تتطلب الأهمية التي تحتلها الأهداف في توجيه نشاط الأفراد وعمل المؤسسات وحياة المجتمع كله تحديدًا وإيضاحًا لها من جانب الأفراد والعاملين في المؤسسات، ومن جانب الساسة والمفكرين والمخططين وغيرهم.
فالمفكرون والفلاسفة والمصلحون يبحثون دائمًا في أوضاع المجتمع، ويحاولون البحث عن أفضل صورة للمستقبل؛ ولهذا كان تركيزهم على الأهداف وعلى ما يرتبط بها من قيم واتجاهات، وما تتطلبه من وسائل، ومن بينها التربية.
وفى دراسة له بعنوان (أهداف المدارس الإسلامية) -1992-، يرصد الباحث التربوى الدكتور سعيد إسماعيل علي، الأهداف التربوية للوحدات التعليمية؛ من مدارس ومعلمين ومربين في حاجة إلى تحديد أهدافهم وقياس مدى تقدمهم مع طلابهم نحو هذه الأهدف.
أولًا، مصادر اشتقاق أهداف التربية الإسلامية
لعلنا هنا نأتي إلى ما يمكن تسميته (ببيت القصيد)، ذلك أن نوعية المصدر هي التي تحدد نوعية الهدف واتجاهه. وربما لا نجد اختلافًا إذا تساءلنا عن (أهداف التربية الإسلامية) إلا قليلًا، لكننا إذا تساءلنا عن مصادر اشتقاق أهداف التربية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فها هنا لابد أن نجد الاختلاف والتباين بين (علمانيين) و(إسلاميين)، فالفريق الأول ينظر إلى العقيدة الدينية على أنها أحد المصادر، بل وربما يحصر هذا المصدر فيما يتصل فقط بمقرر خاص عن الدين، ومن جهة أخرى يجعل (الدنيا) -متمثلة في الواقع الاجتماعي بمشكلاته ومقوماته- المصدر الرئيسي لاشتقاق الأهداف.
ونحن بطبيعة الحال لا يمكن أن نتغافل الحاجات والمشكلات الاجتماعية ومقومات الاجتماع البشري عند اشتقاق الأهداف التربوية، لكننا إذ نضعها في الاعتبار، فإنما عن طريق تأطيرها بالإطار الأم والمصدر الكلي وهو العقيدة الإسلامية، فالإسلام هو المصدر الأساسي الذي يستمد منه المجتمع الإسلامي فلسفة تربيته وأهدافها وأسس التخطيط لمستقبلها وأسس مناهجها وطرق تدريسها ووسائلها وأساليب إدارتها ونظمها.
1- وأول مصدر، بل وأصل المصادر كلها، القرآن الكريم؛ وليس القرآن مجرد كتاب يلتزم منهجًا واحدًا لبيان تشريعاته، وليس مجرد كتاب أدب يبغي هز المشاعر والأحاسيس وإثارة الأخيلة، وإنما هو كتاب لتربية الناس، ينوع من أساليبه باختلاف المواقف والموضوعات، فلم يعبر في كل أمر واجبٍ بمادة الوجوب، ولا في كل ما هو محرم بمادة الحرمة، بل تراه يعبر طورًا عن الواجب بصفة الأمر بالفعل كما في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها}، وطورًا يعبر عنه بأنه الفعل المكتوب، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، وتارة يدل على الوجوب بما يترتب على الفعل في الدنيا أو الآخرة من خير.؛أما ترتب الخير على الفعل في الدنيا، فمثل قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب}، وأما ترتب الخير على الفعل في الآخرة، فمثل قوله تعالى: {...ومن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلًا}.
ولهذا الأسلوب قيمته التربوية الكبرى؛ فالإنسان- كما نعلم- لا يميل إلى الأسلوب المباشر في النصح والإرشاد، ويحب دائمًا أن يشعر أنه عندما يأتي فعلًا طيبًا، فإنما يفعل ذلك بدافع داخلي لا بناء على أوامرٍ ونواهٍ. ومع أن المربي هنا هو الله سبحانه وتعالى مما يوجب على الإنسان أن يستمع إليه وينصاع بما يأمره به وينهاه سبحانه عنه، إلا أنه يخاطبه بما هو مفطور عليه بغير قهر أو قسر، فكأنه بذلك يبين للإنسان أيضًا ضرورة أن يسلك مثل هذا السلوك في دعوته لغيره من الناس وفي تربيتهم وتعليمهم حتى يأتي بأحسن النتائج. وقد حوى القرآن الكريم تصورات متكاملة عن جوانب حياة الإنسان، وصلاته بالكون والحياة، والخالق، وتصورات متكاملة عن طبيعة الإنسان نفسه، كما حوى إطارًا للمعرفة والقيم، وتصورات كلية أساسية عن المجتمع وغير ذلك مما يعتبر في التحليل النهائي إطارًا عامًا للحياة والتربية يوضح الهدف من خلق الإنسان ومكوناته، ووظيفته، وقدراته الممنوحة له ليمارس تلك الوظيفة التي خلق من أجلها باعتباره خليفة.
2- أما للمصدر الثاني فهو السنة النبوية الشريفة؛ إذ يمثل الرسول المربي (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم، قمة التكامل الإنساني في الرسالة الإلهية بعد أن تخطت الإنسانية أدوارها الأولى خلال آلاف السنين، وبلغت مرحلة النضوج وكثرت أعدادها البشرية وبالتالي تقاربت أماكن تجمعها.
وقد تمثلت الوظائف التربوية للرسول المربي في تربية الإنسان في الوظائف التالية:
الوظيفة الأولى: هي التبليغ الأمين والكامل لرسالة الله تعالى، بكل ما تحمله الرسالة من أبعاد توجيهية إرشادية في شؤون العقيدة والعبادة والسلوك العام واليومي: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}.
الوظيفة الثانية: القيام بالشرح والإيضاح للمنهج التربوي الإضافي لاسيما في مواطن الإجمال التي قدمها القرآن، فالقرآن هو المنهج الأساسي لتربية الإنسان، والرسول الكريم هو الإنسان الأول الذي يستطيع أن يقدم الفهم السليم والإدراك العميق لمضمون الآيات الكريمة، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}.
الوظيفة الثالثة: هي التطبيق العملي والفعلي المتجسد لمضمون الرسالة التربوية، وهذه إحدى المميزات الكبرى للرسول المربي، والتي يعلو بها ساميًا على غيره من المربين العاديين وهم في كثير من مبادئهم التربوية يكتفون بإلقاء الوصايا والتعاليم على غيرهم دون أن يُلزموا أنفسهم ومن حولهم بها، بل إنهم قد يفعلون عكس اتجاه ما يدعون إليه.
الوظيفة الرابعة: الرسول الكريم ذاته موجهٌ ومربٍ ومرشدٌ ينبغي طاعة أوامره والاقتداء بسلوكه، وقد أمر الله تعالى المؤمنين في القرآن الكريم أن يتقبلوا ما يأتيهم به الرسول، فيجب الإقتداء به وبأقواله وأعماله وسلوكه، واجتناب ما عينّه بنهي، يقول عز وجل: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (32).
ثانيًا، أهداف التربية الإسلامية:
1- التعبد والربانية:
إن (الربانية) من أولى الخصائص العامة للتربية الإسلامية، ويطلق على الإنسان نتيجة هذه التربية أنه (رباني) إذا كان وثيق الصلة بالله، عالمًا بدينه وكتابه، معلمًا له، وفي القرآن الكريم: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.
وربانية الغاية والوجهة تعني أن الإسلام في تربيته يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته، فهذه هي غاية الإسلام، وبالتالي هي غاية التربية ووجهة المدرسة الإسلامية، ومنتهى أمل المتعلم وسعيه في الحياة: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه}، {وأنّ إلى ربك المنتهى}.
فهذه التربية تجعل للمسلم هدفًا رئيسيًا واحدًا طوال حياته، وهو التحقق بالعبودية لله وحده، فيوجه كل طاقاته ونشاطاته نحو ذلك الهدف فيكون ولاؤه لله وخوفه من الله ورجاؤه في الله، وكل أخلاقه وأعماله ظاهرها وباطنها مقصودٌ بها وجه الله وحده: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت...}.
وهذه العقيدة تمكن المؤمن من مواجهة الحياة بروح العبادة، وجهد العمل الصالح، كما تمكنه من التغلب على مصاعبها- مهما تعقدت- بروح الأمل في الله والاستعانة به، والثقة بعدله وحكمته، والرضا بقضائه، وبذلك تحقق له نوعًا فريدًا من سكينة النفس وسلامها الداخلي لا يتحقق للوثني المشرك.
والقرآن الكريم هو أداة المدرسة الإسلامية الأولى حين يتلقاه تلاميذها بقلوب متفتحة فتتلقى منه الشحنة المقدسة التي أودعها الله فيهم: {كتاب أنزلناه مبارك ليدّبّروا آياته وليتذكر أولوا ألألباب}، {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها}.
ومن أجل هذا توجب تربية الإسلام على المدارس قراءة القرآن وتدبر آياته، فهو مَعين التربية الأولى ومَعين الحياة، كما أن للقرآن طريقته الخاصة في لمس القلوب واستجاشة وجدانها إلى حقيقة الإلوهية.
ويرتبط بهذا ارتباطًا وثيقًا أن تربي المدرسة الإسلامية تلاميذها على ممارسة العبادات التي أمر الله بها عز وجل، وقد روى الحاكم وأبو داود عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع».
ويقاس على الصلاة ربط التلميذ بعبادة الصوم إذا كان التلميذ يطيقها، وبعبادة الحج إذا كان الأب يستطيعها، وبعبادة الزكاة إذا كان المربي يقدر عليها.
كذلك لابد من ربط التلاميذ ببيوت الله لما روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان». ذلك أن المسجد من أهم الوسائط التي يتكون من خلالها الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي، ولكي تسهم المدارس الإسلامية في تحقيق هذا الهدف عليها أن تعمل على مساعدة المتعلمين لإزالة العوائق التي تحول دون رغبة المتعلم في الاعتقاد وبخاصة العوائق الأخلاقية، كالتعصب والعناد والتكبر، وكذلك يجب أن تعمل على إزالة العوائق الناجمة عن النظرة المادية الحسية الضيقة للحقائق الروحية فترتفع بمستوى مدارك المتعلمين وتفتح بصائرهم وتنمي عقولهم لإقناعهم بتلك الحقائق وترفع عن أبصارهم الغشاوة المادية ليتمكنوا من رؤية الحقائق الإلهية بعين بصيرتهم.
ويسهم في هذا أيضًا أن تستخدم المدرسة الأدلة التي تقوم على سلامة التفكير الفطري أو التعقل الفطري البديهي كوسيلة للإقناع، مثل الاستدلال بالصنعة على الصانع، وبالأثر على المؤثر.
كذلك ضرورة أن تستخدم الحقائق والاكتشافات العلمية الحديثة للإقناع سواء ما يتعلق من هذه الإكتشافات بالكون أو بالإنسان أو الحيوان أو النبات.
2 - التحرير:
فمن المعروف أن التربية الصحيحة لا تُمكن في ظل مناخ الاستبداد. والحق أن عبيد السلطة التي لا حدود لها هم غير مالكين أنفسهم ولا هم آمنون على أنهم يربون أولادهم لهم، بل هم يربون أنعامًا للمستبدين وأعوانًا لهم عليهم. وفي الحقيقة، كما يؤكد الكواكبي، أن الأولاد في عهد الإستبداد «سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق».
ولما كان الاستبداد له مثل هذه الآثار الممقوتة، حرص الإسلام حرصًا شديدًا على الحرية بمعانيها المختلفة حرصًا يوفر للتعليم مناخًا صحيًا لا مناص منه إذا أردنا له نموًا وازدهارًا والإسلام في هذا قد سبق كثيرًا من المذاهب والشرائع سبقًا غير عادي، ذلك أن الحرية في الإسلام- خلافًا للشرائع الوضعية- ليست حكمًا سياسيًا فحسب، وليست جزءًا من شريعة الإسلام، وإنما هي في الحقيقة جزء من عقيدة الإسلام.
ولقد جاء في تفسير المنار خاصًا بآية الشرك في قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} (النساء:48)، أن الحكمة في عدم مغفرة الشرك هي أن الدين إنما شرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم، والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم، ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائر التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم؛ لأنه عبارة عن رفعهم الأفراد منهم، أو لبعض المخلوقات التي هي دونهم أو مثلهم، إلى مرتبة يقدسونها ويخضعون لها ويذلون بدافع الشعور بأنها ذات سلطة عليا فوق سنن الكون وأسبابه.
والتوحيد الذي يناقض الشرك هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رق العبودية لكل أحد من البشر، وكل شيء من الأشياء الدنيوية، وجعله حرًا كريمًا عزيزًا لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات، فلسننه الحكيمة يخضع، ولشريعته العالية المنزلة يتبع، وإنما خضوعه هذا خضوع لعقله ووجدانه، لا لأمثاله من البشر وأقرانه. وأما طاعته للحكام فهي طاعة للشرع الذي رضيه لنفسه، والنظام الذي يرى فيه مصلحته ومصلحة الشريعة قبل ذلك، لا تقديسًا لسلطة ذاتية لهم، ولا ذلًا لهم واستخذاء لأشخاصهم، فإن استقاموا على الشريعة أعانهم، وإن زاغوا عنها استعان بالأمة فقوّمهم.
لقد اختار الله الإنسان ليعمر هذا الكوكب الذي نعيش على ظهره ونضرب في مناكبه، وما كان له وهو عانٍ موثق ذليل أن يجد لمهمته سبيلا.. ولو أنه قدر لنا أن نرى الأرض قبل أن يفد الإنسان إليها، وكيف أحالها من عماء موحش إلى تحفة تزدان بآثار عقله وما عملت يداه، إذن لآمنّا في بداهة وتسليم بأنه قبس من الإله.
ولقد اختاره أيضًا ليكون خليفته في الأرض ومنفذًا لمشيئته عليها، وأعلن ذلك في كتابه الكريم حين قال سبحانه: {إني جاعل في الأرض خليفة }، (سورة البقرة: 30) ومادام ذلك كذلك، فلا بد أن يتاح لهذا الإنسان من فرص الكرامة والعزة والسيادة، ما يجعله أهلًا لتمثيل إله اتصف بالعزة والكبرياء والسيادة.
كذلك فمن أعظم الآفات العاصفة بالحرية، استعباد المرء لنفسه بأن ينساق وراء شهواته فلا يستطيع عنها حولا، فإذا أصبح المرء عبدًا لنفسه- نعني لأهوائه ونزواته وشهواته ورغباته- سهل عليه بعد ذلك أن يصبح عبدًا لغيره من الناس والأشياء. وهنا نتسائل: ما العلة التي تجعل الإنسان عبدًا وتباعد بينه وبين الحرية أشواطًا واسعة؟
الجواب عن ذلك يكمن في القيم؛ ذلك أن كل واحد منا يعيش في عالم يتصل فيه بأمور شتى؛ فله علاقات مع أهله وإخوانه من صداقات ومعاملات، وله علاقات مع الأشياء المختلفة، كالمال والسلع والأدوات التي يستخدمها في ملبسه ومسكنه ومأكله وغير ذلك. أضف إلى ذلك أنه يتصل بعالم من الأفكار المعنوية والروحية.
وليست الأشخاص والأشياء والمعاني في مرتبة واحدة من ناحية قيمتها بالنسبة للفرد الواحد، ولا هي واحدة من جهة منزلتها بالنسبة للفرد نفسه طوال مراحل نموه.
ولعل هذا ما دفع الصوفية إلى القول: «الحرية ألا يكون العبد تحت رق المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكوّنات، وعلامة صحته سقوط التّمييز عن قلبه بين الأشياء فتتساوى عنده أخطار الأعراض».
ومن هنا يصبح على المدارس الإسلامية ألا تدخر وسعًا في سبيل جعل نظامها والعلاقات التي تسودها، والأساليب القائمة في عملها حربًا عوانا على التبعية في أشكالها المختلفة.
3 - إتمام صالح الأخلاق:
فلقد حدد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته، والمنهاج المبين في دعوته بقوله: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، كما رواه مالك، فكأن الرسالة التي خطت مجراها في تاريخ الحياة وبذل صاحبها جهدًا كبيرًا في مد شعاعها وجمع الناس حولها، لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم حتى يسعوا إليه على بصيرة.
والعبادات التي شرعت في الإسلام واعتبرت أركانًا في الإيمان به ليست طقوسًا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها، كلا فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكًا بهذه الأخلاق، مهما تغيرت أمامه الظروف. إنها أشبه بالتمارين الرياضية التي يقبل الإنسان عليها بشغف ملتمسًا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة.
فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها، فقال: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي- أولًا- غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات، وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها». فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.
ومن أجل ذلك يقول ابن عبدربه في كتابه (العقد الفريد) بأن الله نظم للرسول صلى الله عليه وسلم الأخلاق في ثلاثة كلمات، فقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. ففي أخذه بالعفو صلةُ من قطعه وصفح عمن ظلمه. وفي الأمر بالمعروف تقوى الله (وهي منبع كل خير) وغض الطرف عن المحارم وصون اللسان عن الكذب. وفي الإعراض عن الجاهلين تنزيه النفس عن مماراة السفيه ومنازعة اللجوج.
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآداب فكان مثالًا أعلى لها، وعمل على أن تكون آداب أمته، وأخلاقها التي تعتبر شريعة لها في سلوكها أفرادًا وجماعات، ولهذا كان من حديثه الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضى».
والتقوى هي المركز الذي تلتف الفضائل حوله، ويرنو إليه كل فرد برغبة ورهبة، ويدور في محيطه، سواء أحقق له نفعًا عاجلًا أم لم يحقق، بل إنه يدور من حوله منجذبًا إليه وإن كان في دورانه ضرر محقق يمسه في نفسه أو في ماله أو في رغبة من رغباته.
وللقانون الأخلاقي في الإسلام سماته التي تميزه عن غيره في الفلسفات والأديان الأخرى، وأول هذه السمات هي سمة (الثبات)، وقد جاءت هذه السمة من المصدر الذي يستمد منه القانون، هذا المصدر هو مجموعة القيم الروحية والدينية التى ترتبط بالدين، ومن هنا كان ثباتها بثبات ذلك الدين عبر القانون، تلك القيم التي لم تتغير أصولها بالرغم من تغير العلوم والصناعات، وتغير العادات والحاجات والأحوال، بل إن ارتباطها بالدين في الإسلام قد زادها قوة كما زادها ثباتًا واستقرارًا.
أما السمة الثانية فهي (الضرورة)، وهي ليست ضرورة وجودية بل هي ضرورة مثالية، ومع ذلك يجب ألا نخلط بينها وبين الضرورة المنطقية، فكل ما هو ضروري منطقيًا يفرض نفسه على العقل مسلمة من المسلمات، إذ ليس بوسع المرء ألا يري ما يراه العقل جليًا، وكل ما هو ملزم أخلاقيًا يفرض نفسه على الإرادة على أنه شيء لم يكن، ولكن يجب أن يكون، وهو ينتج من حكم على قيمة لا من حكم على واقع.
والسمة الثالثة هي (الشمول)، بمعنى شموله جميع البشر.
والسمة الرابعة هي أنه قانون عملي ممكن التحقيق، وبذلك أصبح قانونًا ذا مضمون بعكس ما وصلت إليه المذاهب المثالية في الأخلاق من قوانين اتسمت بالصورية، والخلو من أي مضمون لإمكان تنفيذها.
أما السمة الخامسة، فهي التدرج في تنفيذه، وذلك إدراكًا وتقديرًا من المشرع لطبيعة الإنسان، وهي لفتة تربوية وضع لها القانون الأخلاقي الأسلامي حسابًا دقيقًا، فقد وضع في حسابه أن ما هو راسخ في النفس ليس من السهل إزالته أو تغييره، وإن كان ذلك ليس مستحيلًا.
وبناء على ذلك تتحدد واجبات المدرسة الإسلامية فيما يلي:
- الوعي الأخلاقي: فمن شأن المعرفة التي تدرك بها الفضائل والرذائل، وتعلم بها آثارها المحمودة والمذمومة وثمراتها العاجلة والآجلة، أن تولد الحافز الذاتي على التطبيق، لاسيما إذا كان مضمون المعرفة يتعلق بما ينفع الإنسان أو يضره، كقضايا السلوك الإنساني.
فمعرفة الفضائل الأخلاقية معرفة صحيحة لابد أن تبرز ما فيها من جمال وكمال، ولابد أن تورث اليقين بفوائدها وثمراتها الطيبات وخيراتها الحسان المادية والمعنوية، والدنيوية والأخروية، وذلك يولد في النفس استحسانها، ثم الرغبة الصادقة بالتحلي بها، ومع هذه الرغبة الصادقة تكون النفس طيعة للتخلق بالخلق الكريم المنشود.
ومعرفة الرذائل والنقائص الأخلاقية معرفة صحيحة لابد أن تبرز ما فيها من نقص وقبح، ولابد أن تورث اليقين بمضارها ونتائجها السيئة، وذلك يولد في النفس استقباحها والنفور منها، ثم الرغبة الصادقة في اجتنابها، ومع هذه الرغبة الصادقة تكون النفس طيعة للكف عنها، والتخلق بالخلق الكريم المضاد لها.
ويرتبط بالوعي الأخلاقي أن ينبه المربون بهذه المدارس على بعض صور الخلل في تطبيقنا لبعض القيم الأخلاقية في حياتنا العملية:
بعضنا يأخذ من الأخلاق جوانبها القريبة، فقد نفهم الأمانة على أنها الوديعة، ونرد ما استودعنا الآخرين إياه، أما أن المنصب أمانة، لا يجوز استغلاله لمأرب خاص، ولا يجوز بأعبائه الجسام فهذا شأن آخر!! ويغلب أن يكون طلب المنصب للاستغناء والاستعلاء، والبحث عن الذات لا البحث عن مصالح الأمة.
والصدق خلق معروف، ويغلب أن نصدق في القول لا في العمل، فالصدق في العمل صعب؛ لأنه إحقاق الحق وإبطال الباطل، والتزام السنن التي قامت عليها السماوات والأرض. وقد يتقاضانا هذا أن ننتخب الأصلح، ولو كان من غير قرابتنا، وأن نؤثر بالوظيفة فقيرًا ونطرح غنيًا.. وهكذا.
- الانتفاع بما لدى الأطفال من ميول وقوى فطرية في تربيتهم تربية خلقية، فعندهم، مثلًا، ميل لمحاكاة من يتصلون بهم في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، لهذا كان فلاسفة وعلماء الإسلام يطلبون من مؤدب الأطفال أن يكون متحليًا بالفضيلة، ومعروفًا بالأخلاق النبيلة، ومتجنبًا للرذيلة، وفي هذا المعنى قال عتبة بن أبي سفيان مؤدب ولده: «ليكن إصلاحك ابني إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح ما استقبحت».
وكان المربون من المسلمين يعلمون أن لدى الطفل ميلًا طبيعيًا لحب الثناء والظهور، فيمدحونه على ما يبدو من قول حسن أو فعل جميل، ويشجعونه على الاستمرار حتى يحافظ على منزلته لديهم ويجتهد في إصلاح نفسه دائمًا. ولم يكثروا من اللوم والذم والتوبيخ حينما يظهر حبه لنفسه ورغبته الشديدة في الأكل والشرب والملابس الجميلة؛ لأن الإكثار من التأنيب يميت قلب الطفل، وأن حب النفس والنهم من الصفات الممقوتة إذا زادت على حدها بعثت الأثرة في نفس الطفل، ولهذا نصحوا المؤدبين بالتقليل من التوبيخ واللوم، واستعمال الحكمة في معاملته، فإن كلمة صغيرة من المدح والثناء والتشجيع وحسن الظن تصلحه وتهذبه وتقوم خلقه، لأنه يحب الثناء بفطرته، ويكره اللوم وتثبيط الهمم وإساءة الظن به.
- التدرج في البناء التربوي: ذلك أن العملية التربوية ليست عملية تحويل مفاجئ دفعة واحدة أو خلق تام مرة واحدة. إن هذا لم يختره الله لنفسه في سنة الخلق، مع أن قدرته جل وعلا أنه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، ولكنه تبارك وتعالى اختار لنفسه سنة الإنشاء المتدرج، ومن صفات الله تعالى أنه رب العالمين، أي مربِّ العالمين، والتربية هي إنشاء متدرج لإبلاغ الشيء إلى مستوى كماله، فتحتم أن ننهج فيها نفس النهج: التدرج.
- لا يمكننا أن ندعي أن المدرسة الإسلامية وحدها يمكن أن تقوم بتربية الطفل تربية أخلاقية كاملة إذ لابد أن تتحمل المسئولية معها سائر المؤسسات والوسائط الاجتماعية الأخرى مثل الأسرة ووسائل الإعلام، بل والمناخ الاجتماعي العام.
4 - التعليم:
ينشأ الإنسان في هذا الوجود ضعيفًا لا يقوى على الانفراد بمواجهته إلا بعد زمن ليس بقصير، وإذا كانت رعاية الحيوان لأفراخه قصيرة، فرعاية الإنسان لأولاده طويلة تمتد إلى خمسة عشر عامًا، بينما الحيوان لا تمتد رعايته لأفراخه لأكثر من بضعة أسابيع أو أشهر على الأكثر، وما أحكم قوله سبحانه في الدلالة على هذه الحقيقة في قوله: {وخُلق الإنسان ضعيفا}. ولهذا الضعف الذي صاحب ابن الإنسان من ولادته، نظمت عليه ولاية حتى يستوي شابًا قويًا، يعتمد على نفسه، ونظم الإسلام رعاية ذلك الضعيف حتى يقوى المولود ويزول ضعفه ويستقل بنفسه، ولا شك أن ذلك يختلف باختلاف الأزمان، فكلما تعقدت أساليب الحياة، كان الضعف لا يزول إلا بكثرة الدربة على الحياة.
وقد وجدت على الإنسان منذ ولادته ثلاث ولايات:
أولها: ولاية التربية الأولى، وهي التربية التي تقوم على شيءونه منذ نزوله من بطن أمه، وهي الحضانة.
والولاية الثانية: هي الولاية على المال.
والولاية الثالثة: الولاية على النفس. وللولاية على النفس عملان، أولهما: القيام على شؤون الإنسان في حال طفولته حيث يكون ضعيفًا. وثانيهما: ولاية الترويج. ويهمنا من الأولى ما يؤكده الفقه الإسلامي من أن ولاية الحفظ تتناول ثلاثة أعمال: أولها ولاية التعليم والتأديب والتهذيب؛ والثانية حفظ نفسه؛ والثالثة منعه من الاعتداء على الآخرين.
فمن الواضح هنا أن (التعليم) واجب شرعي تنفيذًا لمهمة الولاية على النفس؛ فالفترة الأولى من حياة الطفل تستلزم رعاية جسيمة، فإذا بلغ القدرة على الإدراك والتمييز، فمن الواجب تعليمه.
وقد وردت آيات من القرآن فيها إسناد التعليم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لنا أن التعليم أول مهمة أوكلها الله إلى أنبيائه، فقد ورد ذلك في دعاء إبراهيم لذريته: {ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}. ووصف الله رسوله بذلك فقال: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. وقال تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}.
وقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم رسالته ومهمته التعليمية، فأشهد المسلمين في حجة الوداع على أنه بلغهم والتبليغ أهم مراحل التعليم وأشهد ربه على ذلك: «اللهم هل بلغت اللهم فاشهد».
ولقد شاعت أقوال عدة على أقلام علماء المسلمين في مجال الحديث عن العلم الذي ينبغي على الأمة الإسلامية أن تعلمه أبناءها بحيث تمت التفرقة بين ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، بيد أن سوء عرض هذه القضية في مجال التربية والتعليم جعل المسلمين يتصرفون بطيش في أمور تمس حياتهم وبقاءهم وقد تعلي رايتهم أو تنكسها.
والواجبات الكفائية تتطلب من الدولة أمرين ينبعان جميعًا من تكليفها ابتداء باختيار من يحمل أعباء هذه الواجبات ويستطيع أداءها.
الأول: الاطمئنان إلى أن هذه الواجبات وجدت العدد الكافي من الاختصاصيين للنهوض بها، فإذا كانت الأمة تحتاج إلى ألف معلم مثلًا ولم يتوفر إلا خمسمائة، اهتمت باستكمال العدد الذي يضمن قيام العمل التعليمي، ولا يجوز أن تتغاضى عن هذا النقصان.
الثاني: أن تتابع بوسائلها الكثيرة حسن الأداء ودقة الوفاء حتى تقوم المصلحة العامة على دعائم ثابتة.
إن الأمة العاجزة عن استخراج بركات الله من الأرض التي سخرها الله للإنسان، لن تؤدي رسالة الله، الأمة العاجزة عن تجنيد مواهب المسلمين لإعزاز المسلمين أمة تلقي بأيديها إلى التهلكة.
إن فرض الكفاية يأخذ هذه التسمية قبل أن يختار الشخص المناسب ويتحدد الجهد المطلوب، أما بعد الاختيار والتحديد فإنه يتحول إلى فرض عين، وعلى من كلف به أن يستفرغ الوسع لإتمامه.
وتوضيحًا لذلك، يشير الغزالي إلى أن الصلاة- مثلًا- فرض عين لأن كل إنسان يستطيع الصلاة، أما التدريس- مثلًا- فهو من فروض الكفاية، إذ ليس في مقدور كل إنسان أن يكون معلمًا. فإذا رشح امرؤ كي يكون معلمًا وعين مدرسًا، فإن قيامه بأعباء وظيفته هذه أصبح فرض عين، التراخي والتفريط فيها اعتداء على الدين!!
والعلم الذي يشيد القرآن به ويدعو إليه، ويفترض أن تسعى المدرسة الإسلامية إلى تعليمه لأبناء المسلمين هو العلم بمفهومه الشامل الذي ينتظم كل ما يتصل بالحياة، ولا يقتصر على علم الشريعة أو العلم الديني كما يتبادر إلى بعض الأذهان، أو ما ذاع في عهود التخلف عن القرآن، فقد دعا إلى النظر في ظواهر الوجود ومظاهر الحياة، كما دعا إلى دراسة الكائن البشري، فقال: {وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
ووجه إلى علم النبات والجماد والحيوان والأجناس: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}.
وجعل من الكون كتابًا للمعرفة، ووجه القلوب والعقول والأبصار إلى بدائع صنع الله فيه، ودعا إلى التفكر في آياته، واستكناه أسراره، وفهم نظمه ونواميسه، ففتح بهذا العرض والتوجيه باب العلم وحرر العقول والتفكير من أسر الجمود والجهل، وأغرى بالبحث والدراسة والعلم.
وعلى هذا يصبح العلم الذي ينبغي على المدرسة أن تعلمه هو كما يؤكد العقاد بحق: «جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق من شيء.. ويشمل الخلق هنا كل موجود في هذا الكون ذي حياة أو غير ذي حياة».
وإذا كان التعليم الإسلامي ينبغي أن يتسع ليشمل ما نطلق عليه (العلوم الطبيعية)، فإن المدرسة الإسلامية تحتاج لتعليمه أبائنا:
- أن تكون (هذه العلوم) سلم الوصول إلى بناء العقيدة.
- أن تكون السبيل لتوطيد خلافة الإنسان في الأرض.
- إقامة بناء إسلامي للعلوم الطبيعية.
- السعي إلى تصحيح الفكرة عن هذه العلوم ودورها وعن الحياة وحقيقتها لدى أمم العالم.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يتعوذ من علم لا ينفع، ثم يلقى على عاتق المدرسة الإسلامية مسئولية التدقيق إلى أقصى حد في اختيارها للمقررات المختلفة، ومقياس النفع هنا ليس ذلك المعيار الفردي الذي نراه في الفلسفة البرجماتية وخاصة عند وليم جيمس وإنما هو مجموع الأمة وإقامة أمر الدين، ومصلحة الأمة وقيام أمر الدين أمران لا ينفصلان.
إن طبيعة الإسلام تفرض على الأمة التي تعتنقه أن تكون أمة متعلمة ترتفع فيها نسبة المثقفين وتهبط أو تنعدم نسبة الجاهلين و(تكثير) المدارس الإسلامية و(تجويد) التعليم فيها طريق أساسي لهذا، ذلك أن حقائق هذا الدين- من أصول وفروع- ليست طقوسًا تنقل بالوراثة أو تعاويذ تشيع بالإيهام، كلا؛ إنها حقائق تستخرج من كتاب حكيم، ومن سنة واعية وسبيل استخراجها لا يتوقف على القراءة المجردة، بل لابد من أمة تتوفر فيها الأفهام الذكية والأساليب العالية والآداب الكريمة. ولا شك أن مدارسة مناهج الإسلام تخلق في أي أمة تعنى بها جوًا من الفقه التشريعي القائم على الأوامر والنواهي- أي بالحقوق والواجبات- وجوًا من الآداب الاجتماعية الدقيقة المتعلقة بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوًا من البحث الصحيح والاجتهاد المخلص لمد رواق الإسلام على ما تفد به العصور من أقضية شتى وشؤون متجددة.
إن التعلم والتعليم روح الإسلام؛ لا بقاء لجوهره ولا كفالة لمستقبله إلا بهما، والناس في نظر الإسلام أحد رجلين: إما متعلم يطلب الرشد، وإما عالم يطلب المزيد، وليس بعد ذلك من يؤبه له.
قال صلى الله عليه وسلم: «العالم والمتعلم شريكان في الخير، ولا خير في سائر الناس».
5 - التعقيل:
ونبادر في البداية إلى التنبيه إلى أننا لا نقصد بهذا، الوقوف عند حد ما يشيع في الكتابات التربوية في معنى (التربية العقلية) عندما يقصد بها تزويد التلميذ بكم من المعارف والمعلومات، وإنما نقصد بها - بالإضافة إلى ذلك - وجوب أن تعمل المدرسة الإسلامية على تعويد تلاميذها أن ينهجوا في سلوكهم الفكري والتطبيقي نهجًا عقليًا، على ألا يقتصر جهد (التعقيل) على التلاميذ وحدهم، وإنما تمتد مظلته لتشمل العمل التعليمي كله تدريسًا وإدارة وتنظيمًا وإلا فإنه لن يؤتي أكله مع التلاميذ إذا اقتصر على العملية التدريسية فقط.
وأما التحديد الذي نريد أن نحدد به معنى (العقل)، حين نستخدم هذه الكلمة في هذا السياق، فهو الحركة التي انتقل بها من شاهد إلى مشهود عليه، ومن مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها، من وسيلة إلى غاية تؤدي إليها تلك الوسيلة.
وأهم كلمة في هذا التحديد هي كلمة (حركة) فإذا لم يكن انتقال من خطوة إلى خطوة تتبعها فلا عقل، إذا أدركت شيئًا دون أن تنتقل من هذه الحالة الإدراكية إلى حالة تليها، فلا عقل، فإذا حملق التلميذ في كتاب فلم ير منه إلا أنه صفحات مليئة بالصور والكلمات، فلا عقل، وإنما يكون العقل إذا انتقل من رؤية هذه الصفحات الممتلئة صورًا وكلامًا إلى العلم بأنها تحمل إليه (معلومات) تعينه على حسن الاتصال بالعالم الذي يحيط به. وإذا جاء أحد تلميذًا بنبأ فصدقه إيمانًا ووقف منه عند هذا الحد، فلا عقل، وإنما يكون العقل حين ينتقل من ذلك المسموع إلى ما يؤيده أو ينفيه، «فالعقل انتقالة دائمًا من عبارة لفظية إلى عبارة تلزم عنها، إذا ما كنا في مجال (نستنبط) فيه حكمًا من حكم، أو هو انتقالة من شاهد محسوس إلى واقعة تترتب عليه وتتبعه، إذا ما كنا في مجال (نستقرئ) فيه حكمًا من مشاهدات».
وقد أشار أديبنا العظيم (الجاحظ) إلى هذا المعنى في قوله عن (الحكيم) إنه من يحسن الخطو إلى الهدف الذي يبتغيه «وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها، فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور واستشفافهم بعقولهم ما تجيئ به العواقب فيعلمون عند استقبالها ما تئول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمر يتعادل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون».
ولكن من المهم لإدراك الموضع الصحيح لكل من الوحي والعقل في كيان الشخصية المسلمة والفكر الإسلامي ووعي الإنسان المسلم أن ندرك الإدراك الصحيح علاقة كل واحد منهما بالآخر حتى نحقق شروط التكامل ولا نقع في الخطأ ودون قصد في وجوه وهمية من ألوان التناقض والتعارض بين الوحي والعقل.
فالعقل الإنساني رغم كل مكانته وإمكاناته في حياة البشر يظل محدودًا جزئيًا يعتمد على الاستقراء وتراكمات المعرفة والخبرة لإدراك مسيرته وسبل أدائه. وجاء الوحي على أيدي المعصومين الصادقين من الأنبياء والرسل ليمد العقل الإنساني بالمدركات الكلية في علاقات الكون وموضع الإنسان منها ومهمة وجوده تجاهها وقواعد الإنسانية والاجتماعية اللازمة لترشيد سعيه وتحقيق غاية وجوده.
والعقل سيظل رشيدًا في أدائه ما دام يسعى بالعمل والإصلاح ضمن توجيهات الوحي وإرشاداته في معنى العلاقات وغاية الوجود، وما ضل المسلمون وانحرفوا إلا حين استخدموا العقل في غير موضعه وأخذوا بالظن والتخمين الباطل في أمور الإلهيات وقضايا كليات القضاء والقدر متأثرين بإطار فكري إغريقي ليس له مرشد ولا ضابط ولا موجه من معرفة الوحي القطعية الكلية.
ولم يترك الإسلام العقل ليسير من غير توجيه؛ لأن الدروب متعددة، والمسالك متشعبة، بل رسم له منهجًا يتربى من خلاله على أصول التفكير السليم. وقد كثرت في القرآن الكريم الآيات التي تدعو الإنسان إلى التفكير في هذا الكون بما حوى من مظاهر مختلفة لينطلق العقل إلى آفاق رحبة فسيحة، فيقر بصانع هذا الكون ومبدعه من أجل أن تستقر العقيدة وتضرب جذورها في القلب.
وإذا كان الإسلام قد وضع يد الإنسان على أزرار الكون ليلمس بعقله العبرة والعظة من وراء هذه المظاهر الكونية، فإن عقل الإنسان لو تجاوز حدوده لأدى ذلك إلى التفكير المضطرب. وقد ربى الإسلام العقل على هذا المعنى ففصل في كثير من القضايا بين الأسباب والمسببات، والمقدمات والنتائج، والعلة والمعلول، وهي مجالات لا يستطيع العقل إلا أن يعيش في مجالها، فمنها يستمد تفكيره، وعليه يبني نتائجه، وكانت تربية الإسلام للعقل في هذا المجال إعلامًا له بأن الله الذي جعل لكل شيء سببًا قدرته تعالى لا تحد، يستطيع أن يفصل بين المقدمة والنتيجة، ويقطع العلاقة بين السبب والمسبب، والعلة والمعلول.
والاقتناع هو الهدف من كل العمليات التي كان يقوم بها القرآن الكريم في عقول الناس وقلوبهم الاقتناع الذي يؤكد الجديد الصالح في العقول والقلوب، ويهزم القديم الطالح في أنفس الناس. وإنه من هنا اعتمد القرآن الكريم في عملية الاقتناع على أسلوبي الجدل والحوار، وليس على القصر والإكراه: تجئ بهما القوة، أو الإلجاء: تأتي به المعجزات، يقول تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}. وقال: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
ومن هنا فقد أقر الإسلام للإنسان حق السؤال حين تعوزه طمأنينة القلب، كما نرى في صريح آياته المحكمة: {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}.
والفكرة الشائعة أن مثل هذا السؤال، إذا جاز في القضايا الفكرية والعلمية، فليس بجائز في المقررات الدينية التي تقتضي التسليم المطلق. بل إن فينا من يتصورون أن مجرد مناقشة المتدين لأحد ممن يتكلمون باسم الإسلام، جرأة وضلال، لكن فينا كتاب الله نتدبر آياته المحكمة في إبراهيم عليه السلام، فنراه وهو المصطفى للنبوة قد أعوزته طمأنينة القلب في كيفية إحياء الله تعالى للموتى فسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ولم يغضب سبحانه عليه حين سأل ما سأل.
وإذا تأملنا واقع مدارسنا حاليًا، فسوف يكشف التحليل الموضوعي لعلاقة المعلم والطالب فيها عن أسلوب التواصل بينهما وهو أسلوب يعتمد على وجود (حاكٍ) يقوم بدور المعلم و (مستمع) يقوم بدوره الطالب، وسواء كان الموضوع قيمًا عامة أو أبعادًا عقلية مستمدة من الواقع، فإنه يظل فاقدًا للحياة، وتلك هي إحدى أخطر أبعاد أزمة التعليم.
إن أهم ما يميز التعليم التلقيني الشائع في مدارسنا هي افتقاده للمناقشة والحوار والتشارك المعرفي والعملي، فالطلاب ينحصر دورهم في الحفظ والتذكر وإعادة الجمل التي سمعوها دون أن يتعمقوا مضمونها، وليس من هدف لهذا التعليم التلقيني سوى تعويد الطلاب أسلوب التذكر الميكانيكي لمحتوى الدرس وتحويلهم إلى آنية فارغة يصب فيها المعلم كلماته. ولا شك أن هناك من ينجح بهذه الوسيلة في أن يصبح جامعًا للمعلومات أو كتالوجًا لها، ولكن تبقى الحقيقة العارية وهي أن الذي خزن هو عقل الإنسان الذي حرم بهذا الأسلوب غير الموفق في التعلم من فرص الإبداع والتطوير، إذ كيف للإنسان أن يمارس وجوده الحق دون أن يتساءل ودون أن يعمل.
ومن هنا يصبح واجبًا أساسيًا على المدرسة الإسلامية أن توفر من الخبرات والفرص التعليمية التي تمكن الطلاب من حسن استثمار ما وهبهم الله من أدوات المعرفة وسبل التفكير، فأمامنا القرآن الكريم حيث نجد تنديدًا بمن يعطلون تفكيرهم فلا يستجيبوا للحق، وقد خلق الله لهم عقولًا ولكنهم لم يفكروا بها في المظاهر التي تدل على قدرة الله وحكمته، وخلق لهم عيونًا ولكنهم لم ينظروا بها نظرة اعتبار، وخلق لهم آذانًا ولكنهم لم يستمعوا بها استماع تدبر فيما يتلى عليهم من آيات الله، هؤلاء كأنهم حرموا فهم القلوب، وفقدوا إبصار العيون، وسلبوا استماع الآذان، فهم كالبهائم، بل هم أضّل؛ لأن البهائم ترى الطريق السهل فتسلكه، وترى المنحدر والوعر فتتجنبه، وتسمع الصيحة فتستجيب لها، قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضّل أولئك هم الغافلون}.
وليست التربية العقلية مرادة فقط في مجال التدريس والتنظيم والإدارة، بل إن المدرسة وهي تحرص على أن يقيم الطلاب فيها شعائر الصلاة أن (تعقل) أداءهم، وهل تكون العبادة الصحيحة إلا عن عقل ووعي وإدراك، ذلك لأن العبادة التي تؤدي دون تدبر لحكمتها وفهم لغايتها إنما تكون قوالب فارغة من المضمون، وأشكالًا خالية من المعنى، وهي بذلك لا تحدث أثرها في النفوس، ولا ترقى إلى مقام القبول عند الله.
فالصلاة مثلًا ليس للإنسان منها إلا ما عقل، في خشوعه وهو واقف أمام الله عز وجل، وفي تدبره لما يقرأ من آيات الله، وفيما تتركه من أثر في حياة الإنسان وسلوكه.
والمعلومات التي توصلها المدرسة إلى تلاميذها يستحيل أن تتحول إلى طاقة دافعة بالفعل للعمل إذا لم يكن التلميذ واعيًا وفاهمًا لها، فالفهم قاعدة أساسية للتنمية العقلية وكذلك لتيسير السبل لحسن التطبيق والتنفيذ، يقول عز وجل: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. ففهم الدين بكل مفرداته أمر ضروري لاتباعه فمن لم يتح له ذلك كيف ينتظر منه أن يطبق الشرع على نفسه وعلى من يدخل تحت رعايته في البيت والمجتمع؟ وكيف ينتظر منه أيضًا أن يبلغ الدين لأناس يريدون الوقوف على حقائق ما أنزل الله؟
وبما أن الإسلام حركة عمل تتناول حياة الفرد والجماعة على نطاق واسع شمولي فلابد للمؤمنين بهذا المنهج أن يكونوا على بينة بكل ما يتعلق بخطاهم ضمن تلك الحركة لكي يكونوا منسجمين معها وخشية أن يؤثر أي وقع ناشز في عموم الحركة فيحد من فاعليتها ويخدش بهاءها.
والمدرسة الإسلامية مطالبة بتعويد طلابها عفة اللسان والقلم في الحوار، والحرص على صون الكرامة وتقديم حسن الظن بالنية والقصد، فما أقبح أن يتنزل المتعلمون في مثل هذه المدارس إلى جارح اللفظ وسيئ العبارة متعللين بأن صدورهم تضيق وأن صبرهم ينفذ، وهم يتحدثون وخاصة في المجال الديني. إن ذلك لا يمكن أن يستقيم لمن يقرأ في صحيح مسلم أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ادع على المشركين. فقال: «إني لم أبعث لعانًا وإنما بعثت رحمة». أو من يقرأ في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، فضلًا عن أن يستقيم شيء من ذلك لمن يقرأ قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
كذلك من الضروري أن يعي القائمون على أمر المدرسة الإسلامية أن الابقاء على الأخطاء لسبب أو لآخر، وعدم كشفها وتبصير الجيل بها، ومن ثم معالجتها هو أشبه ما يكون بوجود الألغام الموقوتة التي تزرع في الجسم الإسلامي، وقد يكون فتيلها في يد العدو يفجرها بين حين وآخر لتودي بالعمل الإسلامي كلما حاول النهوض وكاد أن يستوي على عوده، لذلك فإن فلسفة التبرير وتوقف المناصحة وتعطيل الحوار وعدم دراسة جوانب التقصير لا يقتصر على تكريس هذه الأخطاء ونموها وإنما يؤدي إلى تكرارها، ولابد أن يدرك المربون الإسلاميون على اختلاف مواقعهم أن الخطورة كل الخطورة في التستر على الخطأ والقبول بالإبقاء عليه فتنمو العلل في جسمنا، وليست الخطورة في بيانه ومعالجته.
إننا لا نشك في إخلاص كثير من الذين يحذرون من عمليات النقد، وغيرتهم على العمل الإسلامي، ولكننا نشك في إدراكهم وصوابهم حيث لا يكفي الإخلاص لبلوغ العمل غايته بل لابد من الإدراك وعمليات التصويب - كأمر وطلب - لا تقل أهمية عن الإخلاص، إن لم تكن هي الإخلاص أيضًا. بل لابد منها ليأتي الإخلاص بالثمرة المرجوة بإذن الله.
6 - التوجيه الاجتماعي:
المدرسة مؤسسة من المؤسسات التي أقامها المجتمع بهدف أن تكون بيئة منتقاة يتلقى فيها أبناؤه الصغار كل ما يعينهم على أن يكونوا أعضاء فاعلين في الجماعة البشرية الذين هم جزء منها، وأن يكتسبوا الكفاءة الشخصية التي تجعل منهم ذوي شخصية تتميز بالسواء والتكامل والمدرسة بهذا الاعتبار لابد أن تكون على درجة عالية من الحساسية الاجتماعية تتأثر بما يوجد في المجتمع من مشكلات، ووجهات نظر وتيارات، وتتطلع إلى ما يرنو إليه من آمال وطموحات.
ومن هنا فإن حسن قيام المدرسة الإسلامية بدورها المنوط بها من الناحية الاجتماعية يستلزم (مناخًا) مجتمعيًا يعينها على هذا.
ولقد شاع في السنوات الأخيرة استخدام مصطلح (المجتمع المتعلم المعلم) وعلى أساس أن المجتمع عندما تزدهر ثقافته وتثرى حضارته، ويقوى إيمانه وترسخ دعائمه، ويرتفع مستوى التعليم فيه وتنمحي الأمية منه أو تخف حدتها؛ يصبح أخطر معلم على أي مستوى.
ومع وعينا الكامل بأن لكل عصر قواعده وقوانينه وظروفه مما يوجب الحرص في استخدام مصطلحات الربع الأخير من القرن العشرين تفسيرًا لأحداث وقعت في العالم العربي والإسلامي منذ قرون عديدة، إلا إننا في الوقت نفسه نشعر بقدر غير قليل من حرية الحركة عندما نكون بإزاء قاعدة تاريخية عامة ليست خاصة ببقعة دون غيرها، وليست خاصة بفترة زمنية دون غيرها، فإذا كان مصطلح المجتمع المتعلم المعلم مصطلحًا جديدًا، إلا أن جدته تنحصر في صياغته اللفظية، أما مضمونه فإنه تعبير عن قاعدة تاريخية يستطيع أن يقف عليها كل دارس للتاريخ البشري في أي زمان وفي أي مكان.
وهنا نجد في كلمات ابن خلدون تعبيرًا علميًا صريحًا دقيقًا عن ذلك فيقول: «إن رسوخ الصنائع في الأمصار، إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها»، فالصنائع جهد بشري يتشخص في أعمال وفنون ومنتجات لا يصل إليها الإنسان بالفطرة ولا بطريقة آلية، وإنما بخطوات قد تقصر وقد تطول حسب مقتضى الحال، يقف فيها على معلومات ومعارف وحقائق، ويتدرب فيها على مهارات وأعمال وينضح عنها وجدانه بميول وقيم واتجاهات، وهذا وذاك مما نسميه بالتربية بأشمل معانيها وأدقها وأكثرها إحاطة بما هو مراد ومأمول في عملية بناء الإنسان.
ومن ثم فإن ما تصل إليه هذه الصنائع من ازدهار وتأصل، فإنما يكون ذلك نتيجة طبيعية لما تكون عليه حضارة المجتمع من ازدهار وانتشار ونتيجة لما تحققه من إنجازات وما تتركه من علامات على مسيرة البشرية عبر التاريخ؛ ولهذ نجد في الأمصار التي استبحرت في الحضارة لما تراجع عمرانها وتناقص، بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصار المستحدثة العمران، ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة وما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكررها، وهذه لم تبلغ الغاية بعد.
من أجل هذا حرص الإسلام على أن يوفر للمجتمع المنشود من المقومات والأسس والمبادئ ما يجعله (رحِمًا) صحيًا لتنشيءة الأجيال الصغيرة منها والكبيرة مما يجعل من الضروري بالنسبة للمدرسة الإسلامية أن تتوجه بطلابها نفس هذه الوجهة حتى يتم التنافس والتناغم بين الاثنين.
ولعل أبرز الأسس والمقومات التي قام عليها المجتمع الإسلامي هي قيامه على (العقيدة) وكان من نتائج هذا النهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعًا مفتوحًا لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات بلا عائق من هذه العوائق السخيفة، وإن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت وأنشأت مركبًا عضويًا فائقًا في فترة تعد نسبيًا قصيرة، وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقات البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء الاتصال في ذلك الزمان.
والدارس الواعي للعقيدة الإسلامية يستطيع أن يدرج بكل وضوح أن الإسلام في أصول العقيدة وفروض العبادات وأحكام المعاملات، وكل التوجيهات لسلوك الإنسان، إنما ينظر إليه من حيث هو اجتماعي بطبعه، وليست نظرته فردية متوحشة.
إن وحدة الجماعة تأخذ في الإسلام حرمة دينية، من وصفها القرآني بأنها اعتصام بحبل الله، يمن على الأمة بما ألف بين قلوب أبنائها بالعقيدة الواحدة: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}.
وإذا كان الإسلام يعتبر جميع المنتمين إليه (إخوة)، فإن هذه الأخوة تقتضي تكاتفًا وتعاونًا وتضامنًا مما اصطلح عليه في الأدبيات باسم (التكافل الاجتماعي)، والتكافل هو التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وهو لا يستهدف رضوان الله فقط، وإنما يستهدف كذلك إيجاد نوع من التوازن بين مختلف وحدات المجتمع الإسلامي ذلك من خلال ضمان إشباع الحاجات المجتمعية وخاصة بالنسبة للفئات التي تعجز عن تحقيق ذلك الإشباع سواء أكان ذلك العجز راجعًا لسبب أصيل فيها أو لظروف طارئة عليها.
والتكافل الإسلامي ليس قاصرًا على صور البر والإحسان وإيتاء المال على حبه ذوي القربى.. إلخ وإنما التكافل الإسلامي ممتد العطاء حتى بالدم، وفي هذا يقول الله تعالى: {وما لكم تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان}.
وتأتي خطة الإسلام في جعل التكافل واقعًا عمليًا يسعد المجتمع ويزيد من طمأنينته عندما يجعل لكل فرد من أفراد المؤمنين حرمة تراعي ويحدد له حقًا يؤدى وفرض عليه واجبًا يقوم به إزاء غيره، يقول عز وجل: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصًاكم به لعلكم تعقلون}.
إنه لمن قصور التفكير التربوي أن تتصور المدرسة الإسلامية حدودًا لمهمتها تقف بها عند أسوارها، أو تتحدد بمن تضمه جدرانها من تلاميذ، وإنما هي(مسئولة) - ضمن سائر المؤسسات عن الحركة الكلية للجماعة المسلمة، وهناك مما لا حصر له من مجالات الخدمة العامة ومن المشكلات الاجتماعية مما يتطلب مساهمة هذه المدارس في مواجهتها، وأشهر هذه المشكلات وأضخمها مشكلة الأمية.
ولا تجد في النظم التي ابتكرها الإنسان لرعاية القوانين والدساتير وتبصير الناس بها حتى لا يقعوا في المخالفات المتوالية نظامًا يصل إلى فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمبدأ تربوي جاد، ومدرسة اجتماعية تتيح لأكبر قاعدة في الأمة أن تعرف ما لا بد من معرفته، وهو الحلال والحرام والمكروه، والسنة والواجب، والبدعة في وقت قصير، وبلا نفقات، وبطريقة مكررة تضمن التذكر الدائم وتشمل كل البيئات في المجتمع.
ولا شك في أن ما يساعد على حسن وكفاءة المدرسه الإسلامية في القيام بوظيفتها الاجتماعية وعيها بأن عمليات التعليم والتعلم في المدرسة عمليات اجتماعية بمعنى أنها تدور في سياق تفاعل اجتماعي، وأنها تتضمن دائمًا اكتسابًا اجتماعيًا وأخلاقيًا من جانب المشاركين فيها، وأهمية هذا عندما تعيه المدرسة، أنها لابد أن تتدخل في هذا السياق من التفاعل الاجتماعي ولا تتركه لفعله العشوائي.
ولما كان هذا السياق يتجسد في جماعات صغيرة في المدرسة، فيها يتم التفاعل الاجتماعي، كانت ضرورة التأكيد على حسن صيغة هذه الجماعات وتوجيهها لتكوّن (جماعات منظمة). في هذه الجماعات المنظمة، توجه أنشطة المشاركة فيها توجيهها الفعال: بالحرية والتلقائية، بالتيسير والتدريب، وبالاختبار والاختيار، بالاتباع والإبداع، بالتدبر والتفكر.
من الواجب إذن أن تسود روح المشاركة كل الجماعات المنظمة في المدرسة، ابتداء بجماعة الفصل الدراسي، إلى جماعات اللعب، وجماعات الأنشطة على اختلاف ألوانها، سواء ما كان منها ذا طابع اجتماعي أو أخلاقي، أو ذا طابع علمي أو فني.
7- الإعداد البدني
ويتضمن هذا الإعداد ما اصطلح على تسميته بالتربية الجسمية، وهي تلك العملية التي يقوم الفرد خلالها بنشاط جسماني منظم بهدف تنمية قدرات الجسم المختلفة، وزيادة كفاءته الحركية وما يرتبط بذلك من اكتساب مهارات حركية معينة، واتباع عادات صحية سليمة، وذلك للتكيف مع متطلبات الحياة في المجتمع.
إن هذا الهدف بالذات، لابد أن يتأكد في مختلف البرامج والأنشطة التي تقوم بها المدارس الإسلامية لضرورته الدينية الإسلامية والتربوية من جهة وكما سنبين، من جهة أخرى لأن التريية الإسلامية إذ تعتمد العقيدة الدينية موجهًا ومنطلقًا، فقد ظن البعض أن ذلك يعني أن تغرق في (الروحانيات)، ويصبح رائدها قهر البدن، والنظر إليه على أنه مستودع الشرور؛ لأنه مستودع الشهوات والرغبات البهيمية!!
وربما ساعد على شيوع هذا الوهم، أن التربية الإسلامية مع ثرائها الواضح في (النصوص) القرآنية والنبوية على أهمية وضرورة العناية بتربية الجسم، فإن (واقع) التعليم في المدارس الإسلامية في عصورها الماضية يكاد يخلو من برامج وأنشطة في هذا المجال. بل إن (المسجد) وهو المؤسسة التربوية الأولى في الإسلام والتي ظلت تنفرد بمهمة التعليم أكثر من قرنين من الزمان قبل أن تظهر المدارس، لم يكن - بحكم تكوينه ووضعه - يمثل هذا اللون من ألوان التربية.
وإذا كان هذا صحيحًا إلى حد ما، إلا أننا إذا فهمنا هذه التربية بمعناها الشامل المتكامل فسوف يتأكد لنا أنه ليس صحيحًا تمامًا، فالعناية بصحة الجسم والعادات الصحية السليمة والنظافة وما إلى ذلك، روعيت كثيرًا في التطبيق التربوي في معاهد التعليم في العصور الإسلامية.
إن صحة الأجسام وجمالها ونضرتها من الأمور التي وجه الإسلام إليها عناية فائقة واعتبرها من صميم رسالته، ولن يكون الشخص راجحًا في ميزان الإسلام محترم الجانب إلا إذا تعهد جسمه بالتنظيف والتهذيب، وكان في مطعمه ومشربه وهيئته الخاصة بعيدًا عن الأدران المكدرة والأحوال المنفرة، وليست صحة البدن وطهارته صلاحًا ماديًا فقط، بل إن أثرها عميق في تزكية النفس وتمكين الإنسان من النهوض بأعباء الحياة. وما أحوج أعباء الحياة إلى الجسم الجلد والبدن القوي الصبور.
وكفى لهذا الجسد تشريفًا في التصور الإسلامي أن خلقه الله سبحانه وتعالى وسواه بيده، فكما هو معروف، أن الصنعة تأخذ قدرها وقيمتها من صانعها، يقول عز من قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. ويحكي القرآن عن تسوية هذا الجسد في أكثر من آية ليعطي صورة واضحة لهذا الجسد تتناسب ووظيفة الإنسان في الحياة على هذه الأرض بين المخلوقات الأخرى التي سخرها الله له. يقول الله سبحانه وتعالى مشيرًا إلى ذلك وإلى الجهاز الحركي في الإنسان الذي يتكون من الأجهزة العظيمة والمفصلية والعصبية والتي يتم بها السعي في الحياة: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفةً قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}.
وهذه العظام والمفاصل وتلك العضلات التي تعطي الشكل العام لهذا الجسد تأخذ شكلًا وأوضاعًا في غاية الإتقان والجمال حيث يقول الله عز وجل: {صُنع الله الذي أتقن كل شيء}.
يقول الله سبحانه وتعالى: {خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير}، ويقول ابن كثير في تفسيرها: «أي أحسن أشكالكم». ويستطرد القرآن في ذكر هذه التسوية المتقنة لأعضاء الجسم في العديد من الآيات فيقول: {الذي خلق فسوّى}.
ويقول: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك}. ويقول في تفسيرها ابن كثير أيضًا: «أي جعلك مستقيمًا معتدلًا القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال». ويقول تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}. ويقول ابن كثير في تفسيرها: «إنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها».
ومن هنا يخطئ من يظن أن المسلم الوقور هو ذلك المتباطئ، فلا يسرع ولا يجري ولا يحمل حملًا في يده ولا يلبس ملابس الرياضة، ولا يأتي من الألعاب الرياضية ما قد يفعله الصبية والشباب، فلا يلعب الكرة أو يسبح في البحر أو يركب دراجة، بل إن من المسلمين من يتصور أن الألعاب الرياضية نوع من اللهو الذي يلهي الإنسان عن العبادة أو ينقص من وقاره ومظهره واحترامه في أعين الناس أو يجعلهم يشكون في علمه وفقهه وتدينه.
إن من صفات المسلم مما لابد أن تسعى المدرسة الإسلامية إلى تحقيقها أنه (القوي الأمين)، فرسول الله صلى الله علي وسلم يقول: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير»، ومن الآيات التي يمتدح فيها الله القوة البدنية: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم..}، ويقول: {...إن خير من استأجرت القويّ الأمين}.
وإذا كانت الحواس المعروفة هي قنوات أساسية في المعرفة: تعلمًا وتعليمًا، تصبح صحتها وتدريبها وسلامتها ورعايتها شرطًا جوهريًا لإمكان التعلم والتعليم.
بل إن حسن القيام بكثير من العبادات الإسلامية يتوقف على مدى ما يتمتع به الجسم من صحة وسلامة مثل الصيام والحج على سبيل المثال.
ثم يجئ الواجب الكبير، والمهمة الجليلة ألا وهي الجهاد في سبيل الله. صحيح أن سبل الجهاد عديدة ومتنوعة، إلا أن الجهاد بمعناه القتالي البدني يظل ركنًا أساسيًا. وصحيح أن (الجيوش) هي التي يوكل هذا الأمر بها، لكننا نعرف أيضًا أن المجتمع عندما يواجه بحرب عامة تصبح مهمة القتال مهمة كل قادر عليه، مما يوجب على المدرسة الإسلامية أن تجعل من (التدريب العسكري والإعداد القتالي) مهمة أساسية، وأن يتم ذلك بطبيعة الحال في إطار الشرعية الاجتماعية، وفضلا عن الشرعية الدينية يقول عز وجل: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه اجرًا عظيمًا * وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظّالم أهلها واجعل لنا من لدنك نصيرًا * الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيّطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا}.
والإسلام يوجه المدرسة كذلك إلى جانب هام من جوانب تربية الجسم وهو الخاص بالغذاء، فلا يكاد كتاب من كتب الفقه والتشريع تخلو من حديث عن الأطعمة والأشربة، فمن الأطعمة ما حرمه الإسلام لضرره بصحة الإنسان أو بأخلاقه، ومن الأطعمة ما حث عليه لأن تركه يضعف المسلم جسميًا أو معنويًا. ومن عادات الطعام أيضًا ما يضر فنهى عنه الدين، ومنها ما ينفع فنظمه الدين وحث على اتباعه. ومن الملاحظ في هذا المجال أن الإسلام يختلف في تربيته الغذائية عن العلوم الحديثة في أنه لا يقصر تعاليمه على الجانب المادي وحده ولا ينظر إلى بناء الجسم فحسب، كما أشرنا عدة مرات، بل هو يهتم من هذا الجانب بما له فعالية في سلوك الإنسان وأخلاقياته.
وللعب دور خطير في مرحلة الطفولة بالذات، فالطفل في هذه المرحلة يمتلئ حياة وحيوية، ولابد أن يعبر عن هذا الامتلاء والفيض تعبيرًا ييسر النمو ولا يعوقه عن طريق اللعب، ذلك أن اللعب تحرير سليم لطاقة الحيوية الفائضة عند الطفل، تحرير يتخذ سبل الصحة لأنه من طفل يسعى إلى استجلاب المتعة بطريق سليم مشروع. ثم إن اللعب، بكونه تعبيرًا عن فيض الحيوية واستجلاب المتعة عائد إلى حواس الطفل وأنشطته العقلية بالتنبيه والإثراء، مما يشجع نموه العقلي الذي يوسع وينوع اتصالاته وتفاعلاته وأحكامه.
ويرتبط بتربية الجسم في التربية الإسلامية ضرورة التعود على ممارسة الرياضة في كافة صورها التي من شأنها أن تقوي الجسم وترفع من كفاءته. وإذا كانت النصوص الإسلامية قد أشارت إلى بعض الرياضات مثل الرمي والسباحة والعدو، فإن من المسلم به أن هذا ليس (حصرًا) لرياضات الجسم، وإنما هي (أمثلة) نقيس عليها في ضرورة تعلم وتعليم غيرها.
ويوصي الإسلام بأن يكون المرء حسن المنظر كريم الهيئة، وقد ألحق هذا الخلق بآداب الصلاة: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين أن يعنوا بهذه الأمور وأن يلتزموها في شؤونهم الخاصة حتى يبدو المسلم في سمته وملبسه وهيئته مقبولًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنةً، فقال: إن الله جميل يحب الجمال» فيما رواه مسلم.
وإذا كانت التربية الإسلامية تتطلب تربية المسلم على(القوة)، إلا أنها قوة مضبوطة بتعاليم أخلاقية دقيقة تجعلها قوة بناء ورحمة لا قوة استبداد وجبروت، ليست قوة بطش واعتداء وطغيان، وإنما هي قوة ضبط واعتدال حتى يصبح هوى النفس تبعًا لمنهج القرآن، فتسير في كل أمورها على صراطه السوي دون إفراط وتفريط: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحًا إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}.
8- الإثراء الجمالي والوجداني
وليس هناك من يشك، في أن هذه الحياة الإنسانية التي نعد أبناءنا للدخول في معتركها، إذا كانت تتطلب منهم جهادًا ومغالبةً وكفاحًا ونضالًا واقتحام المشكلات والصعاب والعوائق، فإنها بحكم (إنسانيتها) تظل - مع هذا كله - في أمس الحاجة للمسة حب ونسمة حنو وخفة قلب، انفعالًا برؤية جميل، وانفعالًا بعاطفة إنسانية، إن انفعالات الإنسان وعواطفه هي تلك الشحنة الكهربائية التي تمده بكافة الحركة وقوة الدفع.
والإسلام في تربيته للإنسان لا يقنع بإعداده لعالم الضرورة والواقع وإنما يلبي الفطرة الإنسانية في تطلعها إلى عالم الجمال والوجدان، فالإنسان لا يكتفي بالنظر إلى الجبال على أنها مجرد جبال، وإنما يبصر الجانب الجمالي فيها عندما تكون مكسوة بالثلوج أو بالغابات. وهو لا يكتفي بالنظر إلى السحاب على أنه حامل للماء، ولكنه يراه جميلًا في أشكاله وألوانه، وخاصةً عندما ينتشر عليه في بعض الأحيان طيف الشمس (قوس قزح) في منظر رائع جميل. وهو لا يقف بالنسبة للنبات عند حد، ولكنه ينفعل به عندما يورق ويزهر، ويستمتع منه بزهره الأريج وشكله البهيج. وهكذا.
وإذا كان القرآن الكريم له ما له في محتواه من حيث العقائد والمعاملات والتوجيهات وما إلى ذلك ما يقيم أمر الإنسان في معاشه ومعاده، فإن له أيضًا جوانبه الجمالية التي ينبغي أن تلفت المدرسة إليها طلابها وهي تعلمهم إياه، فمن خصائص الماهية القرآنية لبعث الإحساس بالجمال أن لغة القرآن الكريم في بيانها وبلاغتها قد كفلت كفالة إعجازية للصور التي صورت بها المشاهدات الكونية والطبيعية والاجتماعية والمشاهد النفسية الغائرة في سواء اللاشعور.. بل والمشاهد التاريخية الغائرة في سواء الماضي الذي احتجب عن الحاضر بستار من الأساطير والأراجيف.. كل تلك المشاهد وما احتوته من مواقف ومناظر، وقد جاءت في تصوير لغوي فإن البيان القرآني قد كفل لها ما يحتاجه المشهد المصور من تجسيم أو تجسيد للمعاني والأحداث. وفضلًا عن هذا فإنه يمازج بين الأضواء والظلال ويناسب بين الحركات تناسبًا متكاملًا يبعث الحياة في كل لمحة من لمحات المشهد وفي كل جانب من جوانبه، بل إن البيان القرآني ليستجيش الانفعالات والخواطر النفسية بالموسيقى النوعية التي تنبعث من تراكيبه وألفاظه.
والمدرسة الإسلامية مطالبة بالسير وفق المنهج القرآني في هذا المجال حيث إنه في إحيائه وتربيته على التصور الخيالى والتصور الفكري وكلًا من الوعي والشعور في الارتفاع بالإنسان عن جمود الإلف الذي يحجر الفكر ويخدر الإحساس ليصبح من ثم في موقف وجودي منزه عن شواغل المعيشة، ولئن كانت المشاهد تربطه بواقعه الاجتماعي أو بواقعه الطبيعي إلا أنه في تساميه الوجودي يصبح في موقف الإدراك المباشر للجمال. وتلك التجربة الجمالية المباشرة التي لا يصبح الإنسان فيها مجرد مستمتع بلذة الجمال المصور بيانًا ولكن إحساسه بالجمال يرتفع إلى مرتبة الفكر الإيجابي الملتزم أخلاقيًا بأن يغير ما بنفسه حتى تستقيم نفسه ويستقيم شأن مجتمعه.
وتعد الموسيقى مجالًا هامًا من مجالات تنمية الحس الجمالي وما يصاحبها من غناء إذا كان ذلك يتم على مستوى رفيع ونظيف مما له شروطه وقواعده، وقد خصص الغزالي كتابًا أسماه (أدب السماع والوجدان) في كتابه «إحياء علوم الدين» وفيه بابان، الأول: في إباحة السماع، والثاني: في آداب السماع وآثاره في القلب والجوارح. وقد استعرض أقوال القائلين بالتحريم وناقشها بأدلة عقلية ونقلية، ثم أبان رأيه بالإباحة معتمدًا على أحاديث صحيحة وحجج قوية.
وثمة فن آخر يعتمد على التقليد والمحاكاة والتقمص وليس بمبتوت الصلة بما سبقه إذ هدفهما في النهاية إمتاع البصر والسمع والفؤاد وأخذ العبرة وتجسيدها في إطار تربوي سديد وذلك الفن هو التمثيل والمسرح.
والمدلول التربوي لهذا الفن هو التهذيب والإصلاح عن طريق غير مباشر، فالوعظ والإرشاد يؤتي ثمرة بيد أنه قد يبعث على الملل أحيانًا وتضيق به النفس ولاسيما إن أظهر عيوبها وكشفها أمام نفسها، والقرآن الكريم نفسه قليلًا ما يعظ مباشرةً بل يتخذ من القصة طريقًا لبث ما يريده.
وما دام عنصر الجمال عميقًا في الوجدان البشري كما يتبدى في كل كائنات هذا الكون، وما دام الإنسان منفتح الأحاسيس لتلقي هذا الجمال ليصل مع هذا الكون والقرآن إلى رحابة الأفق الأعلى، فلن يصادر الإسلام فنًا هادفًا مستمدًّا مقوماته من قيم الإسلام.
والإسلام يربي المسلمين على التعاطف والمشاركة والوجدانية، فيشعر المسلم بشعور أخيه فرحًا أو ترحًا، ويعاونه ما استطاع المعاونة ويعمل عى تفريج كرباته وإزاحة همه فيؤدى ذلك إلى التراحم والتناصر وما يرتبط بهما من الثقة بالنفس وبالآخرين وتقوية صلة الانتساب إلى أمة تفرح لفرح أبنائها وتحزن لحزنه وتبدو مظاهر ذلك كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
وليس أروح للمرء ولا أطرد لهمومه من تركه وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمة تنساق إلى أحد رضي بها وأحس فضل الله عليها، وفقر عباده إليها وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» (أبوداود)، وإذا رأى أذى يلحق أحدًا من خلق الله رثى له ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه.
ومن المهم للمدرسة أن تتيقظ لبوادر الجفاء بين التلاميذ فتلاحقها بالعلاج قبل أن تستفحل وتستحيل إلى عداوة فاجرة، والمعروف أن البشر متفاوتون في أمزجتهم وأفهامهم، وأن التقاءهم في ميادين الحياة قد يتولد عنه ضيق وانحراف، إن لم يكن صدام وتباعد، ولذلك شرع الإسلام من المبادئ ما يرد عن المسلمين عوادي الانقسام والفتنة وما يمسك قلوبهم على مشاعر الولاء فنهى عن التقاطع والتدابر.
ولابد لها أن تربي الأطفال منذ البداية على بعض العادات التي تضبط سلوكهم، فلا ينفلت عيارهم، وتعودهم على الامتناع عن بعض رغباتهم التي تزيد عن الحد. على ألا تصل إلى ذلك باستخدام القسوة، فليس هدفها الانتقام من الطفل بطبيعة الحال، ولا إنضاجه على شؤبوب من النار، إنما وسيلتها هي الحب، الحب المتمثل في أسرة المدرسة والذي يربط المعلمين والفنيين والإداريين والتلاميذ، ويجعل التوجيه نصيحة لينة رفيقة حازمة في ذات الوقت تنفذ إلى القلب وتستقر في الأعماق.
والمدرسة الإسلامية هنا أمينة على محورة عواطف تلاميذها حول محور رئيسي تدور في فلكه فتتحقق اتساقها وقوتها بمدى قربها منه ودورانها في فلكه وهو حب الله. ومن الغريب أن أي حب يولد في النفوس الشحناء والتباغض والأثرة ما عدا حب الله فإنه يغذي نفوس الصادقين في حبه بالمودة والرحمة والإيثار ويضع الأسس القوية لتنمية المشاركة الوجدانية بين المسلمين، فالبداية انتظام عواطف التلميذ ووجداناته في منظومة واحدة هي حب الله وما يتصل بها من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع ما أنزل الله عليه، وفي النهاية حب الآخرين والتعاطف معهم والتماسك بهم ومعهم في أمة إسلامية قوية.
ومن الضروري كذلك أن تحرص المدرسة على تنقية وجدان التلميذ المسلم من الأوهام ومثبطات العزائم، فالمسلم الحق لا يعرف التشاؤم ولا تثنيه عن طريقه الأوهام لأنه مرتبط الوجدان بالله فلا يسلم نفسه لهواجس النفس، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد» قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ».
كما أن تلاميذ المدرسة الإسلامية بحاجة إلى أن يربوا على الاعتدال في عواطفهم فلا يتطرفون في أية عاطفة مهما كانت إيجابية حتى لا يطغيهم ذلك ويدفع الواحد منهم إلى تناسي حقوق الآخرين، قال تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}. والمراد الفرح الذي يؤدي إلى البطر والحزن الذي يوجب القنوط واليأس، أي التطرف في الفرح والحزن.
9- تربية الفتاة المسلمة وتعليمها
إن النهضة التي يفترض أن يسهم التعليم الإسلامي في إحداثها هي عملية إرادية لصياغة بناء حضاري اجتماعي متكامل، يؤكد فيه المجتمع هويته وذاتيته وإبداعه، ومن ثم فإن النهضة الراسخة والمطردة تتضمن عمليات الإبداع والتجديد كشرط لازم من شروطها.
وإذا كانت عملية الإبداع والتجديد الحضاري للأمة الإسلامية تتخذ معيار الإيمان بالله والفاعلية والموائمة، وتعبئة القدرات الذاتية للطاقات البشرية في حل المشكلات ووضع السياسات والتمكين للنهج القرآني، وشحذ الإنتاج الثقافي وإشاعة التدبير المستقبلي، فإن ذلك يتطلب مقومات أساسية في العلاقات الاجتماعية وفي مدى ما يتاح لأبناء الأمة من تفاعل وتواصل تأثير وتأثر، وذلك كله لا يتحقق إلا في إطار من المشاركة في صنع الحياة القائمة على الشورى.
وهذا الإطار الإنمائي الحضاري يلقي مسئوليات مختلفة من الأفكار والممارسات السائدة للمرأة، فدور المرأة في الإسهام في قضايا النهضة، أخذًا وعطاءًا، لا ينبغي أن يكون لمجرد اللحاق التساوي مع الرجل في أنماط تنمية استهلاكية أو استمتاع بسلع وخدمات، أو الطموح إلى الحصول على وظيفة، وإنما هو القيام بمهام حددتها العقيدة الإسلامية وتحتاج للقيام بها إلى تربية خاصة.
وقيام المدرسة الإسلامية بدورها في تربية الفتاة من هذا المنظور يقتضي وعيها ببعض ما يتعلق بالمرأة وضعًا ومكانةً وتعليمًا في العقيدة الإسلامية.
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتّى * فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى}.
ففي جمع الذكر والأنثى في القسم قرينة على نظرة الله تعالى المتساوية لهما أولًا، ويسوغ القول بذلك أن ما جاء بعد الآية الأولى من الإشارة إلى اختلاف الناس في فعل ما هو حسن صالح وما هو عكسه وتيسير الله لهم وقتها يشمل الذكر والأنثى، ويكون في هذا تقرير قرآني لمبدأ تكليف الذكر والأنثى على السواء تكليفًا متساويًا بكل ما يتصل بشؤون الدنيا والدين. ولمبدأ ترتيب نتائج سعي كل منهما وفقًا للفعل الذي يصدر عن كل منهما.
وجمهور العلماء والمفسرين متفقون على أمر مهم بالنسبة لمدى النص القرآني وهو أن كل ما جاء في القرآن من خطاب موجه إلى المؤمنين والمسلمين في مختلف الشؤون بصيغة المفرد المذكر والجمع المذكر ما يتصل بالتكاليف والحقوق والأمال العامة يعتبر شاملًا للمرأة إذا لم يكن فيه قرينة تخصصية بحيث يمكن أن يقال إن كل فرض على المسلمين فيه منح لهم أو حدد لهم أو حظر عليهم أو أبيح لهم أو طلب منهم أو نبهوا إليه أو ندد بهم من أجله من تدبر آيات الله وتفهمها والعلم بها وتنفيذ مضمونها ومن تكاليف تعبدية ومالية وبدنية ومن حقوق ومباحات ومحظورات وتبعات وآداب وأخلاق ومواقف فردية ومالية واجتماعية وما ترتب عليها من نتائج إيجابية وسلبية في الدنيا والآخرة يشمل الرجل والمراة على السواء دون أي تفريق وتمييز.
وإذا كانت المرأة مسئولة خاصة فيما يختص بعبادتها ونفسها فهي مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل والتحذير من الرذائل. وقد صرح القرآن بمسئوليتها في ذلك الجانب وقرن بينها وبين أخيها الرجل في تلك المسئولية كما قرن بينها وبينه في مسئولية الانحراف عن واجب الإيمان والإخلاص لله وللمسلمين: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}.
إذن فليس من الإسلام أن تكف المرأة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتمادًا على ظن أو وهم أنه شأن خاص بالرجال دون النساء، فللرجل دائرته وللمرأة دائرتها والحياة لا تستقيم إلا بتكاتف النوعين فيما ينهض بأمتهما، فإن تخاذلا أو تخاذل أحدهما انحرفت الحياة الجادة عن سبيلها المستقيم.
وهناك عبارة كثيرًا ما ترددت على ألسنة الباحثين وأقلامهم بحسن نية وهي ما معناه أن الإسلام أباح للمرأة أن تتعلم، فالوضع هنا وضع جواز وإباحة، والعلم والتعليم للمرأة ليس فيما نفهم من استقراء نصوص الإسلام الرئيسية من الإباحة والجواز، بل ليس حقًا من الحقوق، إنه تكليف واجب ملزم، وكل آيات العلم في القرآن لم يخص بها الرجال دون النساء. إن القرآن الكريم يبدأ بالعلم والقلم، والإنسان هنا لعامة الجنس لا للرجل دون المرأة، والله تعالى خلق الإنسان علمه البيان، فالإنسان هنا لعامة الإنسانية لا للرجل دون المرأة.
القضية هنا قضية الإيمان، ليست القضية أن الحديث قال: أن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولكن العلم من الإيمان، وما يجوز على الإيمان يجوز على العلم.
إن الله حين يضرب الأمثال يبين الآيات للذين يعلمون، للذين يعقلون، للذين يفقهون، للذين يبصرون، يضربها كذلك للذين يؤمنون في نفس الصياغة يبين الآيات ويضرب الأمثال للذين يؤمنون و{إنما يخشى الله من عباده العلماء}. (سورة فاطر: 28).
القضية هنا قضية الإيمان، فهل من المباح والجائز على المرأة المسلمة أن تكون مؤمنة أم أن ذلك فريضة وواجب وتكليف؟ إن ما يجوز على العلم يجوز على الإيمان؛ لأن العلم من الإيمان، والنصوص صريحة كل الصراحة في أن من قال إن العلم ليس من الإيمان ومن الجهاد فقد نقص عقله، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، فالعلم من الإيمان، فهل يقال فيه بالجواز وهل يقال فيه بالإباحة أم هو تكليف بل هو من جوهر إنسانية الإنسان.
وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا رائعًا في الاهتمام بتعليم المرأة، فكان لا يبايع النساء اللاتي كن في دار الشرك وجئن مسلمات حتى يمتحنهن ليعلم صدق إيمانهن: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار..}. فالمقصود هنا هو التثبت من (الدوافع) و(النية)، وهذا شرط هام ورئيسي لضمان حسن التربية.
فإذا ما انتهى الامتحان يجيئ دور البيعة وفيها يتم تعليم أهم ما يجب أن تلتزم به المرأة من حدود الله وما يجب أن تنتهي عنه من المحرمات لقبولها في المجتمع الإسلامي، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن}.
وإذا كنا نرى أن الفتاة المسلمة لها أن تتلقى في المدرسة أو غيرها من معاهد ومؤسسات التعليم مختلف العلوم والمعارف التي تريدها، إلا أنه من الضروري أن تختص بنوعية خاصة من مجالات التربية وأنواع المهارات والمعارف مما يتصل بطبيعتها الخاصة ووظيفتها الأساسية كأم وزوجة وربة بيت.
واختلاط الجنسين في التعليم من المسائل الشائكة التي واجهها العالم من قديم الزمان، ولا يزال يواجهها حتى الآن، والخشية من فساد البنات لاختلاطهن بالذكور جعلت الكثيرين يعلموهن على حدة.
ويمكن أن نأخذ ونقرر من استقراء آراء كثيرة أن الحكم في تعليم البنات والبنين معًا صغارًا قبل أن تصل الفتيات حد الاشتهاء جائز لا شبهة فيه إذ ليس هناك مظنة الفسدة ولا يكون الاختلاط سببًا إليها، وهذا ينسجم مع التعليم في الصف والابتدائية.
أما التعليم المختلط بعد ذلك أي قرب نضوج الفتى والفتاة وفي سن البلوغ الذي يسمى بالمراهقة، فلا يصح.
ثالثًا، مدى تحقيق الأهداف (الإمكانية والواقع)
المفروض - في المجتمع المسلم الذي يتحاكم إلى شريعة الله ويطبق منهج الله - أن تكون المدرسة إسلامية، بمعنى أنها تربي تلاميذها ليكونوا مسلمين صالحين، وتتمشى مع التربية الإسلامية التي بدأها الطفل في المنزل، وتسير بها خطوات جديدة نحو الاكتمال. بل المفروض - وفيها مدرسون متخصصون في التربية أن تصحح وتقوم ما عسى أن يكون البيت المسلم قد نسيه، أو لم يحسن التوجيه فيه، فليس كل الآباء موهوبين في فن التربية، وليس كلهم على المستوى المطلوب من حسن التصرف وسعة الإدراك والمرونة اللازمين لعملية التربية، أما المدرسة فتلك وظيفتها الأولى: أن تربي على منهج من التربية مدروس ومفصل ومؤصل، وللمدرسين به خبرة وعلم.
فإذا ما تساءلنا عن إمكانية تحقيق المدرسة الإسلامية لهذه الأهداف التي أسلفنا شرحها فإن الإجابة الفورية هي بالإيجاب، لا اندفاعًا حماسيًا تحركه العاطفة المشبوبة، وإنما لأننا كنا بإزاء أهدافٍ مستمدةٍ من التوجيه القرآني والهدي النبوي، وإذا كان ذلك كذلك، فإن (الإمكانية) قائمة ومتوفرة، ولكن في المبادئ نفسها أما الواقع الذي تعيشه المدارس فممتلئ بعدد من العقبات والظروف المعاكسة التي يستحيل إزاءها أن نكتفي بما تحمله المبادئ والأهداف من إمكانية التحقيق لنتصور أنها بالضرورة ستجد السبيل سهلًا ميسورًا إلى عالم التنفيذ ودنيا الواقع، من هذه العقبات والظروف المعاكسة:
- فللدولة نظامها التعليمي الذي يتضمن مراحل محددة الأهداف، والمدى الزمني اللازم لإتمام كل مرحلة، والمقررات التي تتضمنها، والامتحانات، والشهادات التي تمنح، ولابد من الالتزام بها على الرغم مما قد يحويه هذا النظام من سلبيات وأوجه قصور تربوي، هذا فضلًا عما هو معروف من أن هذا النظام قد نشأ وترعرع في ظل الاستعمار مما يجعله متعارضًا في بعض جوانبه مع التوجه الإسلامي الأصيل.
- فإن طلاب هذه المدارس مطالبون بأن يتولوا أعمالًا سواء في مجالات الخدمة أو الإنتاج في المجتمع الذي ينتسبون إليه قانونًا مع ما هو معروف من أن نظمه القائمة قد تتغاير في بعض مظاهرها وقواعدها وأشكالها مع ما هو مطلوب إسلاميًا.
- أن الفترة التي يقضيها الطلاب في المدرسة الإسلامية يدور متوسطها في أغلب الأحوال حول ست أو سبع ساعات وهذا يعني أن الكم الزمني الأكبر من يومهم يقضونه خاضعين لمؤثرات أخرى تأتي في مقدمتها وسائل الإعلام التي تقدم كثيرًا مما لا يتفق مع ما تقدمه هذه المدارس وتهدف إليه.
- أن العمل في المدارس الإسلامية يتطلب بالضرورة كوادر بشرية على قدر عال من التأهيل ذي الأبعاد الثلاثة: البعد العلمي التخصصي - البعد التربوي النفسي - البعد العلمي الديني. وهناك نقص في هذه الكوادر في الوقت الحالي سواء من الناحية الكمية أو النوعية.
- يتعرض الطلاب، وخاصة في مرحلة المراهقة إلى عواطف نفسية قد تسبب اضطرابات في سلوكهم وقلقًا يعرقل العمل المطلوب، خاصة وهم محاطون فى المجتمع الخارجي بعديد من المظاهر وأيضًا السلوكيات التي تدعم صور الانحراف وأشكاله.
خاتمة الدراسة
فإذا كان أي منهج في الأرض يحتاج أن يكون المعلم الذي يقوم بالتربية على مقتضاه متشبعًا به، مؤمنًا بما جاء فيه، متحمسًا لتطبيقه، وإلا فلن يرجى منه أن يطبقه بإخلاص ولا أن يؤتى ثمارًا حقيقية على يديه.
إذا كان هذا هو الشأن في أي منهج تربوي مطبق في أي مكان في الأرض، فالمنهج الإسلامي هو أولى المناهج جميعًا يكون كذلك؛ لأن ذلك أصل من أصوله العميقة: أن يكون قول الإنسان وعمله متطابقين: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
ثم إن الإسلام عقيدة، كما أشرنا مرات عديدة، في الوقت الذي هو نظام حكم، ونظام مجتمع ومنهج تربية، وقد يصلح في أي شيء أن يؤدي الإنسان عمله على طريقة (تسديد الخانة) إلا في العقيدة. ومقتضى ذلك كله أن يكون المعلمون في المدرسة الإسلامية مسلمين، لا مسلمين بأسمائهم وشهادات ميلادهم، فهذه إن أغنت في أي مكان - وهي لا تغني - فلن تغني في المدرسة بصفة خاصة، حيث المجال هو التربية، والتربية في حاجة إلى إيمان حقيقي بالمنهج، وليس إلى التظاهر بالإيمان به أو ادعاء الإيمان.
ومع كل هذا الذي نقول، فإننا ندرك تمام الإدراك أن هناك ما هو أشد خطرًا من المعلم ألا وهو (المسرح) أو بمعنى أصح (الرحم) الذي تتخلق فيه العملية التربوية، ويكتسب داخله التلاميذ شخصياتهم الإنسانية التي تحدد الصفة التي يكونون عليها في الحياة ونعني بذلك المجتمع. لكننا ندرك في الوقت نفسه إمكانات المدرسة، فهي لا ولاية لها ولا سبيل لديها كي تغيرا من البنية الكلية للمجتمع في نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية كي يكون (إسلاميًا)، ولكنها تستطيع أن تسهم في ذلك عن طريق تنشئتها لتلاميذها على النهج الإسلامي، وهذا لا يتم إلا بوجود هذا المعلم الذي يتمثل هذا المنهج فكرًا وسلوكًا.
.