الإنسان ليس معصومًا عن الخطأ والقصور والنقص؛ لأسباب متعددة، وقد اتبع الرسول الكريم ﷺ منهجًا واضحًا، وشاملًا، ومتدرجًا في التعامل مع هذه الأخطاء، ومعالجتها بأساليب تحقق أعلى درجات النجاح، والجودة، والفائدة، والنفع للفرد والمجتمع. ومما يبين عظمة الرسول ﷺ أن منهجه لم يعتمد على العقاب لما يصدر من أخطاء؛ إنما اعتمد على منهج الرحمة وما يعقبها من أوجه الإحسان للمخطئين، على حسب حالة المخطئ ونوع الخطأ.
وتهدف دراسة للدكتور عبدالكرم بن عبد العزيز، بعنوان: (رحمة الرسول في معالجة الأخطاء) -2016-، إلى إبراز عظمة الإسلام من خلال بيان عظمة رحمة رسوله الخاتم ﷺ في تعاملاته، وأخلاقه، وتصرفاته مع العموم، ومع المخطئين خصوصا؛ بما يجذب قلوبهم إلى الإسلام، وإلى الثبات عليه. كما يُظهر هذا البحث صفة الرحمة بوصفها مقصدًا من مقاصد بعثة الرسول وأن التحلي بها سبب جالب للاستجابة والقبول؛ فإن تلمس معالم رحمته في التعامل الراقي مع المخطئ، أيًا كانت حاله؛ مما يُبرز فنون التعامل وآداب العلاقات بين البشر، وكذلك بما ينظم حالة السلوك الإنساني، واستقامتها، وتنظيمها بشكل يتوافق فيه الجانب النظري مع السلوك التطبيقي الفعلي.
رحمة الرسول بالمخطئين من غير المسلمين
بُعث الرسول محمد ﷺ للناس كافة، وأرسل رحمة للعالمين، سواء كانوا مؤمنين أم كافرين؛ قال تعالى: {وَمَا أرسَلناكَ إلَّا رحمةً للعَالمِينَ} (الأنبياء: 107)، ورجّح الطبري في تفسيره: أن هذه الرحمة تشمل المؤمنين والكافرين. يقول رسول الله ﷺ: «وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة». وعندما قيل لرسول الله ﷺ: ادع على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة».
ومن دلائل رحمته ﷺ بمعالجة المخطئين من غير المسلمين ما يلي:
1. يروي جابر بن عبد الله، قال: قاتل النبي ﷺ محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله ﷺ بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله»، قال: فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله ﷺ السيف، فقال له: «من يمنعك مني؟»، قال: كن خير آخذ، قال: «تشهد أن لا إله إلا الله»، قال: لا؛ ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى سبيله فجاء إلى أصحابه، فقال: «جئتكم من عند خير الناس».
ومن أوجه إحسان النبي ﷺ في رحمته بغورث بن الحارث، ما يلي:
- أن النبي ﷺ رحمه فلم يعاقبه.
- وأنه ﷺ خلى سبيله، وعفا عنه. قال ابن بطال: «وفيه ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده– إن شاء– والعفو عنه إن أحب، وفيه صبر الرسول ﷺ وحلمه، وصفحه عن الجهال».
- وأنه ﷺ لم يكتف برحمته لذلك الرجل؛ بل أراد ﷺ أن يشمل إحسانه في رحمته قوم ذلك الرجل، من خلال ائتلاف قلوبهم عند علمهم بما حدث من عفو النبي الكريم عن رجل منهم؛ وذلك لشدة رغبة النبي ﷺ في ائتلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام، لم يؤاخذه بما صنع؛ بل عفا عنه.
2. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ فمرض، فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له ﷺ: «أسلم»، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: «أطع أبا القاسم»، فأسلم؛ فخرج النبي ﷺ وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار».
ومن أوجه إحسان الرسول ﷺ في رحمته بالغلام اليهودي، ما يلي:
- اهتمامه ﷺ بعيادة أهل الذمة، مع صغر سن من قام بعيادته، ومظنة قصور قدره؛ لأنه كان يخدم النبي ﷺ.
- أن النبي ﷺ رحمه عندما عرض عليه الإسلام.
- أن النبي ﷺ حرص على أن ينجو ذلك الغلام من النار، فقال: «الحمد لله الذي أنقذه من النار»؛ فالصبي إذا عقل الكفر ومات عليه؛ يعذب، فلولا صحته ما عرضه عليه.
3. عن سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله ﷺ خيلًا قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله ﷺ فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله ﷺ حتى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله ﷺ حتى كان من الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله ﷺ: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك؛ فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ. والله، ما كان من دين أبغض إلى من دينك؛ فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ. والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك؛ فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله ﷺ وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا؛ ولكني أسلمت مع رسول الله ﷺ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنط حتى يأذن فيها رسول الله ﷺ.
ومن أوجه إحسان النبي ﷺ في رحمته بثمامة بن أثال، ما يلي:
- أن النبي ﷺ عفا عنه؛ رغم أنه جاء لقتله ﷺ، قال ابن حجر: «ومن الفوائد: المن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء».
- أن النبي ﷺ أمر بإطلاق سراحه، فقال ﷺ: «أطلقوا ثمامة».
- أن النبي ﷺ رحمه؛ بتقديم البشارة له، فقال: فبشره رسول الله ﷺ. قال ابن حجر: «أي: بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة، أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة».
- ثم إن من آثار وثمرات إحسانه ﷺ في رحمته بثمامة، المحبة بعد البغض؛ قال ابن حجر: «لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي ﷺ من العفو والمن بغير مقابل».
- وقال: «وإن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب». وفي قوله: مع رسول الله ﷺ إشارة إلى الملاطفة، والارتباط، والمصاحبة. قال ابن حجر: «أي: وافقته على دينه؛ فصرنا متصاحبين في الإسلام، أنا بالابتداء، وهو بالاستدامة».
- طلب هداية قومه، قال ابن حجر: «وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسرى، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام؛ ولاسيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه».
4. عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله ﷺ فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله ﷺ ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله ﷺ: «إنما خيرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ . . . } (التوبة: 80)، وسأزيده على السبعين»، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله ﷺ، فأنزل الله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ} (التوبة: 84).
ومن أوجه إحسان النبي ﷺ في رحمته بابن عبد الله بن أبي بن سلول، ما يلي:
- أن النبي ﷺ استجاب له فرحمه؛ فأعطاه قميصه ليكفن فيه أباه.
- أن النبي ﷺ استجاب لابن عبد الله بن أبي بالصلاة على والده.
- أن النبي ﷺ استغفر له، كما ورد في رواية القسطلاني في إرشاد الساري وفي الحديث: «إنما خيرني الله». قال العيني: «أي: بين الاستغفار وتركه. وسأزيد؛ أي: حمل النبي ﷺ عدد السبعين على حقيقته».
- أن النبي ﷺ دعا لوالد عبد الله بن عبد الله بن أبي– رحمة منه به– وذلك لأن الصلاة على الميت تتضمن الدعاء له؛ شفقة وتأليفًا لقلب ولده وأقوامهم. قال العيني: «وقصد النبي ﷺ الشفقة على من تعلق بطرف من الدين، والتأليف لابنه ولقومه، فاستعمل أحسن الأمرين وأفضلهم».
- وفي اعتراض عمر رضي الله عنه، على الصلاة على عبد الله بن أبي بن سلول، وصلاة النبي ﷺ عليه، ثم نزول قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ . . . } (التوبة: 80)، يذكر ابن بطال: «فرض على جميع المؤمنين متعين على كل واحد ألا يدعو للمشركين، ولا يستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم».
- ويعقب ابن حجر على الحادثة تعقيبًا يجمع بين الأمرين، فيقول: «وإنما لم يأخذ لنبي ﷺ بقول عمر إجراءً له على ظاهر حكم الإسلام، كما تقدم تقريره، واستصحابًا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحقق صلاحيته، ومصلحة الائتلاف لقومه ودفع المفسدة».
- وكان النبي ﷺ في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح؛ ثم أمر بقتال المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك؛ لمصلحة الائتلاف، وعدم التنفير منه».
رحمة الرسول بالمخطئين من المسلمين
بين الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أن كل ابن آدم خطاء؛ ولا يعصم من ذلك إلا الأنبياء والرسل في تبليغ الرسالة، كما قرر الرسول الكريم ذلك، فقال ﷺ: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، وقال ﷺ: «تجاوز الله عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه».
والخطأ صفة متعلقة بالبشر من غير الأنبياء والرسل؛ لا يسلم منها أحد، ولا ينجو منه البشر، قال ابن تيمية: «ليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم؛ بل ليس من شروطهم ترك الصغائر مطلقا؛ بل ليس من شروطهم ترك الكبائر، أو الكفر الذي تعقبه توبة». وذكر ابن القيم: «وكيف يُعصم من الخطأ من خلق ظلوما؛ ولكن من عُدّت غلطاته، كان أقرب إلى الصواب ممن عُدت إصاباته».
وقد كان النبي ﷺ رحيمًا في تعامله مع ما يصدر من أخطاء من الصحابة؛ بما يحقق المصلحة العامة والخاصة، سواء أكان المخطئ عالمًا أم جاهلًا، وفي كل الحالتين كان للنبي ﷺ منهج دقيق في التعامل مع الأخطاء ومعالجتها بما يراعي الحالات المختلفة.
رحمة النبي في معالجة المخطئين من العالمين
1. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ! فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! -ثَلَاثًا- اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَنَحْوَهَا».
ومن أوجه إحسانه ﷺ في رحمته بمعاذ رضي الله عنه عندما أطال في قراءته على المأمومين:
- أن النبي ﷺ رحمه، وأحسن إليه بألا يكون سببًا في تنفير الناس عن صلاة الجماعة. قال القسطلاني: قوله: «يا معاذ، أفتان أنت؟!». قال ذلك ثلاثًا، قال العيني: «أفتان أنت؟ بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار، ومعناه: أنت منفر؛ لأن التطويل سبب لخروجهم من الصلاة، وكره للصلاة في الجماعة».
- أن النبي ﷺ رحمه بالإحسان إليه وإلى الأمة جميعًا، خاصة من يؤم الناس في الصلاة بالتخفيف وعدم التطويل بالقراءة.
- أن النبي ﷺ رحمه بالإحسان إليه، فلم يعاقبه أو يبعده عن الإمامة؛ إنما عاتبه وبين له أن في التطويل افتتان لبعض الناس، فكان معاذ رضي الله عنه سببًا في هذا الهدي يؤجر عليه إلى قيام الساعة. ذكر النووي عن ذلك، قوله: «أفتان أنت يا معاذ؟!» أي: منفر عن الدين، وصاد عنه، ففيه الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه؛ وإن كان مكروهًا غير محرم، وفيه جواز الاكتفاء في التعزيز بالكلام، وفيه الأمر بتخفيف الصلاة، والتعزيز على إطالتها إذا لم يرض المأمومين.
2. موقف الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي أرسل رسالة إلى مشركي مكة يخبرهم أن رسول الله ﷺ قد جهز جيشًا لفتحها، فقال رسول الله ﷺ: «يا حاطب، ما هذا؟». قال حاطب: لا تعجل عليّ يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي ﷺ: صدق. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال ﷺ: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم».
ومن أوجه إحسان النبي ﷺ في رحمته بحاطب رضي الله عنه:
- أن النبي ﷺ نهى عمر رضي الله عنه عندما طلب ضرب عنق حاطب رضي الله عنه بالشهادة له بالفضل؛ لأنه شهد بدرًا.
- أن النبي ﷺ خاطب حاطبًا رضي الله عنه خطابًا يدل على التشريف والتكريم والتقدير، قال القسطلاني: «فقال– تعالى– مخاطبًا لهم خطاب تشريف وإكرام: «اعملوا ما شئتم».
- أن النبي ﷺ شهد له بمغفرة الذنوب، عند قوله: «قد غفرت لكم». قال ابن حجر: «إن المراد: أن ذنوبهم تقع مغفورة»؛ بل والمبالغة في الغفران.
- ونقل النووي الإجماع على مغفرة ذنوبه مع أهل بدر، قال العلماء: «معناه: الغفران لهم في الآخرة؛ وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره؛ أقيم عليه في الدنيا».
- وعقب العيني على خطأ حاطب رضي الله عنه وعفو الرسول ﷺ عنه بقوله: «وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات، يجوز العفو عنه، كما فعل رسول الله ﷺ بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله».
3. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة. فأخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا».
ومن أوجه إحسان النبي ﷺ في رحمته عند معالجة خطأ صاحبي القبرين، ما يلي:
- أن النبي ﷺ رحم صاحبي القبرين؛ فأحسن إليهما من خلال توقفه عند قبريهما، وإحساسه بالرحمة تجاههما؛ لأنهما يعذبان، فلم تقتصر رحمته ﷺ بالأحياء؛ بل امتدت رحمته بالإحسان إلى مرتكبي الأخطاء من الأموات.
- أن النبي ﷺ أحسن إليهما بالدعاء لهما؛ للتخفيف مما يعانيانه من العذاب. قال ابن حجر عن الخطابي: «هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصه، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس».
- أن النبي ﷺ رحمهما، من خلال الإحسان إليهما بسؤاله الشفاعة لهما بالتهوين من العذاب في القبر؛ بسبب عدم الاستتار من البول، أو من السعي بالنميمة بين الناس؛ فقد نقل النووي الإجماع على ذلك، قال العلماء: «هو محمول على أنه ﷺ سأل الشفاعة لهما؛ فأجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا. وقيل: يحتمل أنه ﷺ يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لكونهما يسبحان الله ما دامتا رطبتين».
- أن النبي ﷺ رحمهما؛ من خلال الإحسان إليهما عندما أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة؛ تبركًا بأثره ﷺ. قال العيني: «لعله أن يخفف عنهما»، ذلك من ناحية التبرك بأثر النبي ﷺ.
ومن خلال ما سبق، يتبين بعض معالم رحمة الرسول ﷺ في التعامل مع أخطاء العالمين من المسلمين، كما يلي:
- مراعاة عدم تضرر الإنسان، أو المكان، وحصر المشكلة والقضاء عليها.
- عدم إحراج المخطئ أمام الناس، والعناية بمشاعره.
- استغلال المواقف في نصح الأمة، وتعليمها.
- التسامح وعدم الانتصار للنفس.
- الإحسان والتفضيل في التعامل، والعطاء لأجل تأليف القلوب.
- صفات الراحم ﷺ وأساليب رحمته بالمخطئين.
إن سيرة ﷺ لتشهد بأنه رحمة مهداة، وأنه غرس معاني الرحمة في أصحابه، وأوصاهم بها، وملأ تعاليمه بذكرها، ولعل من المهم في جانب تلمس هدايات رحمته ﷺ في معالجة المخطئين أن نتبين شيئًا من صفاته المتعلقة بذلك:
1- اللين:
قد أثنى الله جل جلاله على رسوله ﷺ بهذه الصفة؛ لما لها من أثر في إقامة العلاقات الطيبة، وتحقيق اللُّحمة والترابط بين أفراد المجتمع؛ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (التوبة: 159). قال الطبري: «فتأويل الكلام: فبرحمة الله يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك؛ لِنْتَ لهم، أي: لأتباعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك؛ حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم. ويقرر القرطبي تلك الصفة، وأنها تَفَضُّل من الله سبحانه وتعالى، ويوضح ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ . . . }.
وقد بين ابن الجوزي أثر اللين في المخاطبة على المخاطب، قال: «فالله الله أن تحدث مخلوقًا من العوام بما لا يحتمله، دون احتيال وتلطف؛ فإنه لا يزول ما في نفسه، ويخاطر المحدث له بنفسه، فكذلك كل ما يتعلق بالأصول»، ويظهر أثر صفة اللين وارتباطها برحمة المخاطب، وإقباله على الناصح وتقبله للنصحية، فالأسلوب يكون لينًا، والمتحدث لبقًا، دمث الخلق؛ مما يسبب انشراح الصدر للسماع، بعكس الأسلوب الجاف الذي يؤدي إلى المكابرة والنفور.
وتظهر صفة الرحمة بالمخطئ والإحسان إليه متلبسة باللين في التعامل في مواقف وحالات معينة، ترتبط إما بغير المسلم، أو بالجاهل ومن في حكمه. أما في حالة الخطأ في أمر شرعي ممن هو متصف بالعلم والمعرفة، فيظهر أسلوب الحزم والشدة، قال ابن حزم: «وأما الغلظة والشدة في ذلك للقادر على إقامة الحد خاصة».
2- حسن الخلق:
إن من أهم صفات الراحم بالمخطئ والإحسان إليه، ما ينبغي أن يتمتع به من حسن الخلق، ولا ريب أن رسول الله ﷺ كان أعلى الناس قدرًا، وأعظمهم محلًا، وأكملهم محاسنًا وفضلًا.
ومن خلال سيرته ﷺ وتعاملاته مع أمته؛ يظهر عظم أخلاقه القولية والفعلية، ذكر صفي الرحمن المباركفوري: «وكان ﷺ دائم البشر، سهل الخلق، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، وكان أكثر الناس تبسمًا».
كما أن حسن الخلق من أبرز ملامح الرحمة التي أرسل بها ﷺ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
3- العلم بأحوال المخاطبين:
إن من الأمور المهمة في تمثل الرحمة عند التعامل مع المخطئين، أن يكون المتعامل عالمًا بأحوال الناس، فكل نوع من البشر يحتاج إلى أسلوب وطريقة في التعامل؛ لكي يتحقق الهدف، ويصلح الخطأ، وتثمر التربية. ومن المهم معرفة الفروق الفردية عند تصحيح أخطاء الآخرين، فكلما زادت معرفة المعلم بهذه الفروق الموجودة بين التلاميذ؛ سهل تدريبهم وتوجيههم نحو تحقيق الأغراض التربوية المختلفة.
وكما أن مغاليق الأبواب لها مفاتيح، فكذلك مغاليق النفوس لها مفاتيح؛ فلا بد أن يتصف الراحم بالمفاتيح التي من خلالها يتيسر له التعامل مع مختلف النفوس البشرية؛ وتقصر الزمن اللازم للتأثير وتحقيق الاستجابة المناسبة، والتأثر بالإقلاع عن الخطأ، والسعي نحو تمثل الحق والانصياع له.
4- تقدير الموقف وتشخيص الخطأ:
يعتمد النجاح في معالجة الخطأ على ما يتصف به الراحم في إحسانه إلى المخطئ، على حسن تقديره للموقف الخطأ عمومًا، والتمكن العقلي من تحليل الخطأ وتشخيصه، وأن تكون النظرة موضوعية واقعية، فعبد الله بن عمرو قال: أُخبِر رسول الله ﷺ أني أقول: «والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت»، فقلت به: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: «فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاث أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر»، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا وأفطر يومين»، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا وأفطر يومًا فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام»، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي ﷺ: «لا أفضل من ذلك يُذكر».
يقول د. النغيمشي عن ذلك: «وهي قدرة المربي على تقدير الموقف والموضوع، والتعامل معه في أقصى حد ممكن من الاستطاعة، حسب ما يتطلبه الحال أو الشخص، وبما يؤدي إلى تحقيق الأهداف، وذلك ضمن الضوابط الشرعية».
ومن تقدير الموقف أن يتعرف الراحم على مدى مستوى عقلية المقابل، فعن المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك. فقال: إني ساببت رجلًا فعيرته بأمه فقال لي النبي ﷺ: «يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم»، قال ابن سعدي: وعلى المعلم أن ينظر إلى ذهن المتعلم، وقوة استعداده أو ضعفه. كما ينبغي أن يهتم بردود أفعال المخطئين، وأن يكون لديه البدائل المناسبة لمقابلتها، وإن اعتذر قبلتَ، وإن أخذ في الخصومة صفحتَ، وأريته أن الأمر قريب».
وبناء على ما يظهر للراحم من تحليل لشخصية المخطي؛ فإنه يتصرف بما يناسب ذلك، ذكر د. النغيمشي أنه ينبغي أن ينظر إلى المتربي من خلال قدراته، فلا يحمله ما لا يطيق، ولا يخاطبه بما لا يفهم، ولا يعامله لما يفوق مرحلته العمرية، ولا يحاسبه على ما لا يكون في وسعه.
5- التوازن الاتصالي:
إن مما يجدر بالراحم عند إحسانه في التعامل مع عيوب المخطئين، أن يتصف بالأسلوب المناسب، سواء كان في الخطاب اللفظي، أو التصرف الحركي. ومن جانب الخطاب يذكر د. النغيمشي: «أو يكون هناك عناية بحسن الخطاب، والحوار مع المتعلم؛ وحسن الإنصات له». كما أن التوجيه غير المباشر في تصحيح الأخطاء له أثره في رحمة المخطئ والإحسان إليه، بحيث لا يقع في حرج أمام الملأ، يذكر ابن حميد: «أن التوجيه غير المباشر من شأنه أن يتخطى أو يتفادى التصادم مع كثير من العقبات النفسية المختلفة».
وكان من هدي النبي ﷺ أن يوجه بشكل عام إن رأي خطأ أو تجاوزًا من أحد الصحابة فيعمم الخطاب، يقول الرحيلي: «وأما النطق بعيوب الناس؛ فعيب كبير لا يسوغ أصلًا، والواجب اجتنابه». كما أنه يتضح من سيرة النبي ﷺ فيما سبق من أمثلة الفصل الأول؛ حلمه في تعامله مع كل من أخطأ عليه من الجهال، ذكر ابن حزم: «والمداراة فضيلة متركبة من الحلم والصبر».
وعندما يتصف الراحم بتلك الصفات، ويتمثلها في نفسه، ويصطبغ بها أسلوبه؛ فإنه لها أثرًا بالغًا في بناء علاقات إنسانية متجذرة، وإلى أبعاد نفسية إيجابية قائمة على التفاعل المتبادل والارتياح العاطفي؛ مما يقرب القلوب، ويبني جسور التواصل؛ وعندها يحدث التأثير. قال النغيمشي: «والمربي عمومًا إذا اتسم بالحصافة والنباهة، اللتين تهديانه إلى إيصال التوجيه والخبرة للمتربي بطريقة عفوية نابعة من ذات البيئة التربوية وظروفها، وبأسلوب غير مباشرة ولا ملول؛ فإنه يستطيع بناء علاقة أوثق، وتفاعل تربوي أعمق».
أساليب رحمته ﷺ بالمخطئين
بعد تناول بعض أهم صفات الراحم لمن يتلبس بالخطأ، من خلال النظر والتأمل في سيرة النبي ﷺ؛ ناسب أن نستعرض شيئًا من أهم الأساليب المستخدمة في التعامل عند معالجة الأخطاء، وتفضيل ذلك يظهر في مظهرين:
الأول: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف الشريعة، أي: ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم.
وإن من أهم مظاهر رحمته ﷺ ما يظهر في تعاملاته مع أمته من أساليب حانية، وطرائق محببة؛ تقرب النفوس للنفوس، وتؤلف القلوب، وتكسب الحب والمودة، وتزيد من الثبات على الإيمان؛ قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة: 61).
وقد بين أبو حيان وجه تخصيص الرحمة بالمؤمنين، وإن كان ﷺ رحمة للعالمين بقوله: «لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول ﷺ لم يحصل لغيرهم، وخُصوا هنا بالذكر، وإن كانوا قد دخلوا في العالمين؛ لحصول مزيتهم».
وتحتوي سيرة النبي ﷺ على كم كبير من الأساليب الرحيمة في تعامله ﷺ عند معالجة المخطئين، ومنها:
1- العفو، والاستغفار، والمشاورة:
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وجعله معرضًا للخطأ، قال ﷺ: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون». وتتنوع أسباب الخطأ وتتعدد، وفي ذلك يذكر ابن الجوزي أن من المخطئين: «الجاهل بالخطأِ المحظورِ، الظان بأن المحظور مكروه وليس بمحرم؛ والمتأول؛ والمخطئ عن شهوة؛ والعالم بالخطأ، المغتر بالعفو». ويذكر الرحيلي أن من أسباب وقوع الإنسان في الخطأ: «غفلته عن موقعه، وعن اللائق به، وغلبة الشهوة والهوى، أو أن يقع فيه عفوًا من غير قصد». ولأجل مقابلة تلك الأخطاء ومعالجتها، يوجه الله سبحانه وتعالى نبيه ﷺ بقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159)، حيث يرشد الله جل جلاله نبيه محمد ﷺ إلى الطريقة التي يتعامل فيها مع أصحابه، خاصة ما يواجهه من أذى ونحوه. ويلفت القرطبي إلى سر ذلك التدرج الوارد في الآية بوصفه أسلوبًا من أساليب التعامل مع الآخرين عند معالجة أخطائهم، وتوجيه سلوكياتهم: «أمر الله– تعالى– رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو ﷺ عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة؛ أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذ صاروا في هذه الدرجة؛ كانوا أهلًا للاستشارة في الأمور».
2- التواصل التربوي ومراعاة النفسيات:
أثنى الله جل جلاله على نبيه محمد ﷺ في علاقته مع أمته وتعاملاته معهم بأنه؛ قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)، أي: للذين أظهروا الإيمان منكم، حيث يقبله منهم؛ لكن لا تصديقًا لهم في ذلك؛ بل رفقًا بهم، وترحمًا عليهم، ولا يكشف أسرارهم، ولا يهتك أستارهم. وبتحقيق هذه الرحمة المتبادلة؛ يحصل التواصل الإنساني الإيجابي المثمر؛ حيث إنه يزيد من قدرتنا على توجيه مختلف الأعمار، والتحكم في العوامل والمؤثرات التي تؤثر في النمو؛ بما يحقق التغيرات المفضلة لدينا، ويوقف التغيرات السيئة. كما أن غاية التواصل الإنساني إحداث التفاعل الاجتماعي المناسب، وإحداث التغييرالإيجابي، وتعديل السلوك البشري.
ويذكر د. حامد زهران: «إن التفاعل الاجتماعي هو ما يحدث عندما يتصل فردان أو أكثر، ويحدث نتيجة لذلك تعديل للسلوك». وبقدر ما يكون ذلك التواصل الإنساني مبنيًا على أسس وقواعد دقيقة، ومراعيًا لمختلف العوامل المحيطة؛ فإنه يكون تغييرًا مستمرًا، سريعًا، عميق الجذور، واسع النطاق، هادف المقصد، منطلق السريرة.
3- الإقناع العقلي:
إن من أساليب الراحم في إحسانه إلى المخطئ في معالجته لخطئة، اللجوء إلى سبيل الإقناع بالحجة، ومن ذلك قصة الشاب الذي طلب من الرسول ﷺ الإذن بالزنا، فقال له رسول الله ﷺ: «أترضاه لأمك! ...» وقد أكد الحسين جرنو على تنويع وسائل الإقناع العقلي للمخالف، وفي ذلك تنبيه على أمور قد تخفى عن ذهن المخطئ، أو يغفل عنها.
كما أكد على أثر الإثارة الوجدانية في معاونة العقل على التفاعل عند معالجة الخطأ، والسعي إلى التصحيح؛ لأن الفرد المخطئ يحتاج إلى مزيد تفكير وتأمل في حاله ومآله، إن كان لديه قصور في معرفة ما آلت إليه الأمور، أو ضيق أفق في علمه. ويذكر النغيمشي: «إن النظر والتأمل عملية فكرية ذاتية يقوم بها الفرد، ويحفزها ما يعيش فيه الفرد من وسط كوني، وحياتي، وإنساني، ثابت ومتجدد، ويمثل مجالًا للتفكير والتدبر».
ولذا لزم على الراحم في معالجته للمخطئ أن يحسن التشخيص للموقف، ويحسن التعامل في المعالجة؛ لأجل المساعدة على الرقي بحال المقابل. ويؤكد زهران على ضرورة فهم طاقات الفرد، ومساعدته في التعرف على تنمية قدراته الاجتماعية، والانفعالية، والعقلية. ويتبع ذلك تحين الوقت المناسب في عملية الإقناع العقلي، والتعامل بالحسنى، والقرب النفسي والعاطفي من المخطئ، يقول ابن حزم: «الاقتداء بالنبي ﷺ في وعظه أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب، فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار؛ فقد أخطأ، وتعدى طريقته ﷺ».
4- الستر:
قد لا يدرك فئات من الناس مآلات ما يقعون فيه من أخطاء، أو تجاوزات بحق الله– تعالى– أو بحقوق الناس، قال ابن القيم: «وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، فضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب».
وتبرز أهمية صفة الرحمة من خلال رحمتهم بالستر عليهم دون جرح لمشاعرهم، وبتقديم النصيحة لهم، والتصحيح لما هم فيه من خطأ بطريق التعميم؛ فإن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة. ويقرر المدخلي: «إن معالجة الخطأ قائم على أمرين، هما: النصح، والستر». والمذنب محتاج إلى عفو ربه عنه، وستره فلا ينفضح، ويعصمه؛ فلا يوقعه في نظيره.
ويحدد ابن حزم مدى أثر التعميم في النصيحة والموعظة بطريقة مقبولة محببة إلى النفس، فقال: «ومن وعظ ببشر وتبسم ولين، وكأنه مشير برأي، ومخبر عن غير الموعوظ بما يستقبح من الموعوظ؛ فذلك أبلغ وأنجح في الموعظة».
وبتوفر أسلوب الستر على المخطئ؛ يتحقق العديد من الأهداف، يذكر منها الأقصري: «أن نوفر للشباب الأمان، والعطف، والإحساس بالاستقلالية». وبملاحظة ذلك الأمر؛ يكون هناك رؤية فاحصة، وناقدة، ومشخصة لاختلاف أطياف البشر، واختلاف عقلياتهم، يقول المنصور حول ذلك: «تختلف أشكال التعامل بين أفراد المجتمع ضمن أطر قيمية، وبأساليب تكاملية مترابطة هادفة إلى تحقيق التطوير الشامل».
خاتمة البحث:
- الرحمة صفة قلبية فطرية، ومكتسبة، ويظهر أثرها في صورة إحسان وتفضل على الناس عامة، والمخطئين على وجه الخصوص.
- عظم رحمة النبي ﷺ وشمول إحسانه على جميع فئات المخطئين من المسلمين وغير المسلمين، سواء كانوا جاهلين أم عالمين.
- أن أوجه الإحسان المترتبة على الرحمة بالمخطئين تختلف وتتنوع حسب حالة المخطئ، فقد يكون الإحسان:
- هادفًا إلى تأليف القلب، إن كان غير مسلم، أو حديث عهد بإسلام.
- حازمًا إن كان الخطأ من شخص عالم؛ إشعارًا بتعظيم حدود الله سبحانه وتعالى.
- متعاملًا بمداراة ولين إن كان المقابل جاهلًا، لتثبيت قلبه، وزيادة إيمانه.
- ظهور أثر الرحمة وأوجه الإحسان المترتبة عليها على ضبط العلاقات الإنسانية، وتهذيب الأخلاق، وحسن التصرف مع الآخرين، وتقليل المشكلات بين البشر؛ بل وإشاعة المحبة، والترابط، وزيادة اللحمة بين الأفراد في المجتمع.
.