Business

خصوصيات التربية العلمية في ثقافتنا العربية الإسلامية

 

 

تعد قضية التربية العلمية من أهم القضايا التربوية بالغة الأهمية، باعتبارها من القضايا التربوية العالمية التي حظيت في العقود الأخيرة باهتمامات وأولويات متزايدة، والتي تحظي حاليا أيضا باهتمامات الحكومات والمؤسسات في الكثير من دول العالم.

وفى دراسة للأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا، أستاذ الفيزياء بكلية العلوم جامعة القاهرة، بعنوان: (خصوصيات التربية العلمية في ثقافتنا العربية الإسلامية) -2015-، يرى أن من مظاهر الاهتمام العالمي بقضية التربية العلمية تضمين برامج الإصلاح والتطوير التربوي، المرتبطة بالتقدم المتسارع للعلوم والتكنولوجيا، والمطالبة في الوقت نفسه بملاحقة هذا التقدم في شكل ثورات علمية وتقنية متتابعة، وتحقيق أقصى إفادة ممكنة منه لكل أوجه عناصر العملية التربوية والتعليمية المتمثلة في الميمات الخمسة، وهي: المعلم المربي، والمتعلم المرَبي، والمنهاج أو المقرر الدراسي، ومكان التدريس والتدريب، (المدرسة، والمعمل، والمدرج، وغيرها).

 

أولًا: مظاهر الاهتمام العالمي بالتربية العلمية

يرتبط مصطلح التربية العلمية مع الكثير من المفاهيم ذات الأهمية، وهي: التنوير العلمي، والثقافة العلمية، والأمية العلمية، والمعرفة، والمهارات. ونتعامل اليوم مع التربية العلمية والتقنية، حيث أصبح الاقتصار على التربية العلمية فقط غير مستحب، فمن الأفضل أن ترتبط التربية العلمية بالتقنية. كانت الفجوة بين العلم ونظرياته وبين التطبيقات العلمية في الماضي فجوة كبيرة حيث تبدأ بصورة نظرية، وبعد فترة طويلة- ربما قرون- تظهر التطبيقات العلمية وتتحول هذه النظرية إلى تكنولوجيا. وأصبح الكشف العلمي في هذا العصر يظهر في اليوم ثم ربما تظهر تطبيقاته التكنولوجية في الغد أو بعد الغد. وأصبح العلم والتكنولوجيا وجهان لعملة واحدة. وأصبح هناك ما يسمي بالعلم القائم على التقنية، والتقنية القائمة على العلم، ومعظم المؤسسات العالمية تربط وتضيف التكنولوجيا إلى العلم، فهناك جمعيات وأكاديميات العلوم والتكنولوجيا.

تعد قضية التربية العلمية من أهم القضايا التربوية بالغة الأهمية، باعتبارها من القضايا التربوية العالمية التي حظيت في العقود الأخيرة باهتمامات وأولويات متزايدة، والتي تحظى حاليا أيضا باهتمامات الحكومات والمؤسسات في الكثير من دول العالم. ومن مظاهر الاهتمام العالمي بقضية التربية العلمية تضمين برامج الإصلاح والتطوير التربوي، المرتبطة بالتقدم المتسارع للعلوم والتكنولوجيا، والمطالبة في الوقت نفسه بملاحقة هذا التقدم في شكل ثورات علمية وتقنية متتابعة، وتحقيق أقصى إفادة ممكنة منه لكل أوجه عناصر العملية التربوية والتعليمية المتمثلة في الميمات الخمسة، وهي: المعلم المربي، والمتعلم المرَبي، والمنهاج أو المقرر الدراسي، ومكان التدريس والتدريب، (المدرسة، والمعمل، والمدرج، وغيرها). وما يلزم ذلك من معدات وأجهزة وأدوات وتمويل، بالإضافة إلى الإدارة العلمية الواعية والمؤهلة، ثم المجتمع الذي يحتضن كل هذه العناصر، ويغذيها ويقويها، وينتظر في الوقت نفسه عائدها ومردودها الإيجابي.

من مظاهر الاهتمام العالمي بقضية التربية العلمية أيضا كثرة التقارير العالمية، والتي صدرت حول تشخيص الأسباب التي تحول دون إكساب الأفراد حدًا مناسبًا من المعارف والمهارات العلمية اللازمة والضرورية لحياتهم الشخصية والمجتمعية.

وهذه التقارير تقيم العملية التعليمية والتربوية، وتشكو دائما من القصور في العائد والمنتج من هذه العملية، في محاولة لتغيير النظرة السطحية التي أدت بكثيرين إلى العزوف عن دراسة العلوم والرياضيات والتكنولوجيا ونشير هنا إلى التقرير الأخطر في هذا السياق، وعلى سبيل المثال: تقرير(أمة في خطر) الذي جاء لتصحيح العملية التعليمية في الولايات المتحدة، بعد أن استشعرت أن الخطر يُهددها من جهة التعليم نتيجة التراجع الملحوظ في تدريس مادة الرياضيات، وأعلن الرئيس الأمريكي بيانا إلى الأمة الأمريكية عن خطورة هذه الظاهرة والتأخر في تدريس العلوم.

أصدر الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية رونالد ريجان البيان الذي جاء فيه: «منذ بدايات الرياضيات في مصر وبلاد ما بين النهرين، قبل حوالي خمسة آلاف سنة، كان التقدم في فهم الرياضيات العنصر الرئيس للتقدم في العلم والتجارة والفنون. وقد خطونا خطوات جبارة منذ نظريات (فيثاغورث) حتى نظرية (جورج كانتور) عن المجموعة؛ وأصبحت معرفة الرياضيات، هي والتفكير العلمي في عصر الكمبيوتر، ضروريين أكثر من أي وقت مضى لعالمنا ذي الطبيعة التقنية المتزايدة. وعلى الرغم من أهمية الرياضيات المتزايدة لتقدم اقتصادنا ومجتمعنا، أجد أن انتساب الطلبة إلى برامج الرياضيات يتناقص على جميع المستويات في النظام التربوي الأمريكي. لكن لا غنى عن تطبيق الرياضيات في الميادين المختلفة مثل: الطب، والعلوم، وعلوم الحاسب، واستكشاف الفضاء، وفي المهن التي تتطلب مهارات، والأعمال!، والدفاع، والحكومة. ولكي نساعد في تشجيع دراسة الرياضيات وتطبيقها، من المناسب تذكير جميع الأمريكيين بأهمية هذا الفرع الأساسي من فروع العلم لحياتنا اليومية».

أصدر الكونجرس الأمريكي القرار رقم 164، والذي صدر عنه وعن مجلس الشيوخ، وقد سمي الأسبوع (الأسبوع القومي للتوعية الرياضية). وفوض الكونجرس الرئيسَ في هذا القرار، وطلب منه إصدار بيانٍ بهذا الشأن، وبناء على ذلك أعلن الآتي: «أعلن أنا- رونالد ريجان- رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أن الأسبوع من 1 إلى 10 أبريل عام 1986م، أسبوعا قوميا لمادة الرياضيات، وأحث جميع الأمريكيين على المشاركة في طقوس ونشاطات ملائمة تبرهن على أهمية الرياضيات وتعليمها للولايات المتحدة الأمريكية، ويشهد على هذا توقيعي على هذا البيان».

ونتوقف هنا عند بعض أجزاء من نص هذا البيان فيما يتعلق بكل من:

أولًا: بتاريخ الرياضيات بادئًا من الرياضيات عند المصريين القدماء، وبلاد ما بين النهرين، فعندما تؤرخ أمريكا تاريخ الرياضيات لا تستطيع أن تغفل دور الحضارة المصرية القديمة في تأسيس وتربية هذ الفرع المهم من فروع المعرفة.

وثانيا: أن هذا البيان موجه للشعب الأمريكي ليحتفلوا بالرياضيات والبرامج التي تطرح في هذا الشأن لنشر الوعي العلمي والثقافة العلمية.

وثالثا: قصد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان إعلان هذا البيان في يوم عيد الاستقلال الأمريكي العاشر بعد المئتين كأنه يريد أن يستحث الهمم ويستنهض العزائم. وإبراز هذه الجوانب ليؤكد على بعض خصوصيات التربية فإذا كانت أمريكا تستشهد بتاريخ القدماء لحث همم المعاصرين، فإننا لدينا رصيد حضاري غني يستطيع أن يثري عملية التربية عمومًا وعملية التربية العلمية بشكل خاص.

ومثالا آخر لأحد مظاهر الاهتمام العالمي بالتربية العلمية والتقنية ما فعلته اليابان في عام 1966م، عندما قامت الوكالة اليابانية للعلم والتكنولوجيا بالبدء في تنفيذ برنامج مدته ثلاث سنوات يهدف إلى زيادة وعي عامة الناس بالتقدم التقني والعلمي، وتنوير المجتمع بالقضايا العلمية التي نعيشها في عصرنا. ويتضمن البرنامج أنشطة عديدة ومتنوعة تشمل مهرجانات علمية للشباب، وأوليمبيا لأجهزة الروبوت، وإنشاء مكتبات فيديو علمية وتقنية، وبناء متحف علمي جديد باسم (عالم العلوم).

يتضح مما سبق أن القاسم المشترك بين العلماء والخبراء والمهتمين بمجال التربية العلمية وتدريس العلوم يتمثل في أنهم يحاولون اقتراح السبل والمداخل غير التقليدية، والجمالية، والجذابة، والتفاعلية، والفعالة، والممتعة، لدراسة العلوم والرياضيات، والتكنولوجيا، وربطها وظيفيًّا بحياة الأفراد والطلاب للاستفادة منها في بناء مجتمع المعرفة والمهارة.

 

ثانيًا: خصوصيات التربية العلمية

 من هنا نجد أن القضية عالمية، ولا تخصنا وحدنا في بلاد الشرق أو بلاد العرب، فهناك قاسم مشترك بيننا وبين العالم في موضوعات ومحاور التربية العلمية والتقنية. ولكن هناك شيئا يخصنا نحن العرب والمسلمين نابع من: طبيعتنا، وبيئتنا، وتاريخنا، ورصيدنا الحضاري، وعقيدتنا السمحة، وهذه الخصوصيات مهمة ومرتبطة ارتباطا وثيقا بقضية التربية العلمية.

 فهي مرتبطة بعملية التدريس والتعليم، ذلك لأن المعلم عندما يدرس ويشرح تشبيهات وأمثلة من البيئة التي يعيش هذا مرتبطة بالقيم التي تسود في هذا المجتمع ومرتبطة بالعقيدة لأن أمتنا تتخذ الإسلام عقيدة والمسيحية عقيدة وهي مرتبطة بالبعد الديني من ثقافتنا ويجب أن لا يشغلنا الوضع الديني المتردي في عصرنا عن الالتفات لأهمية الدين في حياتنا ولا نأخذ الدين بجريرة تصرفاتنا على الأرض فإن استثناء الدين في الغرب كان لأسباب تخصهم هم؛ أما نحن هنا في الشرق والبلاد العربية والإسلامية فلا يمكن أن نقصي الدين من ثقافتنا لأنه مقوم أساسي من مقومات حياتنا فإذا كان الواقع الديني متردٍّ فهو ليس أسوء من الواقع الاقتصادي أو الثقافي ولا كل جوانب الواقع التي نعيشها؛ فالأمة تعيش الآن في أسوء حالاتها وهذه الصورة لا يجب أن تشغلنا عن الاستفادة من المخزون الروحي والمخزون الوجداني ومن الرصيد الحضاري.

 من الموضوعات المهمة في التربية العلمية العربية وجود رؤية خاصة وفلسفة ذاتية تختلف. فنجد مثلا أن الطالب الإنجليزي يجلس في حجرات الدراسة على أنه سليل عبقرية قادرة على الإبداع مثل إسحاق نويتن وداروين، والطالب الفرنسي يفتخر بلابوزيه وباسكال، وقد مررت بمراحل التعليم ولم أسمع عن أسماء العلماء العرب بينما كلمة (جبر) دخلت جميع لغات العالم وصرفت لغويا، وهي كلمة عربية مائة بالمائة. وهذا هو الحسن بن الهيثم مؤسس علم البصريات ومؤسس الجيل الأول لكاميرات التصوير الضوئي، بمعنى أنه إذا كان هو على رأس الألفية الثانية ووضع فكرة التصوير الضوئي بما يسمي الخزانة ذات الثقب، فقد تطورت هذه الفكرة وجاء في نهاية هذه الألفية أحمد زويل وتكلم عن كاميرا الفيمتو طريقة متطورة لتصوير حركة الفاعلات الكيميائية؛ إذًا الألفية الثانية كلها ملك للعرب والمسلمين بدأت بمن أهدى للبشرية المنهج التجريبي للبحث العلمي واختتمت بمن قدم أحدث المخترعات الفيمتو كاميرا.

 كيف نستثمر هذه العطاءات في تعليمنا؟ فإن لها مفعول السحر في نفسيات أبنائها عندما يتعرضون لها ويتعرفون لها، ولكن المشكلة أن ثقافتنا العلمية ضحلة بل أكاد أقول إننا نعاني من أمية علمية متفشية خطيرة حتى بين المثقفين، فهناك الأمية الأبجدية وأخواتها، مع أميات كثيرة فنحن نقرأ لكتاب مشهورين ونجد أخطاء ومصطلحات علمية كثيرة فسمعنا من يقول إن أحمد زويل اخترع الفيمتو ثانية، وهذا غريب! وغير سليم، ومن يقرأ هذا في جريدة مثل الأهرام ويقول هذه ثقافة المثقفين وثقافة النخبة، إذًا نحن نعاني من الأمية العلمية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

 

ثالثا: فقه المصطلحات وبناء المفاهيم ونموها

قضية فقه المصطلحات من الأهمية بمكان، وكثيرا ما تُثار بعض الإشكاليات التي يطول النقاش والجدل حولها. ولا نقصد بكلمة فقه هنا معناها الاصطلاحي الذي حدده الفقهاء، وإنما نقصد الفقه بمعناه اللغوي. ومعني الفقه في اللغة هو الفهم العميق للمصطلحات، ومعرفة المضمون والمراد الحقيقي منه. ولذلك يقول الله تعالي واصفًا المنافقين: {... فمَالِ هَؤلَاءِ القَوْم لَا يكَادُونَ يـفْقَهُونَ حَدِيثا} (النساء: 78). فهم عرب ويفهمون قطعا مدلول الألفاظ، وما تحمله من المعاني، ولكن لمرض نفوسهم، وفساد قلوبهم لا يفهمون غرض المخاطب. أي أنه بالرغم من نزول القرآن باللغة العربية إلا أنهم لم يتمكنوا من معرفة المراد من الخطاب الإسلامي في القران والحديث وما يدعوهم فيه إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.

 وهكذا يكون فقه العلم مثلا في ثقافتنا العربية والإسلامية هو الإدراك السليم لحقائق الأشياء، وهو معنى مطلق غير مقيد بتخصيص بعينه، كما هو الحال مع كلمة العلم الطبيعي في الثقافة الغربية، والذي جاءت ترجمته للعربية غير دقيقة رغم شيوعها. فنقول مثلا علم الفيزياء، وعلم الفلك، وعلم التاريخ، وغير ذلك من فروع العلوم المختلفة.

من المهم أن نلاحظ في أسلوب التربية العلمية، وما يتضمنه من مصطلحات ومفاهيم، أن لكل لغة عقلها وإطارها الفكري الذي يعطي لمفاهيمها دلالات لا يمكن أن تتطابق مع لغة أخري. ونحن نريد أن نصل في لغتنا العلمية إلى فقه الخطاب العلمي والاستمتاع بالمصطلحات، والتخلص من المصطلحات التي تسربت إلينا وهي خاطئة حيث تظهر هذه القضية بدرجة أوضح في مجال الترجمة العلمية للمصطلحات والمفاهيم من اللغات الأخرى إلى العربية.

يقول البعض إنه لا علاقة بين العلم والدين، والدين لا وطن له ولكن العلم له وطن وله عقيدة، لكن العلم الصحيح يتماشى مع أي تعارض يحدث عندما يُحسب ما ليس من العلم علمًا، وما ليس من الدين دينًا. هذا يحتاج إلى فقه وإلى ثقافة عميقة، ونتكلم عن وحدة الثقافة الإنسانية أنها كلٌ لا يتجزأ، فلا نستطيع فصل الجهاز الهضمي عن الجهاز التنفسي، وكل معارفنا ومعلوماتنا تصب في الإنسان ووعي الإنسان فلا يمكن أن نفرق بين علوم إنسانية وطبيعية وبيئية، لأن هذه الثنائيات هي التي تشكل ثقافتنا وتشكل وعينا ومن خلالها تتشكل صورتنا عن هذا العالم الذي نعيشه.

في مجال التربية العلمية علينا ألا نقصّر في الاهتمام بمقوماتنا وثقافتنا وهويتنا العربية الإسلامية المتمثلة في ثلاث موضوعات يجب أن نتعامل معها بكل الحذر وبكل الضوابط حتى لا تختل النسب، وهي: اللغة العربية، والرصيد الحضاري من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وعطاءها الذاخر، والقيم الدينية والمخزون الديني لهذه الأمة. ولقد استطعنا بهذه المقومات صنع حضارة كانت هي الحضارة الوحيدة التي حققت انتشارًا شغل جُلّ الأرض؛ لأنها ظلت لأكثر من ثمانية قرون تشع على العالم علوًّا بهذه الثوابت الثلاثة. وكان المسلمون على مستوى التعاليم الإسلامية التي تحرص على (اقرأ).

 

رابعًا: التربية العلمية في إطار التوافق بين الفكر والواقع

إن المعرفة في حد ذاتها تمثل لدى الإنسان حاجة عقلية ملحة تدفعه إلى التماس الحقيقة في كل مظهر من مظاهر الوجود، لكنها في الوقت نفسه تستمد قيمتها من حصيلة مردودها للمجتمع البشري. وتتوقف هذه الحصيلة بطبيعة الحال على درجات استيعاب الإنسان لعلوم عصره، وحسن استخدامه لها وفق مقومات ثقافته ومنهج تفكيره، وفي إطار القيم والمعايير والضوابط التي يرتضيها المجتمع أساسا لتوجيه السلوك ورسم خطى التقدم والرقي.

لذا نجد أن المجتمعات المتقدمة، أو التي تسعى بوعي وإصرار نحو التقدم والمدنية، قد أدركت جوهر العلاقة الوثيقة بين تنمية الإنسان حضاريًا، وبين انتمائه فكريا وعَقَديًّا. وأيقنت هذه المجتمعات أن الدعامة الأساسية في تحقيق نهضتها ومواصلة تقدمها يجب أن تقوم على تأصيل ثقافتها وتعزيز قيمها، بما يجعل سلوك الفرد فيها متوافقا مع الإطار الفكري الذي يحكم حركتها ويحدد أهدافها.

وعادة ما يقع العبء الأكبر في هذا الصدد على المؤسسات التربوية والتعليمية التي تضطلع بتدريس مناهج محددة في مراحل التعليم العام: الابتدائي، والثانوي، والعالي أو الجامعي، ويكون لها أكبر الأثر في تكوين ثقافة المتعلمين وتزويدهم بأساسيات المعرفة وأنماط الفهم التي تجعلهم قادرين على الإسهام في البناء الحضاري لمجتمعاتهم. هذا هو ما تأخذ به دول كثيرة في الشرق والغرب على حد سواء، بصرف النظر عن مدى نضج وصواب الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفلسفية والعقدية المطروحة في هذا المجتمع أو ذاك. بينما نجد الفجوة واسعة بين الهدف والتطبيق في كثير من الدول النامية على الرغم من الجهود المبذولة في تعميم التعليم وتوسيع رقعة انتشاره.

 

 خامسًا: درسٌ عمليٌ في أصول التربية العلمية

عندما أعلنت اليونسكو أن عام 2001 هو (العام الدولي للفيزياء) للتعريف بعلم الفيزياء ومكانته في حياتنا، وجعلت المناسبة مرور مائة عام على اكتشاف الأبحاث المهمة للفيزيائي الشهير عبقري الحضارة المعاصرة (أل برت آينشتاين).

وقد كتبت مقالة في (جريدة الأهرام) في صفحتها المميزة (ثقافة) في هذا الوقت عن العام الدولي للفيزياء. وذكرت أنه يجب أن يكون هناك صدى لدعوة اليونسكو في عالمنا العربي الإسلامي الذي يسعى للنهوض من كبوته، وأن نستغل هذه الفرصة لنشر الوعي عن الفيزياء، والعلوم الفيزيائية، ومكانة العلوم في حياتنا، والترغيب في دراستها، والوقوف على أحدث منجزاتها، وأن نحيط في الوقت نفسه من لا يعرف علما ببعض إسهامات علمائنا قديما وحديثا في تقدم العلوم العامة، والعلوم الفيزيائية على وجه الخصوص، لأن الفيزياء لم يصنعها آينشتاين وحده، ولكن صنعها علماء كثيرون قبله، وبعده وإسهامات علمائنا قديما وحديثا في أمتنا العربية الإسلامية.

في عام 2004 اقتربت اليونسكو منا أكثر وجعلت هذا العام (العام الدولي لعلم الضوء) وجعلته على شرف العالم (الحسن بن الهيثم) عبقري الحضارة العربية الإسلامية. وبدأت باكورة الاحتفال من باريس في شهر يناير، وللأسف مضى أكثر من نصف العام ولم نجد صدى لهذا الاحتفال هنا في العالم العربي، وقد عاش الحسن بن الهيثم في مصر وحاول أن يقيم سدا عندما علم بانحدار النيل، وقابل الحاكم بأمر الله ولكنه تراجع عن هذه الفكرة وظل في منزل متواضع بجوار المسجد الأزهر يؤلف كتبه المهمة ومنها كتاب البراغي تأسيس علم البصريات، والذي قال لي أحد الأصدقاء أنه رأى ترجمته على مدخل جامعة كمبريدج والصفحة المفتوحة عليها توقيع إسحاق نيوتن، وكأنه يريد أن يقول إن النهضة الأوربية الحديثة استمدت زخمها ونورها من الشرق من عطاء الحضارة العربية ولكن لا نجد كليات علوم أو كليات تربية أو وزارة ثقافة ولا نجد من يحرك ساكنا في بلادنا.

إن كلا من رصيدنا الحضاري، ومخزوننا الروحي والوجداني لم نحسن الإفادة منهما بعد في تربية أبنائنا وتنوير عقولهم وتأكيد انتمائهم وتحقيق آمالهم في الارتقاء إلى حياة أكثر أمنا واستقرارًا وتقدمًا. ونأمل في السنوات القادمات أن يزداد وعينا بالعلوم وأن نعتز بتاريخنا العلمي القديم لنكمل مسيرة التي بدأناها.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم