هؤلاء وأولئك، فإذا صلحت مضامين الخطاب وصلحت عناصره، أو قل: نجحَت في تبليغه صلح الأفراد، وصلحت الجماعات، وتيسرت عملية التغيير والبناء، أما إذا فسد الخطاب أو فسدت عناصر تبليغه أو فسدا معًا فلا أمل عندئذٍ في تغييرٍ ولا في بناءٍ.

ويرتبط الخطاب التربوي سواء من حيث منطلقاته أو غاياته ببنيات المجتمع العقدية، والعقلية، والشعورية، ومن هنا تباينت مضامين هذا الخطاب وأهدافه تبعا لتباين معتقدات الأمم وأخلاقياتها؛ فالخطاب التربوي الشيوعي مثلًا يجعل (التربية الشيوعية) مرجعَه الرئيسَ الذي يستمد منه تعاليمَه ومبادئه قبل أن يبثها عبر مختلف المواد الدراسية في عقول المتلقين من التلامذة والطلاب ونفوسهم، ويعمقَ الوعيَ بها لديهم حتى تغدوَ وقد نزَلَت من فكرهم ووجدانهم منزلةَ (القناعات) التي لا تعدل بسواها، ومثل الخطاب التربوي الشيوعي في ذلك الخطاب التربوي الليبرالي فإنه يجعل من (التربية الليبرالية) فيما يضع من مناهج، ويعتمد من مقرراتٍ، ويصنف من كتبٍ، يجعل مرتكزَه الأول يفيد من مقولاته وأطروحاته في (الدين) والحكم والاجتماع قبل أن يتوجه بها إلى متلقيه عبر القنوات التعليمية من منهج ومقرر وكتابٍ؛ لِيَضمنَ بذلك تنشئةَ الأجيال على (قناعات) لا تعدل بسواها.

ومعنى هذا وذاك أن العلوم والمعارفَ على اختلاف طبيعتها تدرس سواء في العالم الشيوعي أو في العالم الليبرالي مقرونةً بمبادئها ومقاصدها؛ ذلك أنها- أي العلوم والمعارف- لا يمكن استيرادها وزرعها في وسط يختلف كليةً عن وسطها الأصلي وقد أدرك العلماء ورجال التربية والتعليم الشيوعيون هذه الحقيقة فـ (رفضوا كل العلوم الغربية واستعبدوها بوصفها علومًا بورجوازية وشعروا بالحاجة إلى بناء كافة العلوم في ضوء المفاهيم الماركسية اللينينية. وفي خلال نصف القرن الماضي قاموا بتغيير وتنسيق كل العلوم الاجتماعية والطبيعية والإنسانية وغيرها، وطوروها بحيث تتمشى مع المفهوم الشيوعي.

ومعنى هذا وذاك أيضًا؛ أننا في البلاد الإسلامية حين نعتمد المناهجَ الشيوعية أو الليبيرالية في تدريس مختلِف العلوم لأبنائنا، فإننا من حيث نريد أو لا نريد نتبنى خطابا تربويا له خصوصياته الأيديولوجية التي تناقض تصورنا بوصفنا مسلمين عن الدين والكون والعلم والإنسان والتاريخ، وهلم جرا.

ومعنى ذلك كله في درجة أخيرة؛ أننا إذا كنا ننشد تغييرَ واقعٍ أمتنا، وبناءِ مستقبلنا فقد وجب أن نصفي خطابنا التربوي مما شابه من فكر الماديين والعلمانيين ونصبغه بصبغة إسلامية في محتواها ومقصدها.

 

التمايز بين (الخطاب التربوي الإسلامي) و (التربية الإسلامية)

وقبل أن نعرض لمرتكزات الخطاب التربوي الإسلامي وأهدافه نحب أن نشير في هذه الفقرة إلى ما بين مفهومي (الخطاب التربوي الإسلامي) و (التربية الإسلامية) من تمايزٍ وتباينٍ؛ فهذه الأخيرة لا تعدو أن تكون مادة دراسية تلقَى في نطاقها دروس تتصل موضوعاتها أحيانا بقضايا العقيدة والتوحيد والأخلاق، وتتصل أحيانا أخرى بمسائل الفقه والأصول والأحكام، مزودةً بذلك التلامذة والطلبة- ولا سيما في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي- بحظوظ من المعرفة. هذه الموضوعات الدينية تجعلهم على بينة ببعض أصول الإسلام وحقائقه، وتحثهم من نحو آخر على التحلي بفضائله وأخلاقه، أما (الخطاب التربوي الإسلامي) فهو رؤية تستمد مكوناتها من ثقافة القرآن والسنة، وتتميز بخصيصتين ذواتي خطرٍ وشأنٍ هما الشمولية والواقعية؛ أما الشمولية فلأنها تستوعب جوانب الشخصية الإنسانية كلها روحيةً وماديةً وعقليةً ووجدانية، وأما الواقعية فلأنها تحتكم إلى العمل ومعطياته وآثاره وتقيس نجاح الشخصية أو فشلها من خلاله.

والخطاب التربوي هذا مفهوم يتسع ويهيمن ويوجه بعينه مجموع المواد التعليمية والمقررات الدراسية أيا كانت طبيعتها، فيجعلها في اتساق وتجاوب مع قيم الإسلام ومُثله.

 

مرتكزات الخطاب التربوي الإسلامي وأهدافه

ويرتكز هذا الخطاب:

 أ- عقديًّا؛ على التوحيد، وهو علم وعمل بينه الله في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد: 19)، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (الجن:20).

إن عقيدة الإسلام عقيدةٌ بانيةٌ هاديةٌ، رفعت وترفع عن المأسورين الأهواء والشهوات ودعوات الباطل وإصرهم والأغلالَ التي عليهم، ومنحتهم وتمنحهم الأمن والطمأنينة والحرية، يستشعرون من خلالها جميعًا وجوَدَهم الحق ومسؤوليتهم في الخلافة وعمارة الكون.

ب- ثقافيا؛ على ثقافة الوحي، قرآنًا وسنةً، وهي ثقافة حركية تربط العقيدة التي تصدر عنها بين العلم والعمل، روى أبو عبد الرحمن السلمي قال: «حدثنا الذين كانوا يقرأون القرآن كعثمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي- صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها؛ حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا»، وفي الأثر الذي رواه الدرامي في سننه: «تعلموا تعلموا، فإذا عَلِمتم فاعمَلوا».

ومثل هذه الثقافة التي تتوسل بالنظر والممارسة في اكتشاف حقائق العلوم والمعارف جديرة بأن تُملّك أصحاب اليوم كما- ملكتهم في الماضي- الفعلَ الحضاري المتجدد والمبدع، يغدون به إمكانا معرفيا وخلقيا بذات الوقت متميزًا في المنطلق والغاية عن سواها من الإمكانات المعرفية، شرقيةً كانت أو غربيةً.

ج- ويرتكز هذا الخطاب أيضًا خلقيا على أخلاقيات الاختيار الإرادي الذي لا يكره به الإنسان على خير ولا شر، ولا يلزم باستقامة أو انحرافٍ، يقول تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 7-10).

ومن خلال هذه الأخلاقيات يتكشف عِظم الأمانة التي حملها الإنسان حين أبى غيره من المخلوقات حملها: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72).

والنهوض بهذه الأمانة بما تعنيه من إقرار لحاكمية الله في الأرض حتى يكون الدين كله لله، وتأديته على الوجه الذي تتحقق به خلافة الإنسان في الأرض، يعتبر مسؤوليةً جسيمةً لا يَقوى على تأديتها إلا عباد الرحمن الذين يلتزمون بالمضمون الخلقي لكلمة التوحيد، فتلتحم لديهم القِيَم المجردة بالأفعال المحددة مما يتمخض عنه دحر الباطل والتمكين للحق.

د- ويرتكز أيضًا، سلوكيا على استلهام المقاصد الكبرى للإسلام، وهي التي تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن رسالته رسالة تغيير، واستشراف، وبناء. ولأجل كذلك فقد جاءت منظومات المثل والقيم في هذا الدين لتتمحور، بالأساس، على الإنسان، ذاتا وموضوعا، بوصفه (الخليفة) الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى بالعقل، ودعاه في وحيه المنزل إلى ممارسة الحياة، وتعمير الأرض، وتسخير الكون.

ومن هنا ندرك السر فيما ألحت عليه مقولات هذا الدين وتعاليمه من شحذ للطاقات الفكرية والنفسية، وتفجير للمواهب العقلية والوجدانية في الإنسان؛ تبذر بذلك في سويداء قلبه الرغبة التي لا تكل ولا تفتر في الحركة الهادية، والسعي الملتزم إلى إخضاع ما تحفل به الحياة، فردية وجماعية، من ارتباطات وأحداث، لمنطق الكون المتوافق المنسجم.

ومن الجلي الواضح في هذه المرتكزات الأربعة: العقدية، والثقافية، والخلقية والسلوكية، أمران اثنان يدلان على الأهميةٍ البالغةٍ لهذه المرتكزات:

1- طبيعة المصدرية المعرفية في الخطاب التربوي الإسلامي، وهي عندنا قرآنية المضمون والتوجه، تعتمد الوحيَ والعقل، وتلحم بين النظر والممارسة مما يجعلها تنتج معرفة نقديةً فاعلةً، تضوي الوجدان، وتخصب الفكرَ، ومن هنا وسِعَت هذه المصدرية المعرفية قضايا الإنسان، والمجتمعِ، والعصرِ، فضلًا عن إشكاليات الكون، والوجود، والمصير.

2- طبيعة المنهجية الحركية التي يحددها هذا الخطاب لمتلقيه، وهي كما يعرضها علينا المرتكزان الخلقي والسلوكي، ترجمةٌ عمليةٌ لتلك المعرفة، وقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ترجمة حية متحركة للمعرفة القرآنية، وهي معرفة تصهر كل النوازع والتطلعات في وحدة عقدية تتحدد بها طبيعة السعي والإنتاج والبناء، سبيلا وغاية؛ أما السبيل فهي سبيل السلام، وأما الغاية فهي إسعاد البشرية في الحال والمآل.

إن هذه المرتكزاتِ التي يقوم عليها الخطاب التربوي الإسلامي، سواءً ما تَعلق منها بمصدرية المعرفة أو ما تعلق بمنهجية الحركة، ينبغي أن يهيمن بمثلها وقيمها ومبادئها وتعاليمها على مقررات الدرس ومواده في مختلف مراحل التعليم بالبلاد الإسلامية.

ففي دراسة التاريخ يتوجب اعتماد المنظور الإسلامي الذي نرى التاريخ من خلاله ثمرة الصراع بين الاستواء والإكباب، وبين الحق والباطل، وبذلك يمكننا أن نزود أجيالنا، في مقعد الدرس، بمنظور علمي، موضوعي، يستكشفون بها الطيب والخبيث فيما يعرض عليهم من وقائع التاريخ وأحداثه، وسير أعلامه وشخصياته، ولا خوف على أبنائنا، بعد ذلك، إذا عكفوا على التاريخ ينشرون صحفه ويدرسونها، فإنهم بفضل ذلك المنظور لن يستخلصوا من هذا الدرس إلا ما يعمق في نفوسهم الوعيَ بمثل الدين وِقِيَمِه في العَدل، والمساواة، والإخاء، والتضامن.

وكذلك يتوجب في دراسة الآداب، تجاوبا مع روح الخطاب المهيمن، التصدي أولًا، لما يذاع وينشر من أدب الجنس، والدعارة والغثيان والسآمة والقلق والضياع، ثم الكشف عن سلبياته المتمثلة في مضامين العربدة والعبث والعنف والسادية والتحلل، وما تفرخه في نفوس قرائها من عقدٍ ومركباتٍ تثبطها العزائم وتكسح الطاقات.

ثم يشفَع هذا بتقديم البديل الإسلامي الذي نتمثله في النص الأدبي الذي يبلوِر آياتِ الله تعالى في الأنفس والآفاق، ويكرس من القِيم والمبادئ الإيمانية ما تَبرأ به أجيالنا من القهر والاستغلال، ومن الاستلاب والانحراف، وبوحيٍ من روح الخطاب التربوي الإسلامي، كما تتبدى في مرتكزاته سالفة الذكر، ينبغي أن تدرَسَ بقية المواد التعليمية، بما في ذلك المواد العلمية، كالفيزياء، والكيمياء، والأحياء؛ فإن هذه العلوم، كما في المناهج العَلمانيةِ (عندما تصف مظاهرَ هذا الكونِ، وَتَكشف نواميسَه، وتنظر إليه نظرًةً مجردةً، تحدث فَجوًةً كبيرًةً في ذِهن المتعلم بتأكيد سلطان العلم والمادة ونسيانِ الله)، وهذا ينافي التصوَرَ الإسلامي الذي يمثل من خلال قناعتِه العقدية في هذه العلوم كلها يدل على الخالق البارئ المصور، وبذلك يعمق الإيمانَ، ويدفع هذا بصاحبه إلى العمل الدؤوب الذي هو أسلوبٌ من أساليب العبادة.

 

أهداف الخطاب التربوي الإسلامي

إن رسالة الإسلام، بوصفه عقيدةً وشِرعةً، رسالة تغييٍر وبناءٍ، ولأنها كذلك لم يكن هذا الدين طقوسا تأملية، ولا رهبانية استغراقية، ولا انعزالية هاربة؛ بل عبادةً يتم عبر أوامرها ونواهيها استئصال الشر واستنبات الخير في حياة الناس خاصة وعامة، ومن هذا المفهوم العميق للعبادة اكتسَب هذا الدين فعاليَتَه وحركيته وأخلاقيته، ونزل إلى ميدان المعركة، لا يشغل إلا هدف واحد، تتحقق الأهداف جميعها بتحققه، وهو إقصاء حكم الجاهلية لتستلم الأيدي المتوضئة زمامَ الأمر في كِيانٍ يحكمه الإسلام، وينظم شؤوَنَه الإسلام، ويحدد علاقاتِه الإسلام، فلا أنانيةَ، ولا تسلطَ، ولا اغتصابَ ولا استغلال، ولا موسع في إفحاش، ولا مضار في معاش، بل هي شورى، ومساواةٌ، وعدلٌ.

من هنا ندرك أن الخطاب التربوي الإسلامي ليس يهدف، كأي خطاب تربوي آخر، إلى (إعداد المواطن الصالح) أو (إعداد الإنسان للحياة) أو ما أشبه هذا وذاك؛ بل إنه يتجاوز مثل هذه الأهداف المحدودة الأفقِ والتي تعكس، كما هو شأن الهدف الأول، ضيق المفهوم العلماني للوطن، أو يبلور، كما هو الشأن في الهدف الثاني، ماديةَ النظرِةِ التي لا تؤمن بحياةٍ بعد حياتنا هذه.

نقول: إن الخطاب التربوي الإسلامي يتجاوز مثل هذه الأهداف القريبة المنال إلى ما هو أغنى مضموًنًا وأبعد أثرًا، وهو (إعداد الإنسان المؤِمِن المغير البناء) تمشيًا مع طبيعة عبادةِ التوحيد التي تتحقق، كما ألمحنا من قبل، عبرَ أوامر الشرع ونواهيه، باستئصال الشر واستنبات الخير في النفس الإنسانية.

ويتجلى لنا غناء المضمون في هدف الخطاب الإسلامي وبعد أثره من موازنته يغيره من أهدافٍ (الخطابات) التربوية الأخرى من مثل الهدفين سالفي الذكر. فالأول، وهو (إعداد المواطن الصالح) يربط أثر التربية بما يكون للفرد، بفضلها، من معطيات إيجابية على وطنه الذي هو، حسب الاصطلاح العلماني، الرقعة من الأرض يمنحها للمقيمين بها، على ما قد يكون بينهم من اختلاف في الدين، وولاءهم وحبهم.

والهدف الثاني، وهو (إعداد الإنسان للحياة) يربط مهمةَ التربية بما تمنح الفرد من قدراتٍ، وتستثمر فيه من مواهبَ، لخوض غمار الحياة الدنيا بعقلية الربح والاستهلاك ومنطق (الغايات تبرر الوسائل).

وبالنظر إلى هدف الخطاب التربوي الإسلامي آنفِ الذِكر يمكننا أن نلاحظَ أنه يستوعب الهدفين السابقين ولكن على شرطه، أي أنه، وهو يعنى بإعداد الإنسان المؤمن المغير البناء، يعد بذات الوقت المواطن الصالح، أي: ذلك الفرد الذي يعتبر الوطن دار الإسلام، أي كل أرض، حيثما كان موقعها، وأيا كان جنس أهلها ولسانهم، يطبق فيها الإسلام شرعة ومنهاجا.

وبفضل هذا المفهوم العقدي للوطن نجد المسلم المؤمن (يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة وهي علاقة المعتقد).

ومن شأن الالتفاف حول هذه العلاقة أن ينمي الشعور بالإخاء والتضامن والتآزر والتعاون على البر والتقوى، وفي ذلك صلاح الفرد والجماعة والأمة. كذلك فإن الخطاب التربوي الإسلامي حين يعد الإنسان المؤمن المغير البناء، فإنما يعده للسعي والعمل في الحياة الدنيا بما يوفر له ولمجتمعه ولأمته؛ بل وللإنسانية جمعاء من الأمن، والطمأنينة والسعادة، ثم لا يقف به عند هذا الحد المادي الملموس من الحياة مثلما هو صنيع الخطاب التربوي العلماني. بل إنه يمضي به إلى مستوى آخر للحياة بعد الموت، والبعث، والنشور، توضع فيها موازين السعي والعمل: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( (الزلزلة: 7-8)، ]وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ} (النجم: 39-40).

 

خاتمة الدراسة

إن إعداد (الإنسان المؤمن، المغير، البناء) هدفٌ يتسم بالكلية والشمولية، وهما أبرز سمات الإسلام الذي يستلهمه الخطاب التربوي الإسلامي.

فالإيمان، ومجتلاه العبادة، هو حجر الأساس في بناء شخصية الإنسان المسلم ومحك الإيمان، في التصور الإسلامي العمل، بما يعنيه من إنتاج وإبداع صالحين، ولذلك اقترن ذكرهما في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة حتى بات من المعروف عند المسلم أن مخ العبادة العمل.

وإذا كان العمل يبلوَر مثل الإيمان؛ فإن أهم المجالات التي يَعُد الخطابُ التربوي الإسلامي الإنسانَ المؤمن للتحرك فيها مجالان اثنان:

أولهما: مجال التغيير، وثانيهما: مجال البناء، وذلك نهوضًا بواجبات الاختلاف والأمانة اللذين يتحملهما الإنسان عن ربه تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72).

والتغيير والبناء متلازمان، ولا نستطيع أن نتصور أحدَهما بمعزٍلٍ عن الآخر، فإن تغيير ما بالذات، فردية وجماعية، من تداعٍ، وانهيارٍ، وخذلانٍ، يستلزم بناءً جديدًا للذات، فرديةً وجماعيةً، وَفقَ تعاليم الوحي وتوجيهاته بما تقتضيه من قَرن العلم بالعمل، مما ينتج عنه انبعاث الأمةِ الإسلامية الحضاري الذي يسترد فيه المسلمون الوعيَ، وهويتهم الحضارية، وموقعهم في ريادة البشرية وقيادتها، على الطريق المنور بمشكاة الإيمان، والذي ليله كنهاره، نحو غاياتا في تحقيق العدل والإخاء، والسلام، مصداقا لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...} (آل عمران: 110).

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم