ثماني سنوات مرت من عمر ثورة شعب.. ثماني سنوات انقضت على أحداث ثورة 25 يناير التي غيرت مجرى التاريخ، وأثبتت أن الشعوب بيدها تستطيع أن تنتزع حريتها إذا توحدت.
عاش الشعب المصري ثمانية عشرة يومًا في ميدان التحرير بحلوها وألمها، وضحت فيه أخلاق شعب عرف معنى التلاحم والتكافل، والتضحية كي يحيا وطنه كريمًا عزيزًا.
لقد كان الميدان مشهدًا واضحًا من أخلاق تربى عليها شعب تحت سنوات القهر والظلم، ومع ذلك ظل محافظًا على بصيص الأمل من هذه الأخلاق.
لقد كان الميدان مسرحًا لمعاني كثيرة من المعاني الأخلاقية مثل الحب والتآخي والتكافل والتراحم والتعاون والتضحية والوحدة والغيرة والحرص على إقامة شعائر الإسلام، حتى أن الأذان كان يصدح مجلجلًا في كل ركن من أركان هذا الميدان الذي احتوى في داخله آلاف الشباب وكبار السن والأطفال والنساء من كل حدب وصوب، انتفضوا ليزلزلوا أركان الحكم الاستبدادي ومن خلفه عروشًا أقيمت على أجساد وعرق الضعفاء.
لقد كيلت الاتهامات لهؤلاء الأحرار الذين خرجوا بصدور عارية من أجل أن تعيش مصر حرة، وطعنت في أخلاقها، وتبارت عليها الأقلام في محاولة لتدنيس أخلاقهم، إلا أن الواقع الذي ظهر خلال الأيام الثامنة عشرة كانت غير ما روج، حيث ذابت الفوارق بين الجميع، وانصهروا كلحمة واحدة، وسمت أخلاقهم حتى أزالوا عرش الحاكم المستبد.
لقد كانت هذه الأخلاق العملية التي ظهرت كطيور ترفرف في سماء الميدان ومنها:
- إعلاء مصلحة الوطن: كان الذين دعوا إلى الانتفاضة ضد الظلم والذين شاركوا والذين اعتصموا يعلون مصلحة بلادهم فوق مصالحهم الشخصية والمذهبية، فلم نرى من يرفع شعار حزبه أو جماعته، لكن الجميع رفع أعلام وطنه، وهو ما ساعد كثيرًا على التلاحم القوي بين الجميع وتقارب وجهات النظر– وهو للأسف ما تغير بعد نجاح الثورة في إزاحة النظام- فتعاليم الدين الإسلامي الحنيف تحُث على حب الوطن، وإعلاء مصلحته فوق أيّ مصلحة أخرى، والمساهمة في نهضته وتطوّره، وهذا ما رأيناه في الميدان.
- التآخي: لم يشعر أي واحد وصل الميدان منتفضًا ضد الظلم والطغيان بالغربة في الميدان، بل كان يشعر بأن الجميع من لحمه ودمه، فكان يشعر بحنين شديد لكل من يلقاه في الميدان، بل كان يأمن على نفسه وأهله وهو وسط الميدان، حتى أن الجميع– من فرط خوفهم على بعضهم– أن من في الميدان أسرة واحدة. وصدق الله العظيم إذ يقول:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وصدق الهادي البشير ﷺ الذي قال: «مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تَداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى» (رواه البخاري ومسلم)
- التكافل: رغم لغات التهديد، بل وهجمات أنصار النظام المتكررة، والتحرش بكل من في الميدان، إلا أنه لم يشعر أحد منهم بالجوع أو التفرقة، فقد كان الجميع يفيض على من حوله بما تجود به نفسه، بل أحيانًا كنت تدخل خيمة جارك لتجده يعد لك ما يقوى به صلبك، وعلى الرغم أن أيام الميدان كانت أيام برد وخوف وفزع إلا أن الجميع لم يشعروا ببرودة الجو لتلاحم الجميع حول أعواد النيران التي أحييت أخلاقهم، وحاول الجميع تحقيق المصلحة الخاصة مكملًا للمصلحة العامة، وتحقيق المصلحة العامة متضمنًا لمصلحة الفرد، وصدق الله العظيم: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وصدق النبي الأمين صلى الله عليه وسلم الذي قال:[ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى] (رواه مسلم)
- التجرد: كانت الشوارع تموج بالأعداد وكأنها أمواج بحر منهدر لتبلغ الميدان، والذي كانت تحوم حوله سحائب التهديد من قبل رجال النظام، فانتفض شباب وكبار السن متجردين لله لا ينتظرون ثناء ولا مدحًا، ليأمنوا الميدان في كل ركن من أركانه، فكان من يقف على المداخل يؤمن بروحه حياة من بالداخل بصدق نيته مع الله، وبتجرده، وكم كان من في الميدان ينام وهو مطمئن إلى من يحميه بنفسه وماله، لقد برزت معاني التجرد والتي وصفها الإمام البنا بقوله: «أريد بالتجرد: أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص؛ لأنها أسمى الفِكَر وأجمعُها وأعلاه». وصدق الحق سبحانه الذي قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
- النظام: رغم أن ميدان التحرير– على صغره– كانت تغشاه آلاف البشر، بل قل الملايين، إلا أنه لم يحدث خلل في نظام السير أو الحياة أو المعيشة، بل تكفل كثير من الرجال على تنظيم شئون الميدان وتنظيفه الدائم، وتجهيز أماكن قضاء الحاجة، وتوفير سبل المعيشة، في رسالة للجميع أن الشعب إذا أراد فعل بأخلاقه ما لا تسعه السياسة بأعمالها.
- تعظيم شعائر الله: قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، بهذه المعاني ارتفعت أصوات الأذان في الميدان، بهذا التعظيم اصطفت أجساد وقلوب الجميع بين يدي رب العالمين، بهذا التعظيم ارتفعت أكف الضراعة تلجأ إلى الله مولاهم أن يقدر لهم الخير فيما يقومون، بهذا التعظيم وقفت كثير من القلوب بين يدي ربها في خلوات الليل تبكي مستنجدة به فهو الواحد القهار، بهذا التعظيم عرف الميدان كثيرًا من شرائع الإسلام كصلاة الخوف، وصلاة الليل، وصلاة الفجر، وغيرها، وصدق الله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
- التعاون والعمل الجماعي: لم يستطع أحد أن يحصر الأعداد التي تواجدت في ميدان التحرير وبقية الميدان، إلا أن السمة التي كانت بارزة هي علو خلق التعاون والعمل الجماعي، لقد كان الميدان يضم أطيافًا وجماعات وأفراد من مختلف التوجهات، سواء الإسلامية أو الليبرالية أو اليسارية أو الأقباط أو غيرهم، إلا أن السمة البارزة هي تعاون الجميع على إنجاح ثورتهم، حيث ذابت الفوارق بين الجميع في أيام الثورة، فكان التعاون بين الجميع في كل شيء، وكان واضحًا ذلك جليًا وقت التصدي لغزوة الجمل، حيث تلاحمت الأجساد وتعاونت لصد هذه الهجمات، وكان الجميع يلتزم بما تقوله المنصة لتأكيد التلاحم الجماعي تحت صوت واحد فقط، وصدق الله العظيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، لقد حرص الجميع على العمل الجماعي والتفاني في الحفاظ على وحدة الصف؛ لتحقيق هدف واحد من خلال الأفكار المشتركة بين المتواجدين، رغم اختلاف مذاهبهم واعتقاداتهم الفكرية، يأتي هذا برفض الشائعات وعوامل الإحباط التي ينشرها البعض في محاولة منهم لتفريق صفوف المعتصمين داخل الميدان.
إن الأخلاق التي برزت في ميدان التحرير كانت كثيرة، سواء كانت جماعية أو فردية، إلا أن المعاني التربوية التي تجلت في هذه الأيام كانت من الأسباب الرئيسية لانتصار هذه الثورة، وهي الأخلاق التي تلاشت بعد أن عاد كل فرد إلى بيته، فظهرت المذهبية والأنانية وتعالى الشباب والتخوين وبذاءة اللسان والتي جعلتنا نتحسر على أخلاقنا التي كانت في الميدان.
.