Business

حنان عطية تكتب: الثورة والتربية.. من يصنع الآخر؟!

 

نتساءل أحيانا ويشغلنا السؤال.. هل الثورة تربي وتلقى ظلالها على التربية وتشكل سلوكيات الصغار والكبار؟ أم أن التربية المتراكمة تصنع الثورة بقيمها ومحدداتها؟

وفى الحقيقة، فإن كلا المتغيرين الثورة والتربية يصنع كل منهما الآخر، أو على الأقل يلقى بظلاله على الآخر، فالإسلام كان ثورة صنعتها السماء وتبنتها قلوب المؤمنين وأجسادهم فراحوا يصبغون الدنيا بمبادئ الإسلام وقيمه، ويعبرون به المساحات الشاسعات والبحار والمحيطات، هنا كانت الثورة صانعة التربية وليس العكس.

في الثورات الأخرى التي تحمل أفكارا بشرية خلقتها حاجات وأطلقتها محفزات كانت تتناثر من أسنة الأقلام وصفحات الكتب وأفواه الخطباء.. وظلت المحفزات نارا تحت الرماد تؤثر تأثيرا خفيفا بحيث لا يبدو للناظر أنها قد تشكل تغييرا، ثم إذا أتت اللحظة الحاسمة تبدت الثورة المتشكلة من تلك المحفزات السابقة وقامت لتُحدث هي الأخرى تغييرات ثورية ملحة على تفكير وسلوك وتطلعات أفراد المجتمع بكافة شرائحهم.

إن للثورة أدواتها التربوية التي تغير بها المجتمعات بحيث تجعل كل المكان بمحتوياته البشرية والفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، يعبر عنها ويعيش مبادئها ويرنو متطلعا إلى مستهدفاتها ويصبح جنديًّا أو ترسا في عملية قولبة المجتمع على المبادئ الثورية، فيصبح المقال والخبر في الصحيفة، ويغدو المنهج والمعلم، ويمسى الكاتب والكتاب، والفيلم والسيناريست، والسينما والمسرح مروجون بشكل مباشر أو غير مباشر لأفكارها ومبادئها في جهد تراكمي من شأنه أن يغير ويربى البشر والحجر.

وإن ثورة بلا منهج تربوي ومستهدفات وخطط تربوية تغيرية على كافة الأصعدة وبمختلف الوسائل، هي ثورة مقطوعة في مهب الريح يسهل اقتلاعها والإطاحة بها من القُوى المناوئة لها غير الراضية عنها.

أحيانا تعتمد الثورات منهج القوة غير الرحيمة في أطر الناس وكافة قوى المجتمع وشرائحه على اعتناق مبادئها، بل والعمل كخادوم في تعميق جذورها ومد نفوذها وسقي النفوس والأرض بمبادئها، وهذا النوع يُسمى بالتربية العنيفة، وهذا كان شأن كثير من الثورات السياسية والبشرية على مر العصور.

أحيانا يتساءل البعض لماذا لم تنجح ثورات الربيع العربي في تربية شعوبها على مبادئها إلى الدرجة التي يصيرون فيها جندا من جنودها يدافعون عنها ويموتون دونها.

في الحقيقة، إن تلك الثورات كانت ثورات تم استعجال ظهورها قبل أن حدوث التوطئة الكافية للمجتمعات بحيث تصير ظهيرا لها يقوي ساعدها ويحمى ظهرها ويمكنها من الخروج المريح الواثق إلى الحياة، مما يسمح لها بتملك أدوات التغيير والتربية بالشكل الكافي الذي يجعل منها حقا ثورة تغييرية ذات قوة ونفوذ، حتى لو كان هذا النفوذ شعبي ومجتمعي.

إن ثورة بلا كوادر فنية وإعلامية وأدبية، وبلا وسائل تواصل جماهيرية، وبلا رموز ذات تأثير على المجتمع، تفتقد أحد أهم وسائل ومقومات التغيير، فقد تمتلك الثورة مبادئ جميلة ولكنها تفتقر إلى وسائل التأثير في الناس، هنا تصبح الفرصة مواتية لخصوم الثورة.. فالمبادئ الجميلة يمكن شيطنتها من قبل المناوئين الذين قد يملكون الوسيلة وإن كانوا لا يملكون المبادئ المقنعة.

إن الناظر في الثورة البلشفية وقيام الفكر الاشتراكي وانتشاره في العالم يلحظ أنهم ركزوا إلى جانب القوة العسكرية على وسائل التغيير والتربية:

 فأولًا: صنعوا منهجًا يبدو في ظاهره علاجًا للتوحش الرأسمالي الذي ساد العالم.

 ثانيا: أعدوا رموزًا ونظريات ومنظرين في كل أنحاء العالم لتبشر بالمنهج والثورة المنقذة.

ثالثا: ركزوا تركيزا كبيرا على ابتداع وسائل التأثير والتربية، والتبشير والنشر للفكر الثوري الجديد؛ فصنعوا النظريات الإعلامية ودعوا إلى امتلاك وسائل التأثير في الشعوب، وكانوا يملكون إذاعات موجهة إلى الشعوب المناوئة بِلُغاتها للتأثير فيها إما لتغييرها أو تربيتها أو لإفقادها الثقة في معيشتها ومعتقداتها.

وبقراءة للتاريخ فإن محمد علي ما استطاع تغيير وجه مصر الإسلامي إلى الشكل العلماني الجديد إلا من خلال صناعة النخبة في مصانع الغرب، وقطعها عن جذورها، وهذه النخبة التي أمسكت فيما بعد بكل أدوات التغيير والتربية في المجتمع ابتداء من الجيش ومرورا بالسينما والتليفزيون، فالكتاب والأدب والأديب، إلى المنهج والمعلم والمدرسة؛ فقد شكل للتغيير المحكم كل الأدوات والعناصر اللازمة لإحداث تغيير يصعب للمجتمع التفلت منه.

ولذا فإن التربية الثورية لا تحتمل ما يقال عن التوافقية وتعدد الاتجاهات، إذ ستصبح الثورة أطرافًا متنازعةً، ومناهجَ متعاكسة، ووسائل متضادة، أو يمكن أن يقال إن الثورة مبدأ واضح، ومنهج واضح، لا بد ممن يطوي تحت لوائهه أن يدين لتلك المبادئ بالولاء الكافي، بحيث يكون طليعيا قادرا على تربية المجتمع وتوجيهه باتجاه الثورة الجديدة.
 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم