Business

حنان عطية تكتب: التربية البيئية للطفل بعيدًا عن القوالب الجامدة

 

 

إن ألف باء تربية في الإسلام تجعل رسم وتحديد علاقة الإنسان بالبيئة أولويه تربوية مثل علاقته بكل شيء حوله؛ ولم لا وقد كانت البيئة والأرض نقطة حوار مركزية في قضية استخلاف الإنسان في الأرض منذ بدء الخليقة؛ إذ جعل الله علاقة الإنسان بالبيئة علاقة استخلاف وحب ووصال، ففي بداية الحياة قال الله تعالى لآدم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، إنها الأرض الجميلة اليانعة، التي خافت على جمالها وبهائها الملائكة؛ فردت في أدب جمٍّ على الله قائلة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، فالملائكة أحبت الأرض بما عليها من طبيعة جميلة ونضرة خلقها الله وخافت أن يفسدها الإنسان بجهله، وبسرعة أودع الله العلم في وعي آدم عليه السلام ليورثه لأبنائه وكأن هذا العلم هو الذي سيحمى البيئة البكر من الإفساد الناجم عن الجهل، فعلّم آدم الأسماء كلها.. لقد أودع العلم الممزوج بالعاطفة في نفس آدم عليه السلام وذريته من بعده، فكان العلم صمام المحافظة على الأرض والبيئة، وكان الجهل هو باب الإفساد والإضرار بالأرض والبيئة والإنسان. وبالفعل فإن الجهل هو من أفسد البيئة، ونشر الظلم وسفك الدماء، وهدد الحياة كلها على الأرض، ومن ثم كانت التربية البيئية التي تشمل المحافظة على الأرض والنفس ضرورة شرعية.

إن اهتمام أهل البيت وتوجهاتهم تنعكس على الأطفال وتشكل سلوكهم، فحينما يكون البيت على علاقة جيدة بالبيئة من حيث معرفة حقوقها والعمل على المحافظة عليها وتربيتهم على أن إصلاح البيئة جزء من دورهم الحياتي والديني على الأرض، لأن الله جعل الأرض بمن عليها أمانة في أيدينا؛ لذا علينا أن نوضح لهم كيف أن الطبيعة كلما كانت طيبة وجميلة يكون لذلك انعكاساته الطيبة على صحتهم ونفسيتهم وتفكيرهم، والعكس صحيح؛ فإذا فسدت البيئة فإنها تصبح خطرًا عليهم وعلى كل من على الأرض جميعا.

إن اصطحابنا أطفالنَا للزراعة في الحديقة أو الشرفة ورؤيتهم لكيفية عناية الأسرة بذلك واهتمامها يخلق لدية الشعور بأهمية البيئة وضرورة الحفاظ عليها. وتصبح تلك الصورة العملية سلوكًا يُتوارث إذا تم بحب وكان فيه إمتاع، وهذا يعني أن الوالدين قادرين على تشكيل اتجاه الحس والتذوق عند الأطفال وخلق الاعتياد على سلوك معين من خلال التكرار والتنوع والتشويق والتجميل؛ فمثلًا إذا دهس الطفل نبتةً في حديقة المنزل أو في الحديقة العامة، فإن إظهار العائلة تألمها لذلك العمل يجعله يشعر بخطأ ذلك، ويمكننا المبالغة في التصوير معه في قولنا: «استمع جيدا، إن الشجرة تتألم هل تسمع صوت بكائها!».

يمكننا صناعة حواديت تكون بطلتها شجرة كانت تظل الناس حين يشتد الحر، وتطلق الأكسجين للناس كي يتنفسون، ثم جاء رجل طماع فقطعها، ثم بعد فترة كان هذا الرجل يطارده بعض الناس وأنهكه الحر فجرى إلى مكان الشجرة كي يستظل تحتها، وكان قد نسي أنه قطعها، فلما وصل لم يجدها ليستظل بها، ولم يجد ظلًّا، وأُغمى عليه وظل ملقيًا في الحر دون ظلٍّ فترة طويلة، وتعب كثيرًا لأنه لم يجد الشجرة ولم يجد الظلّ.

علينا تنمية معلوماتهم وصناعة التجارب الزراعية البسيطة فيمكننا في البيت خوض تجربة زراعة بعض الحبوب للأطفال؛ من أرز أو قمح أو ذرة أو كراوية أو حلبة؛ فكلها تنبت نباتات جميلة يانعة الخضار، أيضا هناك بعض الخضر التي يمكننا الاستفادة من جذورها أو سيقانها وإعادة زراعتها مثل سيقان النعناع وجذوره، حيث يمكن استنبات جذور لها في كوب فيه ماء لعدة أيام، وعند إنبات الجذور الصغيرة يمكننا مساعدة الطفل في نقلها إلى أصيص به تربة، ومرافقته يوميًا لمراقبة النبات الجديد وهو يكبر ويورق يومًا بعد يوم، كما يمكننا عمل ركن لكل طفل في الحديقة أو الشُّرفة كي يضع فيه نبتاته ولوحاته الزراعية ومقتنياته، ويمكننا تسميته «المتحف الزراعي أو البيئي خاصة فلان»، ونسميه بأسمائهم، هناك أيضا قشور البطاطس يمكن وضعها في أصيص به تربة وَرَيِّها باستمرار، وسيلاحَظ أنها تُنبت نبات بطاطس جديد، وعند حصاد النبات سيكون الطفل سعيدًا بمنتجه الجديد من البطاطس، كذلك يمكننا إعادة إنبات جذور الكرنب والخس، فحتمًا سيستفيد الطفل ويسعد بتمضية أوقات فراغه بأعمال ممتعة ومفيدة، كما يتعلم التربية البيئية تطبيقيًّا، وستكون علاقته بالبيئة كما علاقة الفنان بلوحته، إنها التربية بالاستمتاع التي سوف تغنيه عن قراءة الدروس والكتب المكتوبة في العناية بالبيئة.

ونحن صغار كنا نمارس تربية دودة القز، وهي تجربة جميلة تجعل علاقتنا بالبيئة رائعة؛ كنا نذهب للبحث عن أشجار التوت ونستأذن أصحابها في قطف الأوراق اللازمة لطعام الدود، وكنا نراقب الدود في العلب في انتظار رؤية الحرير، كانت تجربة ممتعة في تنمية علاقتنا بالبيئة، الشجرة والدودة والحرير ونحن؛ وهكذا عندما نعتني بالبيئة حيوانًا أو نباتًا أو هواءً أو أرضًا أو مياهً.. نصبح أكثر سعادة مقارنة بأي نشاط حياتي آخر، خاصة إذا كنا أطفالًا، حتى النوم لا يحبه الأطفال لأنه يحد من نشاطهم الحياتي وانطلاقهم ولعبهم وتحليقهم في الخيال.

إن التربية البيئية إذا قُدِّمت للطفل بالطريقة الصحيحة وبالفهم الصحيح مغلفة بالمتعة والحركة والحيوية والخيال تصبح عملية ممتعة تنسجم مع نفس الطفل وطبيعته التي تختلف كثيرًا عن الناضجين، إذ أننا نتعامل مع البيئة من منطق الواجب والضرورة وعلاقة المصلحة، بينما الطفل يتعامل معها بعاطفته وخياله، ويندمج بها فتصبح مشكلًا لشخصيته وجزءًا من نسيج نفسه.

إن أهمية التربية البيئية في الطفولة أفضل بمئات المرات من خضوع الناضجين لسيلٍ من المعلومات حول أهمية الحفاظ على البيئة وخطورة حدوث السلوك العكسي حَيَالَها، وذلك لأن الطفل الذى ينمو في جوٍّ تربوي يدمجه مع البيئة فيجعلها جزءًا من نفسه ومن خياله ومتعته، وتتشكل علاقته مع البيئة تشكُّلًا مختلفًا عن علاقتنا نحن الكبار؛ إذ تكون علاقته مع البيئة علاقة فطرية لا تشوبها مصلحة، ومن هنا يمكننا صناعة جيلٍ جديدٍ ذو علاقة مختلفة مع البيئة؛ علاقةٍ تقوم على مفهوم التوأمة بين الإنسان والأرض ومن عليها، ولِمَ لا وهو ما خُلق إلا للاستخلاف والاستئمان على الأرض وما عليها استخلافًا يقوم على الرشد والعدل والخير.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم