إن من أخطر الثغرات التي نؤتى منها، ثغرات البديهيات التي نغفل عنها، كغفلتنا أحيانًا عن قيمة الأخلاق في ميدان الدعوة والعمل الإسلامي.
وتأتي هذه الغفلة من جانبين:
الأول: أن يكون مفهوم الأخلاق مقتصرًا على جوانب دون أخرى، أو يكون مؤكدًا لجوانب، مهملًا لجوانب أخرى، فتقاس أخلاق الرجل مثلًا بمقدار التهذيب في لغته، واللطف في تعامله مع الناس، وحلمه عليهم، بينما لا تُعطى أخلاق أخرى الاهتمام الكافي، كالصدق والشجاعة وسلامة الصدر والإيثار والتسامح والإنصاف وإنكار الذات والزهد في متاع الحياة الدنيا.
قد يوصف الداعية بعلو الأخلاق لما عُرف عنه من دماثة ولطف، وإن كان لا يتورع عن كيد وحقد، أو يوصف بما يقرب من الكمال، لكرم يده وتسامحه في التعامل المالي، وإن كان لا يخلو من تدليس في القول، وتحيّز في الأحكام، وغلو في الانتصار للنفس.
ولسنا نقصد أننا جميعًا نقع في هذه الغفلة، ولا أن الداعية محروم من جميع تلك الأخلاق التي نغفل عن أهميتها أحيانًا، ولكن الغفلة عن أي خلق، أو القصور عن أي فضيلة، يُعدّ خللًا، والخلل يحتاج إلى كشف وتنبيه، وعلاج.
الثاني: أن يكون مستوى الالتزام الخلقي متدنّيًا بالقياس إلى مفهومه النظري. وإذا كان سلوك الإنسان معيارًا لمعتقده وفكره فإن التدنّي الخلقي يعبر عن ضعف في الإيمان، وغبَشٍ في التصور.
لقد شاء الله عز وجل أن يقيم بين عباده نماذج بشرية رفيعة، يتمثل فيها السموّ الأخلاقي في أعلى صوره، حتى يكونوا نبراسًا للعالمين: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...} (سورة الأحزاب: 21).
وجعل حساب الفرد على قدر موقعه من القدوة في الناس. ففي القرآن الكريم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ...} (سورة الأحزاب: 32). وفي الحديث الصحيح: «... أما والله، إني أتقاكم لله، وأخشاكم له ...» رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم.
وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه كان يدخل على أهله فيقول لهم: «إني عزمت على أن آمر الناس بكذا وكذا، وأيم الله من رأيته منكم يخالف أمري لأضاعفنّ له العقوبة».
فهل تمثّل الدعاة هذه الحقيقة؟
وحين نخاطب الدعاة، وكبار الدعاة بشكل خاص، لا ننسى أنهم بشر، والبشر لا يخلو من ضعف وخطأ مهما جاهد نفسه، ولا ننسى كذلك أن الدعاة يبذلون الكثير لتستقيم نفوسهم، ويستقيم أهلوهم وذووهم، لكن التذكير يبقى ضروريًا حتى لا يغفل الداعية عن خطورة الموقع الذي يحتله في المجتمع، وما يقتضيه هذا الموقع من مزيد رعاية وعناية، إنه موضوع القدوة.
وقد يخيّل إلينا أننا نؤتى من ضعف تربيتنا الفكرية، بأن تكون محاكمتنا للأمور خاطئة، وطريقة استنتاجنا وتحليلنا مقلوبة، أو بأن تكون قناعاتنا متباينة، فكلٌّ يريد أن يقود المركبة وفق قناعاته، وكلما وصلنا إلى منعطف احتدّ الخلاف، وغلب بعض القوم على أمرهم فانطلقوا، واستاء آخرون فاعتزلوا أو انشقوا.
ونظن أحيانًا أن ضعفنا ناشئ من غياب الضوابط الإدارية والتنظيمية، أو من ضيق ذات اليد الذي يحول دون توفير بعض المستلزمات، وتفريغ بعض أصحاب الطاقات، أو إرسال بعض الأبناء لدراسات اختصاصية فيما يهم الجماعة.
وهذا كله ليس وهمًا. لكنه كذلك لا يمثل الحقيقة كلها.
هناك خلل أخلاقي يجعل مستوى التزام الأخ في سلوكه أدنى كثيرًا من مستوى ما يؤمن به ويدعو إليه. يظهر ذلك من حركته بين أهله وجيرانه وإخوانه، وتعامله معهم. كما يظهر من وضع بيته وأولاده. والناس يرقبون صاحب الدعوة بمناظير مكبرة، يرقبون منه الكلمة والحركة، واللباس والطعام، والمسكن والأثاث، ويرقبون سلوك أهله وذويه، فإذا فاتتهم منه ثغرة وجدوها في أهله وبيته.
وقد خاطب القرآن الكريم قومًا فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (سورة البقرة: 44). قال ابن جريح: «عيّرهم الله بذلك. فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة» تفسير ابن كثير.
وعاتب الله تعالى بعض الصحابة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (سورة الصف:2)، ونقل ابن كثير أن الجمهور على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فُرِضَ نَكَلَ عنه بعضهم. أي أنه عاتبهم على أن التزامهم الفعلي كان أدنى مما يقولونه بأفواههم.
إنه لم يتهيأ لجيلنا ما تهيأ لجيل الصحابة. وليس من السهل على الدعاة أن يحملوا أنفسهم على المستوى الرفيع من الورع والزهد والبذل، ولكن التكليف في أصله واحد للأجيال جميعًا. والدعاة هم حملة الرسالة، وهم المرتكز في التغيير، ولا بدّ أن يلحظوا الانسجام بين طروحاتهم النظرية وسلوكهم العملي.
إن أخطر خلل يصيب العمل الإسلامي أن يظهر فيه مسلمون قولًا وكتابة وخطابة، ولكنهم لم يتحققوا بالاستسلام ظاهرًا وباطنًا ولم يستعصوا على الخضوع لداعية هوى، أو وسوسة شيطان.
إن ضعف المستوى الأخلاقي للدعاة هو الخرق الذي يمكن أن تدلف منه عللٌ وأوبئةٌ ومشكلاتٌ إلى الصفّ، وهو الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام الفتن.
وقد كان دأب الدعوة الربانية منذ عهد نوح إلى خاتم النبيين، عليهم الصلاة والسلام، إيجاد الصنف الرفيع من البشر، أولئك الذين يخلصون لله في سرهم وعلانيتهم، ويفتحون قلوب الناس ونفوسهم، فيسكبون فيها الإيمان والتقوى والإخلاص والحب والوفاء.
ولو تدبرنا قول الله تبارك وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ...} (سورة المائدة: 54)، لوجدنا فيها تأكيدًا عجيبًا لمستوى الالتزام الخلقي الذي يكون عليه أبناء النخبة المرشحة لإعادة الأمة إلى دينها بعد الردة، ويكفي أن نشير من ذلك إلى معنيين خلقيين رفيعين: معنى الذِّلَّة على المؤمنين، والرفق بهم، والعطف عليهم، والرحمة واللين؛ ومعنى العزة على الكافرين والشدة عليهم والغلظة، فضلًا عن المعاني الأخلاقية التي يتضمنها قوله سبحانه: {يحبّهم ويحبّونه}!.
اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
.