إن للأخلاق أثرًا في شخصيات المتربين، ولها أثرٌ في استقرار المجتمعات، واستمرار الحضارات، وقد اهتمت الدول والمؤسسات التربوية بالأخلاق أيما اهتمام، وذلك لأنها من أهم مقومات الشخصية السوية، التي تبني الأمم وتنشر القيم.
وتعد المحاضن القرآنية من المؤسسات التربوية المهمة التي ارتضاها المجتمع للتربية على القرآن الكريم، الذي يدعو إلى التمسك بالأخلاق والتحلي بالفضائل عمومًا والرحمة خصوصًا، وقد جمل الرحمن الرحيم في كتابه الكريم بين القرآن والرحمة، يقول الله تعالى: {قلْ بفَضْلِ اللِّه وَبرحْمتهِ فبذَلِكَ فَلْيَفرحُوا...} (يونس: 58).
وفي المحاضن القرآنية تظهر أشكال من الممارسات والسلوكيات التي تبرز نماذج لرحمة المسلمين بعضهم بعضًا، ورغم ذلك فهذه المحاضن تحتاج دومًا إلى المراجعة والترشيد والتوجيه، لتحقيق أهدافها التي وضعت من أجلها، ومن أهم الوسائل لبلوغ ذلك التزام خلق الرحمة.
وفى دراسة للدكتور هاشم بن علي الأهدل بعنوان: (التربية على الرحمة في المحاضن القرآنية) -2016-، يرى أنه للتربية على الرحمة، لابد من استخدام الأساليب التربوية كالموعظة والقصة والحوار والقدوة وغيرها.كما أن المؤسسات التربوية في المجتمع كالأسرة والمدرسة يمكن أن تتعاضد مع المحاضن القرآنية في تعزيز الرحمة لدى المنتسبين إليها.
الدلالات التربوية للرحمة في القرآن الكريم
الرحمة من الصفات الخلقية العظيمة، التي لا يمكن أن تصلح حياة البشر بدونها، وبها يعم الإحسان والعطف والرأفة بينهم؛ لأنها (رقة في النفس، تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه).وهي خلق خاص في طبيعة النفس السوية، وهي خلق متعدٍ يحث على نفع للآخرين؛ فالرحمة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة.
واقترنت الرحمة بالقرآن الكريم، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58)، بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به.ففي الآية تربية على ميادين الفرح الحقيقي، وهو التمسك بالقرآن، والعمل به، فهو الرحمة، وهو الفضل من الله.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51)، فالقرآن فيه الكفاية والرحمة، وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير، والخير الغزير، وتزكية القلوب والأرواح، وتطهير العقائد، وتكميل الأخلاق، والفتوحات الإلهية والأسرار الربانية.
أولًا: تربية عقدية:
من الأصول العقدية التي يربى عليها المتعلمون، أن رحمة الله واسعة، قال تعالى: {... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ...} (الأعراف: 156)، فهي تشمل جميل المخلوقات، من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه.
ومن الأمور التي يحتاج الجيل أن يتربى على التعلق بالله في كل أمورهم، وأن يبتغوا الفضل والخير والنصر من الله، قال تعالى: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً...} (الأحزاب: 17)، فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلا هو.
والتربية على طلب الرحمة والمغفرة من الله، وعدم اليأس أو القنوط، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ...} (الزمر: 53) أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا: قد كثرت ذنوبنا، وتراكمت عيوبنا.وممِا يبعث الأمل في نفوس المذنبين، قوله ﷺ: «إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش».
ثانيًا: تربية إيمانية:
الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولذا كانت التربية المستمرة على الإنابة والتوبة، قال تعالى: {...كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 54)، فهي دعوة من الرحيم سبحانه لكل من ارتكب المعاصي أن يبادر للتوبة، أوجبها على نفسه الكريمة، تفضّلًا منه وإحسانا وامتنانًا.
وفي القرآن إشارة إلى اصطفاء أنبياء الله ورسله برحمة خاصة، قال تعالى: {...وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة: 105)، والتصديق بالأنبياء من أركان الإيمان، التي لا يصح إيمان المسلم إلا بتحقيقها والإيمان يزداد بالعمل الصالح، وفي الآيات تربية على التنويع في الأعمال الصالحة، وتعليق القلوب بالجنة، وقد كان من رحمته ﷺ بأمته، وبأصحابه، ألا يختموا القرآن في أقل من ثلاث، ونهى معاذ رضي الله عنه أن يطيل في صلاته بالناس إمامًا، كما أنه خشي ﷺ أن تفرض صلاة التراويح في رمضان على أمته، فتوقف عن أدائها في المسجد، وهذه كلها جوانب عملية في التربية على الرحمة، ومن دلالات رحمته ﷺ بأمته في الصلاة، قوله ﷺ: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجة».وفي الآيات التربية على الحرص على ثواب الله، والتعود على الإحسان بجِميع صوره، قال تعالى: {...إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56).ﷺ
ثالثأ: تربية خلقية:
في آيات الرحمة، تربية على العطف والمودة في المجتمع المسلم، وتقوية أواصر المحبة بين أفراده، ويضرب القرآن مثلًا بالنبي القدوة محمد بن عبد الله ﷺ، وصحبه الكرام رضي الله عنهم، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)، يقول ابن سعدي: «أي: متحابون، متراحمون، متعاطفون كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق».
وأكد نبينا ﷺ على هذا المعنى، في قوله: «مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى».يقول النووي: تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم، والتعاضد، في غير إثم ولا مكروه.
رابعًا: تربية اقتصادية:
تربى آيات الرحمة على طلب النعم والرزق من الله، قال تعالى: {قلْ لوْ كنتم تمْلكُونَ خَزائنَ رحْمةِ رَبّي إذًا لَأمْسَكْتمْ خَشْيةَ الِإنْفَاقِ وكَانَ الِإنسَانُ قَتورا} (الإسراء: 100) فيها أيضًا التربية على طلب المنافع والأرزاق بأنواعها من الرزاق سبحانه وتعالى، قال تعالى: {مَا يفْتحِ الله للناسِ مِنْ رحْمةٍ فلَا مُمسِكَ لَها وَمَا يُمسِكْ فلَا مُرسِلَ لهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزيزُ الْحَكِيمُ} (فاطر: 2)، يقول الطبري: «وهو العزيز في نقمته، بحبس رحمته عنهم وخيراته، الحكيم في تدبير خلقه وفتحه لهم الرحمة، إذا كان فتح ذلك صلاحًا، وإمساكه إياه عنهم إذا كان إمساكه حكمة».وأرزاق الله كثيرة، لا تعد ولا تحصى، فمنها الصحة والعافية، والعلم والفقه، والمطر والثمار، والمال والجاه، والزوجات والأولاد، وغير ذلك كثير.
ومن رحمته ﷺ بالوضع الاقتصادي لأصحابه، ما حصل مع كعب بن مالك رضي الله عنه، ففي السيرة أن كعب بن مالك رضي الله عنه قال لرسول الله ﷺ: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال عليه الصلاة السلام: «امسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.فالمال قوام الحياة، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش في هذه الدنيا بلا مال يتمول به، ورسول الله ﷺ في هذا الموقف أرحم بكعب بن مالك من كعب بنفسه، وأرحم بعيال كعب من رحمته هو بعياله.
الرحمة في العملية التعليمية في المحاضن القرآنية
ينبغي لمعلم القرآن أن يمارس أنشطة ومهارات التدريس الفعال في الحلقات القرآنية، ويراعي جانب الرحمة في أدائها؛ لكي ينجح في مهمته أيما نجاح، وينبغي أن يكون تعليمه سهلًا ميسرًا، وألا يشدد على طلابه، وألا يكون عسيرًا في توجيهاته وإرشاداته، ويعمل بطلب نبي الله موسى لأستاذه الخضر عليهما السلام، حين قال له: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (الكهف: 73).
ومن مظاهر الرحمة في العملية التعليمية:
- الرحمة في التخطيط للدرس؛ لأن الخلل في الإعداد يؤدي إلى حدوث بعض المشكلات والعوائق التي تحول دون تحقيق الأهداف، ويؤثر على استيعاب الدارسين وإقبالهم على الحلقات القرآنية.
- الرحمة في إعطاء المنهج المقرر: ومن ذلك الاهتمام بشرح الدروس، ومساعدة الدارسين على الاستيعاب الجيد للآيات المطلوب دراستها أو حفظها، ومن الطرق في ذلك:
- بيان معاني الآيات إجمالًا، والمفردات الصعبة أو الغريبة الألفاظ، ولا بد للمعلم أن يكون متوازنًا في تدريس أحكام التجويد؛ فلا ينبغي الإسراع في تدريس مقرر التجويد للطلاب، وذلك بألا يعطي الطالب حكمًا جديدًا قبل أن يتقن الحكم السابق– نظريًا وعمليًا– وإلا صار كمن يدخل الطعام على الطعام.يقول الأندلسي: «ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإن ازدحام الكلام مشغلة للفهم».والرحمة بالدارسين تستلزم أحيانا أن يعيد المعلم الدرس ويكرره أكثر من مرة، ولا يكتفي بالمرة الأولى.
- الرحمة في اختيار الوسيلة التعليمية المناسبة؛ فالوسيلة لها أثرها في تسهيل العملية التعليمية، وهي تقلل من الجهد المبذول من المعلم، فيرحم نفسه، وهي أيضًا رحمة للمتعلمين، يقول ابن جماعة: «على المعلم أن يصور المسائل ثم يوضحها بالأمثلة، وذكر الدلائل».
- الرحمة في التقويم: فيراعي إتقان الحفظ عند تسميعه للطلاب، ولا يَأمل على حساب الجودة، أما إن كان حفظه ضعيفًا، فمن الرحمة به أن يُعطى فرصة للمراجعة وتثبيت الحفظ.ومن الرحمة المطلوبة أن يكون المعلم حازمًا في متابعة الحفظ والتسميع، ولا ينبغي بحال من الأحوال أن يقوم المعلم بالتهاون في عملية التسميع، فلا يحاسب على الأخطاء، أو يَكِل المهمة إلى الطلاب.
- تعريفهم بالوسائل المعينة على إتقان الحفظ وتثبيته، وتزويدهم بالخبرات النظرية والعملية في ذلك.
- الرحمة في التكليف بالواجبات المنزلية: فالواجبات المنزلية تساعد في تثبيت المعلومات، وتنمية المهارات القرائية والكتابية، ولكنها ينبغي أن تكون بقدر معقول، وأن تعطى باعتدال؛ لأنه ربما كان عند التلاميذ واجبات مدرسية أو ارتباطات أسرية أخرى.ومن الرحمة ألا يكون هدفها التهديد أو العقوبة، وإنما وظيفتها إفادة التلاميذ وتحقيق الأهداف التربوية.
- الرحمة في طرح الأسئلة في اللقاءات القرآنية: فالأسئلة تقوي الانتباه، وتُذهب الشرود والغفلة أثناء الدرس، ولكن ينبغي أن تكون مغلفة بالرحمة، والحرص على تحفيز التلاميذ وإقبالهم على التعلم، فمن الرحمة أن تكون الأسئلة مناسبة لقدراتهم المعرفية وخبراتهم العملية، فلا تكون صعبة أو معقدة أو غامضة، فيصابون بالإحباط والعجز، ومن الرحمة أن تكون الأسئلة متنوعة، ومختلفة الصياغة، وتناسب جميع المستويات، فتراعي قدرات الطلبة ضعيفي القدرات الذهنية، وتستثير مواهب وطاقات المتفوقين.
- الرحمة في الإجابة على أسئلة الطلاب: على المعلم المربي أن يتيح المجال لطلابه أن يطرحوا أسئلتهم، وذكر ما يدور في خواطرهم من إشكالات وتساؤلات، سواء عما جهلوه، أو لم يفهموه في موضوع الدرس، أو في مواضيع أخرى يحتاجون إليها، ومن الرحمة بهم ألا يكبت في نفوسهم هذه التساؤلات، وألا ينهرهم أو يوبخهم.
التربية على الرحمة في العملية التربوية في المحاضن القرآنية
تعد الجوانب التربوية في التعليم من الأسس الضرورية المكملة لتكوين شخصية المتعلم، وتساعد في تنمية مهاراته وميوله واستعداداته؛ لأنه أصبح من المقرر أن المعلم لا يُعلم بقدرته على الحفظ، وفهم مادته وإتقانه لمخارج الحروف فحسب في مادة القرآن مثلًا، وإنما يعلم بطريقته وأسلوبه وشخصيته، وعلاقاته مع تلاميذه داخل الحلقات القرآنية وخارجها.وللرحمة مجالات عديدة في العملية التربوية في المحاضن القرآنية، ومنها:
- الرحمة في مراعاة الحاجات الفطرية: وهي الحاجات العضوية؛ وتتمثل هذه الحاجات في الطعام، والشراب، والراحة، وقضاء الحاجة.فالرحمة في توفير هذه الحاجات في المحاضن القرآنية، وألا تكون الفصول الدراسية والحلقات شديدة الحرارة أو البرودة، أو شديدة الازدحام بكثرة الطلاب، ومن الرحمة بالطلاب أن توفر لهم المقاعد المريحة، ودورات المياه الكافية، ويعطون فترات الراحة المناسبة.
- الرحمة في مراعاة الحاجات النفسية: وهذه الحاجات تجعل المتربي متوافقًا مع نفسه، ومع من حوله، وقادرًا على مواجهة المشكلات وحلها، وتتمثل الحاجات النفسية في الحاجة إلى الأمن، والحاجة إلى الحب والتشجيع، والحاجة إلى التوجيه والنصح والحاجة إلى الانتماء الاجتماعي، والحاجة إلى المعرفة.ومن الرحمة بالطلاب تقوية العلاقات الاجتماعية فيما بينهم؛ كي تسود روح الأخوة فيما بينهم، ولا يحدث النزاع والتنافر.
- الرحمة في مراعاة التدرج التربوي: فالتدرج يراعي اختلاف القدرات والمواهب والأعمار، ويكون التوجيه بحسبها، وتكون المناهج كذلك، يقول الإمام الماوردي: «واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، وليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخر قبل الأول، ولا الحقيقة قبل المدخل».فالرحمة بالمتعلم تتطلب عدم الاستعجال في تعليمه، أو تكليفه بحفظ ما لم يتأهل له، أو إلزامه بفهم المقاصد قبل فهم المقدمات.
- الرحمة في مراعاة الفروق الفردية: هناك فروق واضحة في طلاب المحاضن القرآنية، من حيث القدرات، والاستعدادات، والذكاءات، والخبرات، وهناك فروق بينهم في الطبائع والأجسام والعادات، يقول النووي: «وينبغي أن يكون المعلم حريصًا على تفهيمهم، وأن يعطي كل إنسان منهم ما يليق به، فلا يكثر على من لا يحتمل الإكثار، ولا يقصر لمن يحتمل الزيادة». والرحمة تقتضي حسن التعامل مع هذه الفروقات، لأن عدم مراعاتها قد يسبب أمراضًا نفسية ومشكلات اجتماعية، وسلوكيات منحرفة، يقول الغزالي: «كما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، وكذلك المربي لو أشار على التلاميذ بنمط واحد من الرياضة– أي: التربية– أهلكهم وأمات قلوبهم».
- الرحمة في الثواب والعقاب: فالرحمة في الثواب أن يكون بقدر مناسب؛ حتى لا تكون له آثار عكسية، والرحمة في العقاب بألا يكون هدفه التشفي والانتقام، وإنما من أجل تعديل السلوك، وبعد استنفاد الوسائل السلمية كالعفو والتغافل، تقول غادة الطاهر: «ولا يُفهم من هذا الدعوة إلى التساهل مع الطالبات وتدليلهن، وتجاهل أخطائهن، ولكن المعنى أن التوجيه وإن كان قاسيًا فلا بد أن يكون مصحوبًا بالمحبة، والرحمة، والشفقة، لتشعر المتعلمة أن المعلمة تعمل لمصلحتها، فلا تنصرف حسيًا أو معنويًا عن الحلقة، نتيجة شعورها بالخوف والرهبة، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله».
أساليب التربية على الرحمة في المحاضن القرآنية
الأساليب هي الطرق والوسائل التي يتبعها المربي لغرس القيم والعادات في نفوس المتربين، وللتربية على الرحمة أساليب متنوعة، منها ما يلي:
- الدعاء: يبذل العقلاء الأسباب لنيل مُرادهم، ولا شك أن جميع الأمور تتحقق بإرادة الخالق سبحانه، فكما أن المربي يدعو لنفسه، فهو كذلك يدعو لمن يربيهم ويحرص على هدايتهم ورقيهم الدنيوي والأخروي، وخُلُق الرحمة من أهم الصفات التي يحرص على تربيتهم عليها، وتحليتهم بها، وقد علمنا القرآن ذلك في قصة أصحاب الكهف، قال تعالى: {...رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (الكهف: 10)، وقال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران: 8).
- تدبر آيات الرحمة في القرآن الكريم: فالطلاب في المحاضن القرآنية يتلون الآيات ويحفظونها، ولا بد من التركيز على آيات الرحمة بصيغها المختلفة، والوقوف عند ألفاظها، وتدبرها، لمعرفة معانيها، وفهم مدلولاتها، واستنباط الفوائد والعبر منها، وبيان ما فيها من الأحكام والدلالات.
- السرد القصصي: القصة أسلوب شائع في غرس القيم وتغيير السلوك.وقد استفاضت السنة النبوية والسيرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، بالقصص والمواقف المتنوعة، التي تبين أحداثها خلق الرحمة الذي اتصف به نبينا ﷺ وأصحابه الكرام، أو تدعو إلى الرحمة وتحث عليها، فهو ﷺ كما وصفه ربه سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128).
- أسلوب القدوة: فلا بد أن يكون المعلم قدوة حسنة لطلابه، بأن يكون رحيمًا في تعامله معهم، ويتجنب الشدة والغلظة، فيستميل قلوبهم، ويتجاوز عن أخطائهم، ويتغافل عن مثالبهم، ويوجههم بأسلوب الأب الرحيم المشفق، والرحمة من المعلم القدوة تكون في الصبر على تعليمهم، واحتمال الصبر في تأديبهم، سواء كانوا من أصحاب القدرات الذهنية المحدودة، أو كانوا من الدارسين غير العرب، الذين يعانون في إخراج الحروف العربية من مخارجها، ويتأثر المتربي بالسيرة الحسنة، التي تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي، لأن المثال إلى المرتقي في درجات الكمال يثير في نفس البصير العاقل قدرًا كبيرًا من الاستحسان، والإعجاب، والتقدير، والمحبة، ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة المحمودة، والمنافسة الشريفة.
- أسلوب التربية الذاتية: فلا بد من وجود الدافع الذاتي للتحلي بهذه الصفة، ودور المربي أن يحث طلابه على مجاهدة النفس، واتباع السبل لتحصيل هذه القيمة الخلقية، فالرحمة خُلُقٌ يكتسبه العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أَجَلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثوابت، فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك، ويعلم أن الجزاء من جنس العمل.
- الممارسة العملية: لا يكفي أن تُعطى المعلومات النظرية عن أهمية الرحمة وفضلها، بل ينبغي أن تكون هناك برامج عملية، وأنشطة واقعية، للقيام بممارسات تطبق مفهوم الرحمة، والممارسة تُكسب المتربي التعود والاستمرار، ولو كان الأمر شاقًا في بدايته.وأثبتت الدراسات والواقع أن التدريب العملي والممارسة التطبيقية ولو مع التكلف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى، من الأمور التي تكسب النفس الإنسانية العادة السلوكية.ومن الممارسات العملية للرحمة في المحاضن القرآنية، رعاية الطلاب الأيتام، وذوي الاحتياجات الخاصة، والاختلاط بالضعفاء والمساكين، وذوي الحاجة، فإنه مِا يرقق القلب، ويدعو إلى الرحمة والشفقة بهؤلاء وغيرهم.
- الترغيب والترهيب: فمن الأساليب التربوية حث المتربي على التحلي بالصفات الإيجابية، والتخلي عن الصفات السلبية، فالمربي يحث طلابه على الاتصاف بالرحمة، ويرغبهم فيها، ويبين لهم النصوص الحاثة على ذلك، ويبين لهم الأجر العظيم والثواب الجزيل للرحماء، كما يبين لهم سوأة عدم الاتصاف بالرحمة، ويكفي أمثال هؤلاء القساة أنهم مبغوضون من الله والخَلْق.
- التربية بالأحداث: إن بقاء المتربين في تلك المحاضن القرآنية، يؤثر في سلوكهم وأخلاقهم، سواء من خلال المعايشة القرآنية المستمرة، أو من خلال الاختلاط بالأساتذة والأقران، والمربي الناجح يستثمر الأحداث والأحوال التي يعايشها مع طلابه في توجيههم وتربيتهم.
- أسلوب الوعظ: للوعظ دور مهم في تعديل السلوك، وتحريك القلوب، ومن خلاله يكتسب المتربي السلوك المرغوب، والمربي يستخدم أسلوب الموعظة مع طلابه، كما استخدمها لقمان مع ابنه، وفي الالتزام بمواعظ القرآن، تكمل أخلاق الإنسان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58).وفي الموعظة تعريف بجزاء الرحماء وثوابهم، وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم، وتعريف بعقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية، فإن هذا مِا يدفع للتخلق بصفة الرحمة، ويردع عن القسوة.
الآثار التربوية للرحمة في المحاضن القرآنية
- محبة الله سبحانه وتعالى، ونيل رحمته: فإذا التزم أهل القرآن بالرحمة وأحسنوا في تعليمهم وتربيتهم وإدارتهم للمحاضن القرآنية، نالوا رحمة الله، قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 58)، وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله، والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بالخلق.
وبشر النبي ﷺ من يرحم غيره برحمة الله له، قال ﷺ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ».
- العمل بالقرآن، والتأسي بآدابه، وخاصة أهل القرآن، فإن من يعلم القرآن ينبغي أن يكون أول المؤدين لأوامره المنتهين عند نواهيه، ومعلم القرآن يستخدم أسلوب الرحمة في تعليمه وتربيته، ولا يكون تعليمه مجردًا من العواطف والأحاسيس، والمعلم المربي يعزز توجيهاته وتعليمه بالأخلاق الفاضلة، وخاصة الرحمة، ويتجنب التعزيز السلبي؛ لأن الأسلوب التربوي الجاف في التربية، والتعليم، والحفظ يؤدي إلى نتائج سلبية، تضعف التأثر الوجداني والسلوكي عند المتلقي، لا سيما في الحلقات القرآنية.
- تقوية أواصر المجتمع المسلم، وتَماسكه، وتعاونهم لخدمة أنفسهم ومجتمعاتهم، فالرحمة في المحاضن القرآنية تعتبر نموذجًا يُحتذى به، ومنها يتخرج القدوات والمبدعون، ومن هنا كان الحفاظ على القرآن وحفظه واجب جماعي يلزم كل المسلمين، لأنه دستور الأمة ورمز قوتها، ومنبع عزتها، وكان الاهتمام به وبتعليمه في كافة مراحل التعليم سمة من سمات المجتمع المسلم.ففي التربية على الرحمة تقدم المجتمع وتطوره، لأن انتشار حفاظ القرآن، المتأدبين بآدابه، يساهم في إيجاد السواعد البناءة، الجادة في تفكيرها واهتماماتها، فيكونون عوامل قوة وازدهار للأمة والمجتمع.
- تربية النفس على الرحمة: عن عائشة رضي الله أن النبي ﷺ دخل عليها وعندها امرأة، قال: «من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تَملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه».
- تحقيق الأمن النفسي: فمن عاش في رحاب المحاضن القرآنية، وتربى على الرحمة، فإنه يتشربها في شخصه، ويتمثلها في سلوكه، ويستشعر أثرها في حياته كلها، ويجد الراحة النفسية والحلول الناجعة لكل ما يواجهه من معضلات وأزمات، قال تعالى: {...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89)، ومن تربى على الرحمة فإنه يشعر بالأمن والطمأنينة النفسية، والسكينة القلبية، غير خائف ولا قلق.
دور مسؤولي المحاضن القرآنية في التربية على الرحمة
ينبغي أن تسود الرحمة في شخصيات جميع المنتسبين والمسؤولين في المحاضن القرآنية، سواء كانوا من المعلمين، أو المشرفين، أو أعضاء الهيئة الإدارية، أو غيرهم، وينبغي أن يتواصوا بالرحمة في جميع الأنشطة والبرامج الصفية وغير الصفية، ويظهر أثرها في جميع من يتعاملون معهم من الأقارب والأباعد.
وقد أثنى الله على عباده المتصفين بالرحمة، في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (البلد: 17-18)، قال الطاهر بن عاشور: «خص بالذكر من أوصاف المؤمنين، تواصيهم بالصبر، وتواصيهم بالمرحمة، لأن ذلك من أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها، لأنها لا تخلو من كبح الشهوة، وذلك من الصبر، والمرحمة، ملاك صلاح الجماعة الإسلامية، والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضًا كناية عن اتصافهم بالمرحمة، لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يوصى بها.
وإذا غابت الرحمة عاد ذلك بالسلب على الدارسين والدارسات في الحلقات القرآنية والدور النسائية، وتُبين إحدى المربيات أهمية الرحمة في المحاضن القرآنية، وإذا عومل المتعلمون بالقسوة، فإن لذلك نتائج سلبية، ولفقدان خلق الرحمة في العمل التربوي أثرًا سلبيًا على سلوك المتعلمة، قد يصل إلى كراهية المعلمة، أو من ينتسب إلى مجتمع الحلقات القرآنية.. ومن الآثار السلبية تسرب الطالبات منها، ونقل صورة سلبية عنها للآخرين.
ولا بد أن تعتمد الجهات المشرفة إقامة الأنشطة الاجتماعية للشباب، تحت إشراف الأساتذة الأخيار والمشرفين الغيورين في تلك المحاضن؛ فهم في حاجة إلى رحمة تنقذهم من فتن الشهوات، ووسائل الترويح المحرمة، والمتوفرة بكثرة في كثير من البلدان، بفعل وسائل الإعلام، وشركات السياحة، والدعاية، ودور الأزياء، وما تضطلع به من دور سيء في محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة.
ومِا يعزز دور المسئولين في تلك المحاضن، وتثبيت مفهوم الرحمة في نفوس الدارسين، ما ينبغي أن يقوم به أولياء الأمور من ممارسات تربي على الرحمة، ومن أهم هذه الممارسات: صلة الأرحام، وقد جاء الحث على ذلك في كتاب الله، قال تعالى: {... وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ...} (الأنفال: 75)، فالواجب على الوالدين تربية أولادهم على صلة الأقارب من جهة الأب أو الأم، وحث نبينا محمد ﷺ على صلة الأرحام، فهي مِا يحبه الله، وتجلب الرحمة، والخير الدنيوي والأخروي، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».
طالع الدراسة كاملة: التربية على الرحمة في المحاضن التربوية
.